السيدة التي هزمت الشيخ البذيء



عادل صوما
2021 / 7 / 11

بلغ مدّ صبغ حياة سكان مصر بالصبغة الصحراوية التي لا تناسب جغرافيتها وتاريخها وثقافتها أو مكانتها في تاريخ أديان وأساطير الشرق الأوسط، حد التهجم على جيهان رؤوف زوجة أنور السادات بقول شيخ بذيء عنها من على منبر الجمعة داخل المسجد أنها لا تستحق لقب سيدة مصر الأولى بل سيئة مصر الأولى، وقد صب الشيخ البذيء غضبه بالسجع المُقفى لأنها كانت أول زوجة رئيس أو ملك في تاريخ مصر الحديث تخرج إلى دائرة العمل العام وتٌشرف على عملها في المجتمع بنفسها، وتُقابل وتصافح الرؤساء مع زوجها وتشاركه كسيدة عصرية منفتحة بروتوكولات زياراته ومراسيم استقبالاته، وقد نالت استحسان وتقدير الرؤساء الاجانب وحتى البابا يوحنا بولس الثاني الذين لاحظوا فيها شيئاً مختلفاً عن باقي زوجات الرؤساء العرب.
لا يستحق الشيخ البذيء ذكر اسمه، فهو مجرد أداة لا تفكر ولا تفهم ولا تتطور بل تتوعد وتهدد دائما. أداة من أدوات سعت ونجحت في تحجيب مصر، عن طريق تحجيم السيدة الأولى ودفع الرئيس إلى عدم اصطحابه زوجته معه في المناسبات الرسمية، أو جعل جيهان السادات تذعن تحت وطأة هجوم المنابر عليها وتضع على الأقل غطاء رأس خفيف على شعرها.
وما قاله الشيخ البذيء كان ضمن حملة ممنهجة لتحجيب الشخصيات النسائية العامة في مصر، بالترغيب أو الترهيب أو غسل العقل. كما استُعمل السلاح نفسه ضد الجامعيات فكانت الترقيات ورئاسة الأقسام تُعطي دائماً للمحجبات.
حقل الألغام
جيهان السادات لم تزعن رغم شراسة الحملة عليها، لكن يبدو أن الحملة الشرسة التي استهدفتها، لأنها لا تظهر بشكل يليق بحاكم أعاد الإخوان المسلمين إلى الواجهة ويقول عنه نفسه "الرئيس المؤمن" وأنه "يحكم بلدا إسلاميا يقطنه بعض الأقباط"، وعلى زوجها بسبب قراره بتحجيم الإسلام السياسي الذي قال عنه قبيل اغتياله بشهر "مفيش أنصاف حلول"، جعل حتى أنور السادات يبتعد عن سكنه مع زوجته، كما ذكرت بعض التقارير الاستخبارية العالمية، ليبعدها إلى حد ما عن مشاركته في الظهور علانية، لأن جيهان السادات كانت شخصية قوية لا تلين. وهذا تفسير شخصي.
جيهان السادات كانت أول زوجة رئيس مصري تعمل بشكل مكثف يومي في خدمة المجتمع، وأسست عددا كبيرا من المشروعات المهمة لخدمة الشعب منها مشروع تنظيم الأسرة، وتأسيس جمعية الوفاء والأمل، ودعمت الدور السياسي للمرأة وذهبت إلى مربط الفرس حين شجعت تعليم المرأة المصرية وحضت واستعملت نفوذها لتحصل المرأة على حقوقها كاملة في المجتمع المصري ما بين 1970 إلى 1981، ثم دخلت حقل الألغام حي عدلت بنفوذها بعض القوانين في مصر ومنها قانون الأحوال الشخصية الذي لا يزال يُعرف حتى الآن باسمها "قانون جيهان"، وورد في هذا القانون أن الشقة من حق المُطلقة، لأن ما كان يصلح في عصر العيش في الخيم لا يصلح في عصر المدن الكبرى والشقق التي لا تستطيع المرأة أن تشتريها بعد الطلاق.
أم الأبطال
عملت جيهان السادات بدون كلل على علاج مصابي حرب أكتوبر والعناية بهم بعد الشفاء أو الإعاقة، وكانت تقوم بنفسها بنقل زوجات الطيارين الذين كانوا يُنقلون لمطارات بعيدة عن أماكن إقامتهم حرصاً على أن يكن بجوار أزواجهن، وأنشأت جمعية الوفاء والأمل في مدينة نصر، من أجل كل المصابين في العمليات الحربية، لأنها كانت تسعى لإقامة مدينة متكاملة تشبه مثيلاتها في أوروبا لعلاج مصابي الحرب وعمل بعض المعاقين فيها، وسافرت إلى أوروبا مرات كثيرة لتطلع على كافة التجارب التي لجأت إليها دول القارة للتعامل مع مصابي الحروب وكيفية عمل مدن متكاملة لهم يعيشون فيها وتناسب حالاتهم، ما جعلها تحظى بتقدير مؤسسة الجيش المصري التي اطلقت عليها "أم الأبطال".
وثقّت جيهان السادات "ظروف أنور السادات وسلوكياته ومعنوياته" قبل وخلال حرب أكتوبر وزيارته التاريخية إلى إسرائيل ومباحثات السلام التي أجراها مع مناخم بيغن، وكانت الدعم المعنوي الأعظم له أثناء مفاوضاته العسيرة العلانية غير المسبوقة مع إسرائيل، وتعرضه في الوقت نفسه لنقد "منظرو مقاهي العروبة" و"حواة وسماسرة السياسة" و"مستثمرو القضية الفلسطينية" علاوة على الرؤساء المفلسين الذين جلسوا على كراسيهم وأذلوا شعوبهم وأفقروهم لفترات تصل إلى أربعين سنة من أجل تحرير فلسطين.
قالت بعض القنوات "اليوتوبية" عن جيهان السادات بعد وفاتها أنها المرأة البريطانية التي حكمت مصر بالرقص والخمر، وما لا شك فيه أن هذه القنوات تنتمي إلى فكر مدرسة الشيخ البذيء التي تعيش شيزوفرانيا تاريخية لا علاج لها، فهي تستفيد مما يقدمه كل عصر وتريد أن تعيش به في أجواء القرن السابع الميلادي.
شيزوفرانيا الهجوم على الأشخاص دينيا لبث الرعب في نفوسهم واضحة، فلم نر جيهان السادات ترعى أي حفل راقص ولم نرها ترقص في أي مناسبة، كما يستحيل على شخصية مثلها كانت تعمل أكثر من 12 ساعة يومياً أن تعاقر الخمر، الذي يعاقره معظم الشيوخ الوقحين ليضاجعون زوجات أصغر منهن عمراً بمساعدة "الفياغرا" الحلال.
جماعة المسيح
ثبات وقوة شخصية جيهان السادات وصلت ذروتها لحظة اغتيال زوجها أمام عينيها، فقد أبلغت بنفسها النائب حسني مبارك، الذي كان يجلس في غرفة انتظار المستشفى حيث يعالج السادات، نبأ وفاة زوجها وقالت له: " ذهب أنور السادات، ولم يعد حياً، لكن مصر لا تزال حية، وقد انتقلت المسؤولية إليك الآن". كما شاركت في جنازة زوجها بكل شموخ وتجنبت السلوك الرخيص المتوارث للأرملة المنكسرة، وفسرت لأحد الصحافيين سبب حضورها جنازة أنور السادات وهي بكامل مكياجها كرد على الشامتين في اغتياله بين عناصر الجيش المصري.
لم تنس المؤسسة العسكرية وعلى رأسها عبد الفتاح السيسي أعمال ومواقف جيهان السادات، وأقيم لها جنازة عسكرية كاملة المراسم كرئيس جمهورية، والغريب أن الشيخ المنافق الذي أمّ الصلاة على جثمانها قال عنها " شهيدةٌ.. بإذن الله تعالي.. لحقت بشهيد" وعلى طريقة السجع الذي يخدّر السامع حتى لا يفكر في المعنى أضاف "وحبيبةٌ لحقت بحبيب".
أنا أتفهم نفاق الشيخ بقوله أنور السادات شهيد، رغم أنه (ربما والله أعلم) من المدرسة التي قالت أنه "خرج عن إجماع الأمة"، لكن كيف استشهدت جيهان السادات بإذن الله تعالى؟ ولماذا ينافق بهذه الطريقة الرخيصة؟
عاشت جيهان السادات بعيدة عن هذه الأجواء التي تحث على التخلّف والنفاق والتعريض والتقية والانتهازية وكراهية الآخر رغم الاستفادة منه، ولم تذعن ولم تأبه بما يُقال عنها على المنابر، وكانت نموذجاً لا يُشبه أي من زوجات ملوك ورؤساء مصر، والمؤكد أن ارادتها الفولاذية كانت وراء كل قراراتها بدءاً من زواجها بمُطلق لديه بنتين ومفلس مطرود من الجيش هو أنور السادات، مروراً بكل الأيام الصعبة في حياته ولحظة اغتياله، حتى مواجهتها مرضها المميت بشجاعة.
حصلت جيهان السادات على عدد من الجوائز الوطنية والدولية للخدمة العامة والجهود الإنسانية للنساء والأطفال، وتلقت أكثر من عشرين درجة دكتوراه فخرية من جامعات وطنية ودولية من مختلف أنحاء العالم، كما حازت على جائزة "جماعة المسيح الدولية للسلام" سنة 1993، وفي سنة 2001 فازت بجائزة Pearl S. Buck الدولية، وهي مؤسسة تعني بالتعرّف على الحضارات واكتشافها وبناء مستقبل أفضل للأطفال حول العالم.


*وصف "الشيخ البذيء" قاله أنور السادات في خطابه في 5 أيلول 1981، وأضاف في نهاية الجملة بنبرة تحد "وهو مرمي زي الكلب في السجن وخلي حد يتكلم".