هل يمكن تحجيم الشهوة ؟



أحمد هيكل
2021 / 7 / 25

بذهب عدد من علماء النفس فى عصرنا الحديث إلي أن ثمة وسائل وطرقا عدة يمكنها تحجيم الغرائز والتسامى بها، ومنها الموسيقى وممارسة الرياضة، كما أن عددا من العلماء العارفين بالله قد عدوا الرياضات الروحية نوعا من مغالبة الشهوات وقهر الملذات. فهل يستقيم هذا الادعاء وتصدُق تلك الدعوى؟
ممَّا لا شك فيه أنَّ الممارسات السالفة الذكر لها دور لا يُنكر فى الارتقاء بالنفس والسموّ بها فوق الشهوات والملذات، ولكن هذا لا يعنى بحال أنها تمثل علاجا فعَّالا أو دواء ناجعًا للشهوة الملتهبة المستعرة فى جوانج الإنسان، فهى قد تشكل حلا مؤقتا أو إرجاء للمشكلة، بما لا يُعدُّ حلا حقيقيا لها أو مواجهة فعَّالة لجزئياتها وتفاصيلها، فأنت عندما تمتنع عن الطعام والشراب، أو تمارس الرياضة، أو تجتهد حتى فى تحصيل اللذات الروحية واكتساب المعارف الإلهامية، فإنك لا تعالج الكبت أو جموح الشهوة، بل تخلق من الأجواء وتهيئ من الظروف ما يحتوى هذه الرغبات ويلجمها إلى حين!
لكن ممَّ ينشأ الكبت؟ ينشأ الكبت من تعريض النفس لأنواع عديدة من الإثارة، ثم غلق الباب أمام تنفيس الرغبات الجامحة الناتجة عن تلك الإثارة. وقد اتفق علماء النفس على أن تأجيل تنفيذ تلك الرغبة لمدة قصيرة، لا يعدُّ كبتا أو قمعا للرغبة الجنسية، لكن الكبت عندهم هو المنع المطلق أو فرض القيود الدائمة على النشاط الجنسىّ الطبيعىّ، أو اضطهاد أصحاب التوجهات والميول الجنسية ومنعهم من التمتع بحقوقهم التى منحتها لهم الطبيعة والتصقت بأصل تكوينهم . والكبت - بهذا الوصف- هو وضع ظل ملازمًا للإنسان على مرِّ العصور؛ إذ تفننت الحضارات المختلفة فى خلق الحواجز وإقامة الموانع التى تحول دون اكتشاف الإنسان لِذَاته؛ لأن إشباع هذا الجانب هو من الضرورة بحيث يستقبل الإنسان حياته بعزم وقوة، وبدون ذلك يظل متخبِّطا حائرًا تائها لا يعرف نفسه. ويتمثل الكبت بصورة عملية فى القوانين والتشريعات التى تحظر ممارسة هذا الحق دون اعتراف المجتمع والسلطة ومباركة الأهل والقبيلة، فيما يمثل اعتداء على حق أصيل من حقوق الإنسان بما أنه إنسان. فقد وضعت القوانين فى الأصل من أجل حماية حقوق الإنسان وحرياته، فإذا انتهك القانون هذه الحقوق والحريات، فقد فقد ميزته الأخلاقية والإنسانية التى وضع لأجلها، ومن ثمَّ ينهار العقد الاجتماعى بين السلطة والشعب.
ولما كانت حرية الجسد من البديهيات المُقرَّرة فى ثقافة كثير من الشعوب المعاصرة، بفضل ما أحدثته الثورة الصناعية من انقلاب فى المفاهيم والتصورات، كان لهذه الحرية - كأىِّ شيء آخر- أضرار ناجمة عنها، فقد أدى السفور والعرىّ الذى بلغ حدَّ الشطط إلى إثارة ما كمن من الشهوات وما خمد من الغرائز، وقد كان عمل الحرية هاهنا هو إظهار الجانب الحسى الغريزى فى النفس البشرية بقوة، وقد بدا ذلك ليس فقط فى السلوكات الاجتماعية، ولكن على مستوى الأدب والفن، إذ ظهرت أشكال وألوان من الإبداع المرئىّ والبصرىّ تجسِّد شهوات النفس البشرية فى أجرأ وأوقح صورها، وتبرز أحط الجوانب فى النفس البشرية.
ومن ثمَّ لم يكن هناك من سبيل أمام الغرب إلا استيعاب الإفرازات الطبيعية الناتجة عن الحرية بمفهومها الشامل. فلم يكن السؤال المطروح أمامهم هو : كيف نحجم الحريات؟ بل كيف يتم احتواؤها ودمج ما يتمخض عنها من ظواهر فى صلب المنظومة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية للمجتمع، وليس بنبذها ورفضها، وخلق صراعات أخلاقية فى المجتمع. وهذا هو الفرق بيننا وبينهم، فطريقتنا فى التعامل مع المشكلات الاجتماعية وبالأخص منها الأسرية والعائلية، هو محاولة السيطرة عليها عن طريق الإخفاء والتجاهل والتكتم والسرية فى التناول أو الحل، بينما يصر الغرب على استخدام منهجية الضبط والتقنين والمواجهة الحقيقية للمشكلة بدلا من إخفائها أو المواربة فى الإعلان عنها أو عن تفاصيلها !
وبهذه الآلية استطاع الغرب منذ مطلع نهضته أن يقى المدنية شرًّ معاندة الطبيعة، ومغالبة تيَّارها الجامح، فمن الخير ألا يحارب الإنسان عواصف التغيير، وإنما يجتهد بدلا من ذلك فى ضبط ما يستجد من المعاملات والظواهر الاجتماعية.
فبدلا من أن يحارب العلاقات الحرة وينشغل بقمعها، سعى بكل السبل الممكنة إلى محاربة ما قد ينتج عنها من أمراض، كما اتجه قدر الإمكان إلى وضعها فى سياقاتها وأطرها الطبيعية، بحيت تجد لها متنفسا سليما، يبعُد بها عن مخاطر الأمراض المنقولة جنسيًّا (sexually transmitted diseases) . وتجريم العلاقات الجنسية لا يمنعها ولا يقضى على شرٍّ مستطير كما يُخيَّل للمشرِّع أو القانونىّ، بل إن هذا يزيد سعار الجنس ونهم الشهوة؛ إذ كل ممنوع مرغوب فيه، والنفس تهوى ما يُحبَس عنها، وتميل إلى ما يُحرَّم عليها. فبدلا من أن يتجه الشباب إلى تعاطى المخدرات أو الانضمام إلى منظمات الجريمة والعنف، بفعل طاقة الغضب التي يولدها الكبت والحرمان الجنسىّ(وهذا ثابت بالدراسات والتقارير العلمية والبحثية)، يفرغ طاقاته فى علاقات إنسانية سوية، فيكون المولود حُبًّا وسلامًا لا بغضًا وكراهية.
وفى الحقيقة، ليس هناك شيء يمكن أن يمنع الرغبة الجنسية أو يخمدها مطلقا، فلا تغطية الجسد تجدى، ولا تعريته بالتى تتسامى بالغريزة مطلقا، فالشبق الجنسىّ موجود حتي ولو مشت المرأة فى كفن، لأن الغريزة ملازمة للإنسان منذ طفولته، تصحبه فى صحوه ونومه، فى يقظته وشروده، ولا وجه للقول بأنَّ العرىّ يتسامى بالغريزة بشكل مطلق أيضاً؛ فمعظم من قالوا ذلك قد بنوا هذه الآراء على محض تجاربَ فردية، وهى إن كانت تصح جزئيا فهى لا تطرد فى كل الحالات أو تصلح قانونا عاما يحكم النظرة الكليَّة إلي الجسد، فبعض الناس قد يرى الجمال المجرد من الشهوة وبعضهم قد يرى الجنس المجرد من كل نظرة فنية أو ذوق أدبىّ، وبعضهم قد يري الجمال حينا والشهوة حينا آخر، وسبب ذلك معروف، وهو أن النفس البشرية لها طابعان أساسيان متناقضان: طابع مادىّ شهوانىّ بحت، وطابع إنسانىّ معنوّى، ويتجلى كلا الطابعين فى مواقفَ مختلفة، وبحسب السياق والجوِّ المحيط بكل موقف، فنفس الشخص الذى قد يعامل امرأة معاملة قائمة على الاحترام والنظرة السوية الراقية، قد نجده يتقلب فى علاقات جنسية فى أحايين كثيرة. وقد تنقلب النظرة تمامًا، فلا يرى الإنسان فى الجسد إلا الجمال الفنىّ، فمن يتابع فن الباليه لا يسعه إلا أن يبدى إعجابه بجمال الحركات ورشاقة الأداء، ويندر أن تجد من بين المتابعين من تحركت شهوته وثارت غريزته، لأن المقام هنا ليس مقام غرائز هائجة أو شهوات منفلتة. كما أن الحاضرين فى مسابقات غطس وقفز السباحات أو لاعبات التنس أو كرة الطائرة أو الجمباز الإيقاعىّ لا يشد إعجابهم أو يلفت انتباههم عرىّ أجساد النساء بقدر ما يأسر قلوبهم تناسق الأجسام ومهارة القفز والحركة بأرجاء المكان.
والمشكلة الحقيقية التى تجعل العرب والمسلمين فى خصام حقيقى مع الحضارة السائدة، هى الفصل بين مظاهر الحضارة الغربية وروحها، هذا الفصل الذى أنتج لنا فى الواقع تجربة اقتباس مشوَّهة، فالأخذ بمظاهر الحضارة من أزياء وتقاليع، ينبغى ألا ينفصم عن الفلسفة والرؤية الحضارية التى تقف وراءه، فهذه الأزياء المتحررة هى ثمرة الأفكار التى حررت الجسد من قيود وألوان العبودية القديمة، إذ أصبح جسد الإنسان ملكا له وليس ملكا للمجتمع أو القبيلة أو الأسرة، ومن ثمَّ فإن الاحتفاء بتحرر الجسد من الأزياء التقليدية بدون تحرر الإرادة الفردية وامتلاك الذات والحرية الشخصية، هو مجرد تحرر شكلىّ. ببساطة: لا يمكن أخذ بعض أشكال الحرية واعتبارها لبَّ المسألة، بينما جوهر البناء الطبقى العبودى الذى يقيد الاختيارات الشخصية ويقمع الميول والتوجهات الفردية لا يزال راسخًا مستقرًّا. ولذا فإن تجربة الحرية لا تصلح إلا إذا طبقت بشكل متكامل، والحرية هنا تعنى امتلاك الحق فى فعل ما نريد بدون إلحاق الأذى بالآخرين.
ومن الملاحظ أن المجتمعات ذات الحريات مثل فرنسا وإيطاليا والسويد وغيرها، هى مجتمعات لا تشكو من المشاكل الاجتماعية والإنتاجية والأخلاقية بنفس الزخم الذي تشكو منه المجتمعات المحافظة، كما نلاحظ أن مستوى الرفاهية أعلى بكثير بالقياس إلى المجتمعات المحافظة. فحيثما وجدت الحرية وجدت السعادة، وحيثما انتزعت حلَّت الكآبة وساد العبوس والتجهم .