حول النهوض بالمرأة في المجتمعات العربية



فهد المضحكي
2021 / 7 / 31

رسم الفكر الإصلاحي في الوعي العربي الملامح الكبرى لصورة المرأة الجديدة المنتظرة في مجتمعاتنا، المرأة المتعلمة، المرأة العاملة، المرأة المطالبة بتشريع لا يُخل بآدميتها، ولا يجعلها عالة على أحد، وتعززت الصورة بمدارس البنات والمدارس التي أباحت الاختلاط، وتم تدعيمها بالصحافة النسائية المتخصصة والجمعيات النسائية، كما تعززت بالرائدات والرواد من المبادرين إلى العمل على فك الحصار المضروب على النساء والفتيات في واقعنا العربي، وقد بذل الوطنيون في الدول العربية جهودًا كبيرةً وهم يشجعون بناتهم وزوجاتهم واخواتهم على الانخراط في افعال التحرير التاريخية الكبرى، من قبيل مناهضة الاستعمار، حيث شارك كثير من النساء في المظاهرات المنددة بالهيمنة الاستعمارية ومظاهرها المختلفة.

هذا ما ذكره د. كمال عبداللطيف في كتابه «أسئلة» الحداثة في الفكر العربي من ادراك الفاروق إلى وعي الذات، معتبرًا أن الفقرة السابقة وما تتضمنه من إشارات مختزلة، لا تستوعب مختلف صور التحول التي واكبت عملية إطلاق ورش النهوض بالمرأة والفتاة في المجتمعات العربية، كما إن العناصر المستعرضة فيها لا تعبر عن مختلف المخاضات والمعارك، ومختلف المهنات التي لحقت كثيرًا بالطلائع النسائية وهن يمارسن لأول مرة أفعالاً محظورة في تاريخ هيمنة الرجال على تركيب آليات عمل المجتمع والأسرة والدولة.. إلا أن ما حصل يعد نتيجة فعل تاريخي متدرج ومواكب لتقاطع عوامل عديدة، فعل يمارس ويكثف بصورة رمزية في ممارسة ما سيتحول بعد عقود من الزمن، إلى ايقاع تاريخي اكثر انتظامًا وأكثر التحامًا بأسئلة واقع متحرك، رغم كل مظاهر البطء والتعثر في حراكه.

لا يمكن أن نغفل هنا الإشارة إلى الدور الذي مارسته الدولة الوطنية في بعض الدول العربية بعد الاستقلال السياسي، الذي شمل أغلب هذه الدول في العقد الأول من النصف الثاني من القرن العشرين، حيث حرصت على إدخال إصلاحات مكافئة في تقديرها نوعيات التحول التي عرفها المجتمع العربي.

لقد أثمرت جهود مئة سنة من بناء صورة جديدة للآخر في الذات، بفعل ما اعتراها من تغير داخل دائرة الأزمنة الحديثة، مجموعة كبيرة من عناصر التحول الفعلي في موضوع علاقة النساء بالرجال، ورغم بطء التحولات وتعثرها، بل اقتصارها على عناصر بعينها وإغفال أخرى، فإن التحول أصبح أمرًا واقعًا، لم تنكسر قيود التقليد الفقهي، ولم يتخلص الوجدان من تركه توزيع الأدوار بما يرسخ المراتبية والدونية وسط المجتمع، إلا أن ما حصل ساهم في نقل الموضوع من دائرة المحرم إلى دوائر التاريخ المشرعة على المستقبل، على صورة الفرنساوية كما تمثلها ذهن الطهطاوي قبل ما يزيد على قرن من الزمان، وما تلاها من متغيرات جديدة متمثلة في الثمار التي تحققت بعد حصول أغلب الأقطار العربية على استقلالها السياسي، ساهم في تطور الوعي والواقع الاجتماعي النسائي في المجتمعات العربية.

إن الفعل الاجتماعي الجديد المواكب للتحرك الاجتماعي المتصل بقضايا المرأة، لا يتمثل في تبني بعض الدول الوطنية مشاريع النهوض بواقع المرأة في المجال التشريعي ومجالات العمل العام، بل يتحدد في الخطوة المؤسسة التي نقلت العمل المطلبي النسائي من مستوى العمل المرتبط بالتنظيمات الحزبية إلى عمل مفتوح على قضايا النساء، عمل مستقل برؤيته الخاصة، ومنفتح في الوقت نفسه على آليات النضال السياسي الوطني بهدف تغيير المجتمع، وتغيير أوضاع النساء بما يكفل حقوقهن ويرعى كرامتهن وآدميتهن.

لقد تبلورت عشرات الجمعيات الحقوقية والخيرية والاجتماعية داخل فضاء العمل النسائي العربي بمعناه الواسع، وتعمق هذا الفعل بفضل انخراط النساء ايضًا في العمل السياسي والحقوقي وفي ميادين لا علاقة لها بقضايا النساء أيضًا في العمل السياسي والحقوقي وفي ميادين لا علاقة بها بقضايا النساء على وجه الخصوص، وقد ساهم الحضور النسائي داخل هذه الجمعيات في ما يمكن من أن نسميه إعادة تأهيل وإعادة تربية المجتمع على قبول الحضور النسائي الفاعل، لكي لا تظل معيارًا مطلقًا، ولتحل محلها في التاريخ الجديد أفعال أخرى، تمنح الصورة فضاء أرحب للفعل والاجتهاد والإنتاج والإبداع.

فإذا كان كما يقول كمال واكبت هذا الفعل التاريخي في زمن لاحق، أفعال أخرى وسعت دائرة الحلم بمجتمع يعي أن سوق العمل والإنتاج لم يعد حكرًا على الرجال، وواكبته ايضًا نظريات اقتصادية جديدة في باب التنمية، وتحولات في النظام الدولي، وثورة في مجال الإعلاميات، فإن ما نتج عن كل ما سبق، منظور جديد للعمل الدول في مجال قضايا المرأة وقضايا أخرى ذات صلة بالمجتمع في الحاضر الكوني.

ومن هنا إن النهوض بالمرأة في الدول العربية لم يكن ممكنًا من دون تداخل عوامل يصعب حصرها كليه، أي نحن نتحدث في هذا الاطار عن دور المجتمع الأهلي، وعن أدوار بعض الحكومات، لكن لا يمكننا أن نغفل دور منظمات المجتمع الدولي، الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية التي أعلنت 1975 سنة دولية من أجل المرأة.

تميزت هذه اللحظة في تاريخ العمل النسائي بمحاولة تخطى الصورة التي رسختها دعوات تعليم النساء، والصورة النمطية التي رسختها مطالب إصلاح التشريعات في موضوع الزواج والطلاق والتعدد، وأصبح متغير التنمية ثم التنمية البشرية والمؤشرات المتصلة بهما، والمتمثلة في الفقر والبطالة والصحة والتغذية.. الخ بمثابة عناصر مركزية في عمليات التفكير الجديد في نهضة المرأة وتحسين أوضاعها.

يستطيع المتابع لمعارك النساء في الوطن العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي أن يدرك إن استراتيجية جديدة تنشأ في الأفق، وان النساء في الدول العربية قد ارتبطن بشبكات المجتمع الدني والمنظمات الإقليمية في العالم، طورن خطابهن وركبن جبهات محددة للعمل، قصد اختراق جدران الهيمنة العالمية والسميكة الجاثية على المجتمع العربي، بالرغم من كل التحولات التي عرفها بفضل ما راكمته تجارب العمل النسائي العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وبفضل دروس الصورة التي رسمها رواد الإصلاح للمرأة العربية القادمة من فضاء آخر، فضاء أسهم ويسهم في تركيب ملامحنا، ونسهم نحن في تلوين ملامحه في ضوء أسئلتنا وإشكالات الطور الانتقالي المركب الذي تمر به مجتمعاتنا، ونحن نواجه التأخر والاستعمار وتحجر الذهنيات وصلب ظواهر المجتمع في داخلنا المعتقل والمضطرب.

ومن هذا المنظور ثمة محاولات عديدة لتطوير الفكر العربي، وتعزيز مسارات الروح النقدية داخله.

وتبلورت في هذا السياق مشاريع نظرية في نقد العقل العربي، ونقد آلياته في التفكير والعمل، وقد عزز هذا المنحى بروحه النقدية الاختيارات الرامية إلى تكسير الفقه التقليدي وأدبيات التراث التي نسجت لرعاية وحماية التصورات المراتبية في علاقة الرجال بالنساء، فكما إن أدبيات التراث لا يمكن أن تسعفنا اليوم في تطورات سياسية مناسبة لطموحاتنا في التغيير السياسي والاجتماعي، حيث ينبغي توطين أدبيات سياسية جديدة قادرة على استيعاب أسئلتنا وواقعنا الجديد، فإن الأمر نفسه ينطبق على التصورات التراثية في موضوع المرأة والمجتمع.