الست أمينة: بين انجيلكا هيلي وسالمة المغربي..



السيد إبراهيم أحمد
2021 / 8 / 4

لقد عكف الأديب العربي العالمي نجيب محفوظ عددًا من الأعوام التي بلغت الأربعة في كتابة "ثلاثيته" الشهيرة، وعددًا من الأعوام سبقت الكتابة أمضاها في الإعداد والتخطيط حتى كون من الأحداث والشخصيات "أرشيفا"؛ فقد أعد لكل شخصية ملفًا خاصًا بها حتى يحتفظ بملامحها وصفاتها، ومن أبرز تلك الشخصيات "الست أمينة" التي عبرت الحدود الزمانية والمكانية واللغوية حتى استقرت في القلوب والعقول والأذهان، بل صارت مضرب الأمثال في النزاعات الزوجية مثلما صارت موضع البحث والدرس والنقد ليس في الشرق وحده بل في الغرب أيضا لصدور العديد من الترجمات والدراسات عنها خاصة بعد "نوبل".

لعل من أهم الأسباب التي دعت إلى اختيار الناقدة الألمانية دكتورة "انجيلكا هيلي" هو اهتمامها بنقد أدب نجيب محفوظ من منظور نسوي؛ فمعظم النقاد يقرأون أعمال محفوظ من منظور اجتماعي أو منظور سياسي أو من خلال استعراض رحلته من الرمزية إلى الصوفية أو من المنظور التاريخي، كما تقر الدكتورة سناء صليحة أن هذه القراءة النسوية هي المرة الأولى، على حد علمها، وجيد أن الدكتورة صليحة استثنت من خلال حوارها مع هيلي، لأنه على الرغم من أن دكتورة انجيلكا تقرر بعد قراءتها لثلاثية محفوظ أن "أمينة" هي بطل العمل الحقيقي، وأنها تمثل الخيط الذي يربط الثلاثية منذ بدايتها إلى لحظة النهاية، إلا أن الدكتورة لطيفة الزيات قد سبقتها منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم حين رأت في مقالتها "المرأة في أدب نجيب محفوظ" أن الثلاثية تبدأ بأمينة وتنتهي بأمينة؛ فهي تبدأ وأمينة تنتظر في منتصف الليل عودة الزوج أو السيد أحمد عبد الجواد، وتنتهي وأمينة تحتضر.

والسؤال لماذا اهتمت انجيلكا بالست أمينة؟ والإجابة تكمن في كونها تستعرض عبر دراسة لها أوجه التشابه والاختلاف بين الأديب العربي العالمي نجيب محفوظ، وأيقونة الإبداع الألماني بل عميد الأدب العالمي المعاصر "جونتر جراس" وهما يحملان جائزة نوبل وإن كان نجيب أسيق لحملها وللموت من "جراس" غير أنهما عشقا المدن القديمة، وآثارا الجدل، وكانت لهما مواقفهما الإنسانية سواء ضد الإرهاب أو الصهيونية عند جراس، كما أن كلا منهما كانت له ثلاثية شهيرة، وكان سؤال "انجليكا" الذي يطرح نفسه: إلى أي مدى يمكن أن يتسق ويتشابه خيال ورؤى كاتبين ينتمي كل منهما لجنسية مختلفة وثقافة أكثر اختلافا؟! هل يمكن أن تتخطى الرؤى الإنسانية والفلسفية الحدود الجغرافية والمسافات الزمنية لتتوافق وتتسق سويا؟!

لقد قرأت الدكتورة هيلي أعمال محفوظ بعد قراءتها لجراس الذي حصلت في أدبه على درجة الدكتوراه، ولذا فقد لاحظت أن: (أمينة التي قدمها الكاتب كراوية في بداية الثلاثية وتعمد أن يغفل اسمها ـ الأمر الذي أثار حيرتي ـ هي الخيط الذي يربط أبطال الرواية.. هي البطل الحقيقي للعمل، الذي ينتهي بموتها.. دائما توجد في الخلفية ولكن حضورها طاغ مؤثر على الحدث لتمثل قيمة مثالية بعيدة المنال وهي في حضورها الذي لا يمثل وطأة على القارئ، ولها ما يقابلها في أعمال جونتر جراس الذي صور الجدة العجوز التي تمثل المحرك الذي يدفع الرجل).

تنفرد القاصة والروائية والناقدة المصرية سالمة المغربي بأنها تكاد بل هي بالفعل الكاتبة الوحيدة التي تعاملت بفهم ووعي لأبعاد "الست أمينة" حين جسَّدت شخصيتها في عمل أدبي مسموع ومصور تولت كتابته وإعداد السيناريو والحوار والمؤثرات الصوتية والمونتاج، وقامت بالتمثيل والإخراج، بل قامت بأداء دور سي السيد أيضا، ولعل من المقدمات التي أهلتها لذلك كونها تملك زمام الكتابة بالفصحى بعلمٍ ووعي وإجادة مثلما تتقن التحدث بالعامية المصرية المفهومة للمصريين ولغيرهم من المتحدثين بالعربية لسهولتها وبعدها عن الإغراق في المحلية أحيانا، كما أنها عربية الامتداد من حيث الأصول؛ فقد كانت والدتها سكندرية تنتمي لأم مصرية صعيدية الأصل وأب شامي، أما والدها فأمه تركية ووالده مغربي، وهو ما يعني أن الكاتبة سالمة المغربي قد عاشت في عائلة كونية، ومدينة كونية هي الإسكندرية.

وهو ما جعلها مؤهلة للتعرف على طبائع النساء وتعاملهن مع أزواجهن من خلال معاملة والدتها لوالدها في نفس أجواء سي السيد والست أمينة ومناداة والدها له بـ "سي محمد"، وإن كانت ترى أن العلاقة بينهما قائمة على الحب وليست في حدة علاقة أمينة "محفوظ" بزوجها سي السيد، وهو ما اعترف به محفوظ في المقارنة بين والدته وشخصية أمينة في إطار عصرها كما جاء في كتاب جمال الغيطاني: "نجيب محفوظ يتذكر"، فيقول محفوظ: (كانت أمي تتمتع بحرية نسبية، وبعكس ما تبدو عليه "أمينة" في الثلاثية .. أمينة فيها من أمي القليل .. والدتي برغم جيلها كانت منطلقة).

وهو ما دعا الكاتبة هويدا صالح لكي تقول في مقالها: "نجيب محفوظ بين الرمز الفني والواقعي" أن: (شخصية السيد أحمد عبد الجواد .. ربما لم تكن مصرية خالصة .. ربما لم يكن في المجتمع أحد يشبهها .. لم يكن الرجل المصري بهذا التناقض الصارخ .. وهذه السطوة الذكورية المبالغ فيها .. ولكنها بعد أن كُتبت بهذا الإحكام وهذه المهارة .. وأوجد لها نقيضها في ذات العمل الست أمينة المقهورة المستسلمة ساعتها تحولت الشخصية بنقيضها من رمز فني أدبي إلي رمز واقعي .. فصار كل رجل يريد أن يؤكد علي رجولته وسطوته أحمد عبد الجواد .. وصارت كل امرأة في الحقيقة ترضى بالذل والقهر كالست أمينة).

لعل التعرف على ما أصدرته الكاتبة سالمة المغربي يفي بالدلالة على اطلاعها العميق وتفهمها لعالمي الرجل والمرأة بحيث استطاعت أن تصوغ من كُنه تلك العلاقة الجدلية الأبدية صراعا طالعته في الثلاثية، والتاريخ، والأدب، والواقع، فترجمته قصة قصيرة، وشعرا، وخاطرة ورواية، ومسلسلات، وهي: "عطر رجالي" مجموعة قصصية صدرت عام 2014، و"قيثارة ووتر حب" ـ شعر وخاطرة صدر عام 2016، و"فضفضة واحدة ست" مجموعة قصصية صدرت عام 2017، ثم أصدرت راوية "عدل افتراضي" 2020م، يضاف لما سبق ويفي بالدلالة على تمكنها من أدواتها الإبداعية أنها: عضو باتحاد كتَّاب مصر، وعضو باتحاد الكتَّاب والمثقفين العرب بباريس، وعضو بمختبر السرديات ـ مكتبة الإسكندرية، كما أنها عضو بمبادرة "أكوا ACWA" الإسكندرية مدينة إبداعية.

لا تتعامل الكاتبة سالمة المغربي مع "الست أمينة" وعلاقتها بزوجها من منطلق "النسوية" أو الجندر" أو "النوع الاجتماعي" من حيث زحزحة الهيمنة الذكورية من تركيبة الأسرة النووية، وإعادة تبديل الأدوار بين الرجل والمرأة بحيث تكون المراكز متساوية بينهما تماما، وربما تفوق مركز المرأة تبعا لتفوقها المادي أو بحسب تمكينها الاقتصادي من سوق العمل، وهي بهذا تفارق نظرة "انجيلكا هيلي" النسوية إلى الست أمينة وتأتي متجاوبة مع فهم العلاقة الخفية القائمة بينها وبين زوجها كما ترصدها دكتورة لطيفة الزيات: (تتميز أمينة بقدرة هائلة على التكيف والتجاوز، وبقدرة هائلة على الحب والعطاء، وعلى تقبل الآخرين على ما هم عليه لا على ما ينبغي أن يكونوا، وبولاء لا حدود له لأسرتها ودينها ولمبادئها، ولكل من تحب، ولكل من تحب. وتتمتع أمينة بحاسة عملية تتيح لها المصالحة بين الواقع والمثال، واستيعاب كل المتناقضات، دون أن يترتب على ذلك أي اختلال في شخصيتها).

ولذا فيحسب للكاتبة سالمة المغربي أنها حين استدعت الشخصيتين التاريختين من عصرهما لعصرها أتت بهما وهما على نفس القدر من التفاوت الجنسي، والتركيب الطبقي بما يمثلانه داخل الأسرة، غاية ما صنعته هو "عصرنة" العلاقة بينهما طبقا للمتغيرات الاجتماعية التي طرأت على الرجل والمرأة في ذات الوقت وصبغتهما بصبغتها، ثم ألقت على رأسيهما المشكلات الاجتماعية المواكبة لحياتهما في نسختها الحديثة، وتبنت النقد المجتمعي والبيئي في رصد كل مشكلة تطرحها بعمق وفهم حيت تنثرها حوارا على لسان شخوص فضفضتها، وحين تفارق النسوية في الانحياز المريب للمرأة بحيث تضعها في موقف المتهم من إثارة المشاكل والافتئات على الرجل، وحين تجعل الصراع النامي بين الست أمينة وزوجها منطقيا مسايرا لأجواء الأحداث، لا يغيب عنه روح الدعابة، أو عنصر التشويق أو الإثارة نحو الحل، وحين تؤطر للعلاقات الاجتماعية السائدة وعدم نقدها ومنها قضية تعدد الزوجات؛ فقد تجاوزت خيال محفوظ نفسه وخلقت أمامنا في بعض فضفضاتها الرضا بالزوجة الأخرى في حياة سي السيد الذي لم يعرف التعدد بل طلاق أم ياسين زوجه الأولى ثم زواجه من أمينة.

كما أن الفضفضات لا تأتي كلها على وتيرة واحدة بحيث تكون الغلبة فيها دائما للست أمينة، بل أحيانا تجعل المنتصر هو سي السيد، وقد يجد المستمع والمتفرج نفسه في حالة شيكسبيرية من ترويض النمر تارة وترويض النمر تارة أخرى، وهو ما يجعلها ممتعة وعملا أدبيا خالصا حين زايل المباشرة والتقريرية التي تسود بعض الأعمال الدرامية حين تدَّعي أنها توعوية وهادفة وموجهة للسلوك والأخلاق للأفراد في المجتمع.


كما لم تقتصر المعالجات الدرامية لموضوع الفضفضة على الأحداث الاجتماعية التقليدية، بل والمتطورة منها والمسايرة لروح التغيير والتعامل مع النت والمحمول واستخدامه استخداما خاطئا، والولادة المجهرية، في حين لم تغفل إلى جانب هذا أن تعري المرأة وعقليتها التي ظلت في مستوى عقلية العصور السابقة في تعاملها الأنثوي والغرائزي مع الرجل من حيث الغيرة عليه، وإيقاع الظنون به، وتعرية الرجل أيضا الذي لم يزل كما هو في عصوره الغابرة يحن للخروج من كهف الأسرة إلى حيث مواطن النساء الجميلات في الواقع أو النت.


على الرغم من أن "الست أمينة" صناعة رجالية .. صاغها كاتبنا الكبير بإنسانية واقتدار وواقعية ومثالية وكونية تتخطى الحدود، إلا أنني آثرت أن تكون النظرة في التعامل معها وإبداء الرأي حولها أدبيا ونفسيا ونقديا وإبداعيا من خلال رؤى نسائية شرقا وغربا، وهو ما تلتقي فيه الكاتبة سالمة المغربي مع الدكتورة انجيلكا هيلي والدكتورة لطيفة الزيات في أن "المرأة/الست أمينة" هي البطل الحقيقي ليس في ثلاثية محفوظ أو ثلاثية "جراس" بل في الحياة أيضا، وهي إن لم تبدو أمامية في المشهد إلا أنها على الرغم من تواجدها في خلفيته ولكن حضورها طاغ مؤثر على الأحداث، والوقائع على هذا كثيرة حتى في ثلاثية محفوظ؛ فلم تكن الست أمينة مقهورة طوال الوقت بل أثرت في بعض الأحداث الهامة وغيرت مجراها لصالحها وصالح أولادها على الرغم من طاعتها لسي السيد في ظلمه وعدله غير أن هذا كان من أجل أن تحتفظ بأسرتها وتماسكها، وهو ما نراه تماما من موقف الست أمينة التي صنعتها الكاتبة سالمة المغربي خاصة في فضفضتها بعنوان: "الفَضَلة" أي "ما يتبقى من الأشياء"، أو الفضفضة المعنونة: "الست أمينة طالبة الخُلْع"، وهو ما ينافي الندية في التعامل المفضي لانهيار الأسر وبالتالي انهيار المجتمع مع انهيار قيم الإيثار والتضحية كما فهمته "الست أمينة".