فنانة ثاقبة البصر في زمنٍ أعمى- ناهدة الرماح إنسانةٌ رائعة



محمد الكحط
2006 / 8 / 14

أقامت رابطة المرأة العراقية في السويد أمسية لفنانة المسرح العراقي ناهدة الرماح، وذلك يوم الأحد 11 آب 2006 في سيترا جنوب ستوكهولم، حضر الأمسية عدد من نساء الجالية العراقية يمثلن جميع ألوان طيف وفسيفساء العراق الجميلة، قدمتها السيدة هيفاء عبد الكريم بكلمات تليق بهذهِ الفنانة المعطاءة والمتميزة.

اختارت الفنانة ناهدة أن تتكلم وتسرد ما تراه مناسباً بحرية مجيبة عن الأسئلة بطريقتها الخاصة، أبكت الحضور وأبهجتهم، غنت لهم ومثلت لهم وألقت الشعر وكادت تطير فرحاً في هذا اللقاء البسيط والجميل والعميق، إنسانة فقدت البصر ولكنها ثاقبة النظر، تحملت الكثير وقدمت الكثير خلال مسيرة طويلة منذ خمسينيات القرن الماضي عندما اختيرت للتمثيل في فلم من المسؤول سنة 1957، حيث كان التمثيل عملاً منبوذا من قبل المجتمع، مما أضطر أهلها جميعاً للتمثيل معها كي يتجنبوا القيل والقال آنذاك ، وكانت الخطوة الأولى في طريق الفن، حيث تتالت العروض وصقلت الموهبة ومن العفوية إلى الأحتراف، كانت ناهدة الشابة تتحسس معاناة والدتها وهمومها والتي كانت كأي امرأة عراقية في ذلك الزمان تعاني الفقر والحرمان، وفكرت مراراً كيف تسعد أمها وكيف تبهج حياتها، ورغم زواجها المبكر وكما تقول هي عنه (لم أكن أعرف ما يعنيه الزواج)، مرضت فأخذها أخوها إلى الطبيب والتقت صدفة هناك بالفنان إبراهيم الهنداوي الذي عرض عليها التمثيل في فلم من المسؤول، مثلت العديد من الأدوار ومختلف الشخصيات، المرأة الخرساء مع سامي عبد الحميد في مسرحية(( الرجل الذي تزوج المرأة الخرساء)) وهي مسرحية فرنسية، و مثلت في مسرحية القربان للفقيد غائب طعمة فرمان. تتحدث بشجن عن مواجهتها الأولى للجمهور وهي على خشبة المسرح حيث وقفت لتشاهدهم وجهاً لوجه فأرتعش جسدها وترددت في الكلام ليصرخ بها إبراهيم جلال ( ناهدة خذي نفساً عميقاً) وأخذت نفساً عميقاً وكأنه قبلة الحياة التي ردت لها روحها فانطلقت تؤدي الدور خصوصاً عندما تسمع كلمات الإعجاب والإطراء، وعندما أنتهى العرض ألتف الجمهور حولها تعبيرا عن إعجابه، ولكن من بين الجمهور صعقها صوت أمها المتهدج فرحاً ليعلن للجمهور ((هذه بنتي..هذهِ الفنانة هي بنتي...)) لحظات لا تنسى، لقد حققت حلماً ظل يراودها وهو أسعاد أمها وإسعاد الناس حيث ألم أمها وألم نساء العراق هو نفسه، وتتحدث بحزن عن رفيقة دربها رائدة المسرح العراقي الفقيدة الفنانة زينب، وما تعرضتا له من معاناة من المجتمع والتقاليد ومع السلطات الحاكمة، وسردت قصصاً شبه خيالية عما كانت تمارسه السلطات من أساليب تعسف ضد المرأة ومحاولات إسقاطها، تعرضت ناهدة إلى الأعتقال عدة مرات، ففي سنة 1963 أبان الانقلاب الفاشي الأسود شاهدت في السجن عشرات الصور المروعة من صور وأساليب إهانة المرأة والحط من كرامتها وتحسست عن قرب كم هي المآسي التي تعاني منها المرأة العراقية حتى من أقرب الناس لها أهلها، وتقول أن هذه المواقف زادتني خبرة وصلابة وجعلتني أشعر بمسؤولية أكبر، تحدثت عن مشاركتها مع زينب في مسرحية النخلة والجيران، تحدثت عن العاملين معها، لم تنس الماكيير و مصصم الديكور أو الملابس، تحدثت عن مساهمتها في فلم يوم آخر، و عن أدوارها وعن زملائها في المسرح وكيف كانت حياتهم زاهدة وبسيطة كون هدفهم تنوير وإسعاد الجمهور، في وقت كانت تنقصهم صالات عرض طبيعية، وتتكلم عن غرفة تبديل الملابس المليئة بالعقارب، ومنصة المسرح التي يتسرب من سقفها المطر على رؤوس الممثلين، ولكنها كانت تكتسب خبرة كل يوم من الناس ومن زملائها، تتحدث عن فرقة المسرح الحديث وتعتبرها أكاديمية كاملة للفن، جمهورها كل أطياف المجتمع العراقي، من بسطاء الناس إلى المثقفين، تحدثت عن لحظات انطفاء الوهج في عينيها وهي على المسرح تؤدي دورها في مسرحية القربان، وكان المخرج الفقيد فاروق فياض يلح عليها بتأجيل العرض ولكنها أصرت وخرجت للجمهور بعيون يحيطها الغوش والظلام ، ولكنها ورغم مشاعرها الحزينة في تذكر هذا الحدث تقدم لنا مقطع من المسرحية (( عرس بالظلمة مايصير....تعالوا صرت فانوس لكل الناس...))، غنت ومثلت تذكرت زوجها الذي أستشهد تحت التعذيب سنة 1963، وأبنها الذي قتل في حلبجة بسلاح البعث الكيمياوي، تدفقت الكلمات منها بدفأ وبعذوبة، تعلمت وعلمتنا الصبر والشجاعة والقوة والصلابة وهكذا هي المرأة العراقية دائماً شامخة تتغلب على الظروف وتتجاوزها وتبني حياتها من جديد وبشكل أبهى.

تحدثت عن معاناة خروجها من العراق وكيف كان جلاوزة الأمن يتتبعون خطواتها وكيف خرجت منهم بروحها المتحدية لكل ما هو سيئ، وفي الغربة ورغم مرضها ومعاناتها مع عينها المتعبة، لم توقف نشاطها بل تنوع وتعدد فأسست مع الآخرين المنتدى العراقي في لندن، وقدمت العديد من المحاضرات والأماسي في أوربا وأمريكا ودول الخليج..

ناهدة الرماح تتنهد وهي ترى كيف يتنكر هذا الزمن الأعمى لمبدعيه وفنانيه، وكنا نأمل أن ينصفهم بعد أن زال وغرب زمن الدكتاتورية ولكن وا حسرتاه فلا اهتمام بالمسرح أو الثقافة ،ولا ذكر أو أنصاف لمن قدموا وأعطوا وهي تتألم لذلك لكنها كلها أمل بالمستقبل وبالغد المشرق الذي سينصف الجميع.

ناهدة الفنانة بيننا اليوم تمثل لنا وترانا بقلبها الكبير، صرخت بنا أحبكم والله أحبكم أنتم حياتي أنتم عيوني. أبكتنا وأبهجتنا مراراً في أمسية كانت بحق رائعة. لك ألف زهرة و ألف تحية أيتها الفنانة القديرة وأعلمي بأننا نحبك وستتذكركِ الأجيال وستظل حياتكِ نموذجا يقتدى بهِ.