أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح- الأخيرة



مجدي الجزولي
2006 / 8 / 22

من فساد مهمة "الحضارة" الاستعمارية أنها قامت على موالاة مراكز السلطة التقليدية في المجتمعات المستعمَرة في تحالف يحفظ لكل طرف مصلحته في ديمومة استغلال هذه المجتمعات. بين أسر المجتمع الأبوي وتواطؤ التحديث الكاذب كان مصير النساء السودانيات أن يخضن نضالاً مضاعفاً ومجهداً في سبيل تحرير مزدوج. هذا الدرب صعب المرتقى شقته المرأة السودانية باقتدار فذ جعلها في الحقيقة قاطرة التحديث الاجتماعي وكذلك وقوده في بلادنا، حتى انغرست رايات محاسنها في كافة المجالات. مرد ذلك تراكم طويل لمجهودات عظيمة جليلة وذكية لم تتراجع إلا لتتقدم مرة أخرى خلال الحكم الوطني وحتى عهد الوصاية الأممية الحاضر.

جلي من نشأة وتطور الحركة النسوية السودانية أنها قامت على ركن حكيم في الماركسية وآخر يشده في الوطنية. ولقد تميزت عن مثيلات لها في الجوار بالذات حاضنة المتعلمين السودانيين مصر باندماج تام في هموم وأولويات جماهير النساء "الكادحات" وليس صفوتهن "الراقيات" (راجع د.عبد الله علي ابراهيم، في يوم المرأة العالمي: الماركسية والمرأة في السودان، سودانايل، مارس 2006)، مما جعل تنظيم النساء التقدمي "الإتحاد النسائي" (تأسس في 1952) آية في نجاح "العمل بين الجماهير"، خاصة في أكثر فتراته خصباً أي إبان ديكتاتورية عبود حتى انتصار ثورة أكتوبر المجيدة 1964م، وخلال الديموقراطية الثانية حتى انقلاب مايو 1969م (راجع فاطمة أحمد ابراهيم، حصادنا خلال عشرين عاما، 1978ً). فما أبعدت عنه البروباقاندا المضادة غمار السودانيات، إذ كان لهن مدرسة وثورة ونما بينهن بديموقراطية "جذرية" واقعاً لا شعاراً، حققت صفة ال(grass root) قبل تدشينها عبارة رائجة في سوق الكلام ضحى التسعينات. جانب من هذا النجاح مرتبط لا بد بما استنته المناضلة الفذة فاطمة أحمد ابراهيم ورفيقاتها من براكسيس ثوري في مزاوجة التكتيك والاستراتيجية، وفي تعاضد الطليعة والجماهير، وفي اجتراح السبل والوسائل لفك شفرة التقدم في وعي عامة السودانيات. من جهة أخرى مكنت العافية الفكرية لثورياتنا الأوائل من تفادي فخ عقيدة الأبوية الجوهرية، ودمج صراع السودانيات من أجل الحقوق والمساواة التامة في مجمل تيار الديموقراطية السودانية فكان الإتحاد النسائي حليف طبيعي لحركة الطبقة العاملة وحركة الطلبة والشباب، تتكامل نضالاتهم وتتسق في نهوض متماسك. بذات قدر "الشفافية" الديموقراطية في عمل الإتحاد اتسم صراع مناضلات الإتحاد النسائي ضد تيارات الانحراف داخله تنظيماً وفكراً بخاصة "اللا تسامح" وهي من مطلوبات الاستقامة على الدرب النافية للانتهازية والمهادنة، خاصة أصبحت اليوم مكروهة منكرة. تميز بها البارع فلاديمير لينين وهو ينقل الثورة الروسية من منصة فبراير إلى قمة أكتوبر 1917، ولازمت عمل الشيوعيين السودانيين فأنقذت الحزب والفكر من جب النميري واتحاده الاشتراكي بفداء ما أغلاه.

بالمقارنة مع المبادرات التي سبقته يعتبر نشوء الاتحاد النسائي السوداني في 1952 انقلاب نوعي في نضال المرأة السودانية المتطاول تحقق بفضله توسع جماهيري لافت جعل من الإتحاد معولاً ثورياً ليس لخاصة النساء فقط ولكن لكافة الشعب السوداني. ولقد سبقت تلك اللحظة التأسيسية ارهاصات منها ما يلي: تنامي الوعي القومي والكفاح ضد الاستعمار بين النساء العاملات خاصة المعلمات والممرضات؛ تنامي النشاط الثقافي والاجتماعي السياسي بين طالبات المراحل الدراسية المتقدمة خاصة الثانوية؛ المظاهرة ضد السياسات الاستعمارية التي ضمت الممرضات والممرضين في 26 اغسطس 1951، وكانت أول مشاركة علنية جماهيرية للمرأة السودانية في مظاهرة سياسية؛ كتابات متفرقة لرائدات سودانيات في الصحف السيارة تخاطب قضايا المرأة؛ الدور الرائد للطالبة آنذاك د. خالدة زاهر الناشطة في اتحاد طلاب كلية الخرطوم الجامعية، واعتقالها من قبل السلطة الاستعمارية لعضويتها في حركة أنصار السلام، وهي أول امرأة تشارك في العمل السري للحزب الشيوعي السوداني (أحمد عبد المجيد، "تاريخ المنظمات النسوية السودانية"، مجلة الأحفاد، 6/1/2001). انعقد الاجتماع التأسيسي للاتحاد النسائي في 31 يناير 1952 في حضور فاق 500 امرأة وتم فيه انتخاب لجنة تمهيدية مهامها: تنظيم العضوية والاشتراكات؛ صياغة دستور ولائحة الاتحاد؛ وعقد جمعية عمومية تنتخب لجنة تنفيذية. في ابريل من نفس العام أكملت اللجنة التمهيدية مهامها فتكونت أول لجنة تنفيذية للاتحاد النسائي: خالدة زاهر (طبيبة)، فاطمة طالب (معلمة)، ثريا الدرديري (طالبة جامعية)، نفيسة المليك (معلمة)، نفيسة محمد الأمين (معلمة)، سعاد الفاتح (طالبة جامعية)، بتول أدهم (ممرضة)، ثريا امبابي (معلمة)، سعاد عبد الرحمن (معلمة)، حاجة كاشف (طالبة جامعية)، عزيزة مكي (معلمة)، خادم الله عثمان (ممرضة)، فاطمة عبد الرحمن (معلمة)، محاسن عبد العال (معلمة)، فاطمة أحمد ابراهيم (معلمة)، خديجة مصطفى (معلمة) (المصدر). لم يتعرض الاتحاد عند تكوينه وفي برنامجه الأول للحقوق السياسية ولا لتفاصيل الحقوق الاقتصادية بل انتهج اسلوباً اصلاحياً كان سليماً بحسب تلك الظروف إذ جنب الاتحاد صدامات ومعارك ما كان بوسعه خوضها وهو بعد وليد لم تتكون فروعه وهيئاته (فاطمة أحمد ابراهيم، حصادنا خلال عشرين عاماً، 1978، ص 39). برزت قضية الحقوق السياسية لأول مرة في أجندة الاتحاد في العام 1953م مع بداية تنفيذ اتفاقية الحكم الذاتي، حيث تقدم الاتحاد إلى لجنة الانتخابات مطالباً بحق المرأة الانتخاب والترشيح. مثلت هذه الخطوة نقلة نوعية في عمل الاتحاد الجماهيري فنظم اللقاءات الجماهيرية، واجتمع بقادة الأحزاب السياسية وقادة المنظمات النقابية والطلابية، وظل يثير القضية بشكل مكثف على صفحات الصحف حتى وافقت اللجنة على منح الخريجات فقط (الثانوي والجامعة) حق الانتخاب دون الترشيح. أثرت هذه التجربة أساليب نضال الاتحاد وقادت إلى تغيير في تركيبته العضوية فقد كانت نقلة ثورية توازت ونشاطه الاصلاحي الخيري. كما كشفت خطوط الصراع داخله، حيث وقفت عضوتان في اللجنة التنفيذية تعارضان إثارة قضايا المرأة السياسية والمطالبة بحق الانتخاب والترشيح، هما سعاد الفاتح وثريا امبابي، بحجة أن عمل المرأة بالسياسة معارض للدين والتقاليد. عندما حسم الأمر بالتصويت ضد رأي الاثنتين استقالتا من الاتحاد وأعلنتا الانضمام لجمعية نهضة المرأة التابعة لحزب الأمة (المصدر، ص 44). بذلك بدأ يستبين الطابع الثوري والتقدمي للاتحاد ويتوطد بفرز صفه القيادي.

وهي تستعيد حصاد الإتحاد النسائي في عامه 46، منها 17 فقط في العلن والبقية في قهر السرية، أثبتت الرائدة فاطمة أحمد ابراهيم في ورقة منشورة (الفجر، 15 نوفمبر 1998م) المكاسب الأساسية التي نجح الاتحاد في تحقيقها: أسس الاتحاد فروعاً له في معظم أنحاء السودان بما في ذلك الأقاليم الجنوبية وكردفان ودارفور وشرق السودان تصديقاً لالتزامه جانب الكادحات السودانيات؛ أصدر الإتحاد المجلة النسوية المستقلة الوحيدة في تاريخ السودان "صوت المرأة" (تأسست 1955م) والتي كانت هدفاً للمنع والتجريم خلال الديكتاتوريات العسكرية؛ نجح الاتحاد في تنظيم جماهير النساء العاملات بأجر وربات المنازل لانتزاع حقوقهن وللنضال ضد الشمولية واستعادة الديموقراطية فشاركن بسهم وافر في ثورة اكتوبر المجيدة حيث سقطت، من بين عضوية الاتحاد، بخيتة الحفيان شهيدة، وجُرحت كل من محاسن عبد العال وآمنة عبد الغفار،كما شاركت جماهير النساء في الانتفاضة ضد مايو، وهن اليوم في صفوف مقاومة ديكتاتورية الجبهة الاسلامية؛ ناضل الاتحاد حتى انتزع حق المرأة الترشيح والانتخاب في العام 1965 ودفع برئيسته الرائدة فاطمة أحمد ابراهيم إلى مقعد البرلمان كأول برلمانية في السودان وفي افريقيا مرشحة عن دوائر الخريجين؛ قدمت رئيسة الاتحاد بصفتها البرلمانية مشاريع قوانين تحقق مساواة المرأة بالرجل في شأن العمل، الأجر، التقاعد، وشروط الخدمة الأخرى، تمت اجازة هذه القوانين في العام 1968م بالإضافة إلى الغاء قانون كان يجبر النساء على التقاعد عند الزواج؛ نجح الاتحاد في اجراء تعديلات مهمة على قوانين الأحوال الشخصية تكفل للمرأة حق اختيار زوجها، وتضمن الغاء عقود الزواج من غير موافقة المرأة بواسطة المحكمة، كما تجعل الوصاية للأم على بنتها حتى الزواج، وعلى ابنها حتى البلوغ، كذلك تم سن قانون يلزم الأب برعاية أطفاله بعد الطلاق، وتم الغاء بيت الطاعة.

أهدت الرائدة فاطمة أحمد ابراهيم كتابها "حصادنا خلال عشرين عاماً" (1978) إلى قيادات الاتحاد النسائي الجديدة بهذه الكلمات: "أهدي تجاربي المتواضعة خلال ست وعشرين عاماً من عمر الاتحاد النسائي، قضيناها في النضال من أجل تحرير المرأة السودانية من الاضطهاد المزدوج كمواطنة وكجنس، قضيناها في الدفاع عن حقوق الأسرة والطفل، وخضنا من أجل ذلك معارك ضارية ضد الاستعمار وضد تخلف المجتمع وعاداته وتقاليده المكبلة لحركة المرأة وحرياتها، وضد القوى الرجعية المتمثلة في الأحزاب شبه الاقطاعية والبرجوازية والأخوان المسلمين، وضد النساء الواقعات تحت تأثير الفكر الاقطاعي والبرجوازي.." هكذا صورت الرائدة خطوط نضالها ورفيقاتها. والدروس مبذولة في هذا التاريخ فإن كسب الاتحاد النسائي الأعظم أن دشن ووطد تراثاً في تحرر المرأة لا ينعزل "أنثوياً" عن مجمل الحراك الاجتماعي، بل يندمج في مشروع السودانيين تحرير أنفسهم من الاضطهاد والاستغلال في كافة أشكاله بادراك أن تحرر المرأة لا يمكن أن يتحقق سوى في استواء التحرير الاقتصادي السياسي والاجتماعي الثقافي وفي محتوى ما عرفنا في أدبيات اليسار المجيد بالثورة الوطنية الديموقراطية فتحاً لآفاق الاشتراكية. بالنظر إلى القضايا التي تطرقت لها الكلمات الأربع السابقات يمكن مساوقة الحجة أن البناء على هذا التراث وتجديده بما يناسب حراك الحاضر واجب لازم لاستعادة المبادرة في شأن تحرير المرأة إذا صدق العزم على "التحرير" فعلاً، وليس محض التكسب الصفوي من قضايا المرأة كان ذلك من جانب تيارات الاسلام السياسي أو من جانب نخب النسوية.