المرأة الثّقب (La Femme Trou): الجسد خريطة جنسيّة


ريتا فرج
2021 / 12 / 5


“لا يوجد الجسد إلاَّ من خلال علاقاته مع الأجساد الأخرى” ؛ هذا ما يخلص إليه الباحث الفرنسي آلان غوتييه (ِAlain Gauthier)، ويحيلنا بدوره على تمظهرات الجسد الأنثويّ المثير في الفضاء الافتراضي الّذي أتاح فرصاً أوسع لجماليات المتعة البصريّة، ليس باعتبارها عالماً داخلياً حميمياً، وإنّما مجالاً إشهارياً قادراً على الوصول للملايين من متابعي وسائل التّواصل الاجتماعيّ، بالإضافة للمواقع الأخرى المتاحة على الإنترنت.
لا يهدف هذا المقال – في مقاربته الأوليّة القابلة للنّقد والتّطوير وإعادة البناء – إلى إدانة العريّ الأنثويّ الّذي شكّل عبر التّاريخ شكلاً من أشكال الاعتراض وجزءاً أساسياً من الخطاب الفنيّ والأدبيّ والدينيّ؛ إنّما غايتنا محاولة التّحقق من إشكاليّة رئيسة: هل بالإمكان الحديث عن أنموذج “المرأة الثّقب" (La Femme Trou) أي تلك المرأة الّتي تنظر إلى ذاتها بوصفها جسداً جنسيّاً/ شبقيّاً؟ وكيف فجّرت الميديا الجديدة هوام (Fantasme) المتعة البصريّة، فغدت الصّورة الأساس الّذي تُبنى عليه التّصورات حول أجساد النّساء باعتبارهن “أجساداً أيقونية” مثالية ومستباحة؟ ما نسعى إليه هو معاينة الصور – الخداعيّة أحياناً- الّتي تتيحها بعض الفضاءات الافتراضيّة لأنماط عدّة من النّساء؛ قد يكنّ ممثّلات أو فنّانات أو نساء عاديات يعبرن عن أنفسهنّ بالعري الجزئي أو التّام، فيحاولن التّفاعل مع المتلقي بأجسادهنّ المثاليّة من خلال عمليّة المحاكاة والترسانة التصويريّة وسلسلة الرموز الإغرائية؛ فصورة الجسد/ العلامة السيميائيّة، اتّخذت رسالة إغوائية غايتها إثارة النّاظر والصّانع وإنتاج الخيال.

في ملاحظة لافتة لعالِمة الاجتماع المغربيّة الراحلة فاطمة المرنيسي (1940-2015)، استوقفتني مطولاً، وإن بدت للبعض عابرة، تحليلها لــــ “المانيكان” (Mannequin) في محال بيع الملابس النسائيّة في المغرب، فغالبيتها تكون بلا رأس، وقد رأت صاحبة “هل أنتم محصنون ضدّ الحريم؟” أنّ الغاية من وراء ذلك، نفي وجود “العقل” عند المرأة والنّظر إليها بوصفها جسداً استعراضياً/ تسليعياً. لا شكّ أنّنا اليوم في عصر الصّورة و”حضارة المتعة”، كما يرى عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي ( Gilles Lipovetsky) وقد فرضت هذه الثّورة الرقمية التكنولوجية تحوّلات هائلة في رؤيتنا لذواتنا والعالم المحيط بنا ومن ضمنها العلاقة مع أجسادنا، خصوصاً أنّ العديد من النّساء أصبحن رهينات “الجسد المثالي” الّذي تنقله لهنّ الكثير من الفنّانات والشركات، وربّ قائل يرى أنّ ذلك أمر طبيعي بسبب الثّورة الرّاهنة للجسد الّذي لا تقف أمامه حدود حتّى في أكثر مواقعه حميميّة.
إنّ أجسادنا ليست سوقاً للاستعراض والاستباحة ولا وسيلة لتحويلها إلى بضاعة، أي تشييء (Objectification) الإنسان وتسليعه، فيغدو مادة بلا روح أو عقل. يذهب الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (jean Gaudrillard) (1929-2007) أبعد ممّا تذهب إليه المرنيسي في تحليله للعارض/ العارضة. يقول: ” عندما يكون الجسد أداة في يد الموضة، فإنّه يصبح، جنسياً، باهتاً وقلقاً، إنّه يتحوّل إلى عارض/ عارضة، وهو مصطلح يوحي غموضه الجنسي بالكثير. فالعارض/ العارضة يحيل كلياً على الجنس، لكنّه جنس دون قيمة، ذلك أنّ الموضة هي جنسه. وبتعبير أدقّ، فإنّ الجنس يفقد تمايزه، ويتمّ تعميمه كمرجعيّة. فلم يعد هناك ما يحيل على البعد التناسلي [الجنس دون آخر/ ذكر وأنثى]، بل إن كلّ شيء يتكثف في البعد الجنسي. ويجد الذكوري والأنثوي، بعد أن فقدا تمايزهما، إمكان تحقيق وجود ثانوي محدود. ففي ثقافتنا يؤثّر الجنس عليّ ويمتدّ إلى كلّ الدّلالات، وذلك لأنّ العلامات قد تسرّبت إلى كلّ الفضاء الجنسيّ” (راجع: الصادق، رابح، ضريبة السعادة: الإشهار وتوثين الجسد، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 37، العدد 4، 2009، صص 169-207؛ وانظر نقلاً عن رابح: Baudrillard,J., L’échange symbolique et la mort, Gallimard, Paris, 1976).
لا نعترض في هذا المقال على حرية الجسد الأنثوي في السّلوك والابهار، ولكنّنا ضدّ تسليعه وتحويله إلى خريطة للمتعة البصريّة/ الجنسيّة، فالمرأة الثّقب تبني نفسها كأنّها موضوع للرغبة فقط، وغدا هذا النّمط المعمّم في الفضاء الافتراضي شيئاً وظيفياً، أي إنّه محمل بالعلامات والرّموز والدّلالات والإيحاءات الجنسيّة/ الشبقيّة. فهل يعني ذلك أنّنا نريد قمع الجسد ورغباته وجموحه؛ طبعاً لا، نرمي إلى تحليل هذه الظّاهرة ومحاولة فهمها في سياق ثورة الجسد ومركزيّة “الأنا” الّتي فجّرتها الهواتف الذكيّة والتّقدم التكنولوجي الرقمي، فأسّست لما يمكن أن نسمّيه الأجساد الرقميّة/ المثالية الخالية من الشّوائب والكاسرة للتّبوهات، والّتي هي ضدّ التّقليد والمحافظة والحجب والتقدم في العمر والموت، ولكنّ الجسد هنا ليس جسداً ملموساً، إنّما هو جسد شبحي وإيهامي، على نقيض الجسد الحقيقي/ الواقعي لا سيّما في تعبيراته الجنسيّة، حيث يغدو كلّه أرضاً خصبة للحبّ والرّغبة، تحديداً في حيزه الأنثوي، فكما نعتبر أن الجنس عملية فيزيولوجيّة هو أيضاً ثقافة ووعي، وبهذا المعنى فكله مسرحاً للحبّ، أي إنّ مساحات الجلد تشكل أجساداً داخل أجساد، خلال عملية التّجاسد/ التّحابب بين العاشقين. وعليه، نفترض أن فقهاء الإسلام خبراء في “خريطة الجسد الأنثوي” لذا قرّر بعضهم أنّ على المرأة المسلمة تغطية كلّ جسدها بدءاً من الوجه وصولاً إلى أخمص القدمين.
إنّ “المرأة الثّقب”، تلك الّتي لا تجد في ذاتها إلاّ حاملة لرسالة الرغبة الجنسيّة، ليست رهينة “سوق المتعة في الفضاء الافتراضيّ” فحسب، إذ تجد تمثّلاتها في التاريخ والاجتماع، بمعنى أنّ الثقافة الذكوريّة أنتجت عبر مسارها الطويل لنوع من النّساء اللّواتي يشكلن ذواتهنّ لبناء صورة المرأة الحريميّة، وتساعدنا خلاصات سيمون دي بوفوار (Simone de Beauvoir) (1908-1986) في كتابها “الجنس الآخر/ الثاني” (Le Deuxième Sexe )، الصّادر في طبعته الأولى عام 1949، على تحليل السّياقات التاريخيّة والدينيّة المؤديّة لتنميط المرأة وتأطيرها بوصفها امراة وليس بوصفها إنساناً عاقلاً مساوية للرجل في كلّ الوظائف الحياتيّة، أي كذات عارفة وعاقلة وواعية، دون أن يؤدّي ذلك إلى نفي النّزوع نحو الاعتناء بالجسد وإثارة رغباته والاهتمام به في الفضائين العام والخاصّ.
نجد أنفسنا اليوم أمام تدفقات كبيرة من صور الإغراء لدى النّساء والرّجال في الثّقافة الرقميّة وحضارة المتعة، حيث تبرز “الأنا” و”النرجسيّة” بقوّة في العلاقات البشريّة، وهي تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة. فالمرأة في الوعي الرّاهن الّذي تصنعه الميديا الجديدة وشركات الملابس العالميّة وكبار المصممين سابقاً والآن، هي المرأة المثاليّة بلا عيوب، والمثيرة جنسياً دائماً وهي ضدّ الزّمن والتّقدم في العمر، فجسدها الجميل جسد أبدي لا يهرم ولا يُهزم، وهو في أبديته يفتح أفقه على المثير الجنسي وتخيلاته واضطراباته؛ أي إنّه ليس الجسد الّذي يكافح في حياته اليومية وينكسر مع مرور الوقت؛ والرّجل كذلك عليه أن يكون ذلك الرّجل/ الفحل مفتول العضلات، ناقلاً عبر اللاوعي قدراته الجنسية للآخر. إنّ الرجال أيضاً كالنّساء يحتفون بالاستعراض والإشهار في نمطيّة فحوليّة/ جماليّة محددة لا تقل أهميّة من حيث الدّرس والتّحليل عن الأنموذج النسائيّ.

يعكس جسد المرأة بمدلوله الرمزيّ والتاريخيّ، خطاباً متعدّد المعاني، فهو أولاً مؤشر للتقليد، – يمكن النّظر إلى الحجاب هنا في الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة سابقاً، كرمز ديني ورسالة قمعيّة وتوظيف سياسي- ، ويستكمل في المقابل ثوراته ضدّ الأبويّة الدينيّة والبنى البطريركيّة، فيعبّر عن ذلك بأساليب مختلفة، تعكس تفاوتاً بين الشرّق والغرب على مستوى الوعي، لأنّه يرتبط بالدرجة الأولى بتطوّر المجتمعات ومنظومة حقوق الإنسان والقوانين الضّامنة للمساواة بين الجنسين، والرؤية المعاصرة للأديان تجاه النّساء ودورهنّ. وإذا عدنا إلى إشكاليتنا الّتي انطلقنا منها في بداية المقال، بإمكاننا الافتراض أنّ “المرأة الثّقب” السّاعية إلى تحويل جسدها إلى فضاء للمتعة الإيهاميّة، هي أيضاً تعبير عن الجسد الأنثوي المستباح الّذي يُستغل في السّوق الاستعراضي، وفي هذه الحالة يُنظر إليها على “أنّها شيء آخر غير الإنسان. فالثنائيّة المعاصرة [ أي الإشهار والاستهلاك] تميّز الإنسان عن جسده. فعلى كفتي الميزان هناك الجسد المحتقر الّذي لا يمثل شيئاً للتكنولوجيات العملية، والجسد الّذي يحتفي به ويثمِّنه المجتمع الاستهلاكي”. (راجع: الصادق، رابح، ضريبة السعادة: الإشهار وتوثين الجسد، مرجع سابق).
ليس الجسد الأنثوي معطى فيزيولوجي/ طبيعي فحسب؛ ترك فيه التّاريخ والدين والثقافة والأيديولوجيا والاجتماع والسياسة تراكمات هائلة ما زالت تعتمل فيه إلى الآن، وفي الأزمنة المعاصرة أضفت التكنولوجيا الرقميّة عليه بعداً آخر يتجه أكثر فأكثر نحو الافصاح والإشهار والثوران، حيث توضع المرأة هنا بالقالب الجنسي الايحائي والهجين.
إنّ العري الأنثوي في الحضارة ومسيرة التّمدن البشري صناعة، يقابله الجسد الأنثوي الطبيعي العاري لنساء موجودات في العديد من القبائل اليوم، اللّواتي لم تصل إليهن مفاهيم الإنسان المكتسي؛ نحن هنا إزاء جسد آتٍ من الطبيعة أمنا الأولى ويمتد إليها.