“إحنا- … ضدّ التحرّش!



فاطمة ناعوت
2021 / 12 / 15


في مؤتمر جادّ أقامته مباردة "إحنا" بالجامعة الأمريكية بالقاهرة هذا الأسبوع، لمواجهة ظاهرة التحرّش الجنسي في مصر، شاركتُ في حلقة نقاش جمعتني بالمخرجة "عايدة الكاشف"، والفنان "علي قاسم" ومنظّمة المؤتمر المثقفة د. "ميرفت أبو عوف"، أستاذ الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية. ناقشنا دور الإعلام والسينما في محاربة التحرّش، سلبًا وإيجابًا. وطرحتُ على الحضور سؤالاً يشغلني: “هل يقومُ الإعلام بدور إيجابي في مكافحة التحرش، أم يكتفي "بإعلام" الناس بوجوده؟ وهل بوسع السينما محاربة تلك الآفة بحريّة؟ أم سيُقال إن الأفلام هي التي "تُعلّم" الناس التحرش إن أنتجت أفلامًا تناقشُ تلك المشكلة؟ بكلمات أخرى: هل تسليطُ الضوء على مشكلة ما: يساهمُ في حلّها، أم في انتشارها؟ الإجابة تكمن في منهج العرض الفني لتلك الأزمة. فالدراما التي تجعل من تحرش "الذكر" بالأنثى مادةً للكوميديا، وتجعل من المتحرش "شابّ ظريف روش مقطع السمكة وديلها"، بالتأكيد تعطي نموذجًا مغلوطًا عن ذلك الذئب الذي يدمّرُ أركان المجتمع. بينما نحن في حاجة إلى دراما وأفلام تبرز "النبذ المجتمعي" والعار الذي يلاحقُ أي متحرش، حتى نجعل منه نموذجًا مكروهًا مُعيّرًا من جميع أطياف المجتمع. الأمُّ التي تقيمُ الدنيا لأن ذئبًا تحرّش بابنتها، قد تجدها نفسها تدافعُ عن ابنها لو تحرش بفتاة، وتتهم المُتحرَّش بها بالفجور! إنها "الازدواجية المريضة" التي غرسها داخلنا مضلّلون جعلوا المرأةَ مخطئةً في كل الأحوال، إلا لو كانت "تخصّنا".
قبل سنوات أجرت إحدى القنوات الفضائية تجربة طريفة لمناهضة التحرش. ارتدى شابٌّ باروكة وملابسَ نسائية، وسار في شوارع القاهرة في وضح النهار. ورصدت الكاميراتُ ما تعرض له الشابُّ من تحرّش لفظي وجسدي. ولم يتغيّر الحالُ حين وضع الشابُّ "الحجاب”. في الأستوديو خلع الشابُّ ملابسَه التنكرية وتكلّم عن تجربته في "جسد امرأة" قائلا: (يااااه! مكنتش أعرف قد ايه البنت بتتعذب عشان تمشي في الشارع! عمري ما فكّرت كرجل إن المشي في الشارع مشكلة. لكن في ثياب امرأة اكتشفتُ أن مشوارًا صغيرًا هو "رحلة عذاب حقيقية”.) انتبهوا، هذا الشاب قد وصف لنا: (المعاناة العملية) التي تواجه النساء في التحرك من مكان إلى آخر في مجتمع لا يحترم المرأة، لكن هيهاتَ أن يصف: (العذاب النفسي) الذي لا تعرفه إلا الفتاةُ ذاتُها. خليطٌ مرير من الشعور بالمهانة والرِّخص والخوف والإذلال والرغبة في صفع المتطاول والرعب من ردّة فعله، والخوف من الشكوى للأم والأب والأخ والشرطة، لأن الإجاباتِ الحتمية ستكون: (بتخرجي وحدك ليه؟! بعد كده مفيش خروج إلا مع أخوكي……) من النادر أن تتوقع الفتاةُ كلامًا من الأهل مثل: (امشي بثقة رافعةَ الرأس ولا تهتمي، فالكلاب تعوي والأميراتُ تسيرُ!). فهي مُدانةٌ من أبيها وأمّها وشقيقها والمجمتع، مثلما هي مُدانةٌ من الذئاب الذين تحرّشوا بها، مثلما هي مُدانةٌ من أدعياء الدين الذين يملأون عقولَ الشباب بترّهات رخيصة من قبيل: (البنت بتستفز ذكورتي بملابسها!) وكيف تستفزُّ المحجبةُ والمنتقبة والطفلةُ "ذكورتَك أيها "الذكر المُستفَز" الذي لا كابح لغرائزه إلا المصحّاتُ العقلية والسجون؟! وكيف تزعمُ "القوامةَ" على المرأة؛ ولا قوامةَ لكَ على غرائزك؟!
شكرًا للقانون المصري الراهن الذي غلّظ عقوبة المتحرش. ولكن لابد من إقران العقوبة بالنبذ المجتمعي. التحرشُ قضيةُ "أمن قومي"، لابد أن تتضافر قوى المجتمع المدني بأكمله لكي تواجهها بحسم. التعليمُ والإعلامُ والسينما والتليفزيون والأسرةُ والقضاء والشرطة والشارع المصري، الذي تعمل "الجمهورية الجديدة" في عهد الرئيس السيسي على أن يعود إلى سابق عهده نظيفًا أنيقًا طيّبًا وآمنًا، مثلما كان قبل سموم الغزو الوهابي الذي اختصر التدين في "ملابس المرأة"؛ ليخلق ثقافة شكلية منافقة أغفلت "جوهر" النظافة والتُقى والتحضّر وقيم التهذّب السلوكي واللفظي التي تحثُّ عليها جميعُ الأديان حين يأمرنا كتابُنا: “قلْ للمؤمنين يَغُضّوا من أبصارهم"، وحين يؤكد الإنجيلُ أن الرذيلة تبدأ من عيني الإنسان، وليس من الآخر: “ فإن كانت عينُك اليمنى تعثُرك، فاقعلها عنك.” الفضيلةُ تكمن في "الإنسان الفاضل"، والأخلاقُ الرفيعة تسكن "ذا الأخلاق"، وليست رهنًا بما تلبسُ الصبايا.
ليتنا نأخذ القدوةَ من آبائنا وأجدادنا الذين عرفوا الفضيلةَ واحترموا النساءَ في ذلك الزمن النظيف، حيث كانت أمهاتنا يخرجن بالكعب العالي والملابس الأنيقة، دون أن تتفرّس في جسدها العيونُ الجوعى، ودون أن ترميها الألسنُ البذيئة برخيص القول، ودون أن تخشى المرأةُ من تحرّش أو اغتصاب أو بذاءة. نراهنُ على "الجمهورية الجديدة" نظيفة الروح والعقل والبدن كما يليق بمصرنا الجديدة. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترمُ نساءَ الوطن.”
***