النساء الريفيات والعُصاب



منال حميد غانم
2021 / 12 / 15

في طفولتي كان من السهل ارعابي ومشاهدة الناس يتألمون كانت الاكثر رعبا ، ولان السياحة محدودة في الجنوب وخاصة للأسر كانت المراقد الدينية هي الوجهة لدى الكثيرين ومنهم عائلتنا .وفي مرات عديدة كنت اشاهد امرأة تجتمع حولها عدد من النسوة داخل الأضرحة أو بالقرب منها محاولات السيطرة على حركاتها الهستيرية او التقليل من غضبها الصامت وهذا ماكان يثير استغرابي ،فكيف يمكن للانسان ان يغضب بجسده فقط دون صراخ ؟ بل فقط حركات جسدية غير ارادية ولم أكن أعلم أن غضب النساء غير مبرر. كانوا الكبار يفسرون لنا ذلك عل انها (مريضة). لكن ظلت تلك المشاهد مرعبة في مخيلتي ولانهم يعتقدون ان الصغار لايستطيعون الفهم اذا شرحوا لهم الحقيقة وحسنا فعلوا لانهم لن يشرحوا الحقيقة بل مايريدون ان يعتبروه حقيقة وهي أنها ( ممسوسة ) اي اضفاء المسحة الماورائية على تصرفات الشخص المريض . وهو تصرف يُفسر بالغالب اما بسبب يأسهم من حالته او عجزهم عن تفسيرها او لردع الاخرين كي لايتصرفوا بمثل ما فعل والا واجه المصير نفسه .
فما لايفسره العقل والمنطق يفسره الدين بالغالب. سواء كان سماويا أو ارضيا وكلما تقدمت نحو جنوب البلاد ستشاهد تلك المناظر اكثر وعند كل مرقد حقيقي او زائف، فهي تجارة رابحة في الاوساط الامية ومتدنية الوعي والتعليم فالناس لايداوّن مرضاهم عند طبيب مختص بسبب سوء الخدمات الصحية او بعدها. بل لد الاضرحة او المشعوذين فما بالك بالامراض النفسية . وغالبا تصرفات النساء غير المبررة أو غير المفهومة من قبيل عدم السيطرة على حركة عضو ما أو الارتعاش أو نفض الجسد أو القلق الدائم او اتخاذ الصمت خيارا او تجاهلها المحيطين بها او ذعرها من احدهم دون غيره او خوفها من مكان ما دون غيره او رفضها طفلها الوليد أو خروجها مذعورة ليلا او رفضها تناول الطعام او التقليل منه حد الاقتيات أو تسارع ضربات القلب ثم الاغماء بدون سبب واضح لايتم ارجاع أسبابها إلى الجانب الطبي أو النفسي، بل الى الغضب الالهي او عدم رضا الاولياء الصالحين وسخطهم وتتعدد الاساليب لنيل رضاهم والتخلص من مس الشياطين والجن فبعضها يحتاج مجرد جنس مجاني، واساليب اخرى تحتاج اموال طائلة يظل المريض أو عائلته يرفدون المشعوذين بها لقاء قسط بسيط من الراحة .فكيف اذن الحال لو كان هذا المريض انثى مطالبة بكم لايعد ولا يحص من الالتزامات المنزلبية والعائلية والاجتماعية وصيانة شرف العائلة والحاق بركب الزواج وانجاب الاطفاتل مبكرا ومسايرة الزوج وغيرها الكثير وبالأخص اذا كانت البيئة غاطسة حتى العنق بالجهل والأمية كالارياف مثلا .والنتيجة فأن عدم فهم المحيطين بما تعيشه النساء أو انعدام قدرتهم على تفسيره أو تجاهل منطقيته لايقود الا إلى تفاقم تلك الحالة وزيادة لوم المرأة كونها لا تقاوم ماتشعر به ويجب أن تكون اقوى أو اعتبارها متمردة أو متكاسلة أو مجنونة وهو الغالب . ومن ثم تتجلى إمكانية استبدالها كقطعة غيار بالية يتم تغييرها بواحدة اصغر سنا وأكثر مرحا وحياة لتدخل في احتمالية أن تتحول هي الأخرى إلى شخص غريب الأطوار كسابقتها وليست مريضة .
في الأرياف نشاهد مرض العصاب ولكن لا احد يشخصه كمرض . ويظهر بوضوح لدى النساء أكثر منه لدى الرجال. وأسبابه عديدة أهمها التعنيف والاهمال وانتكاسات الطفولة ففي العراق تشكل نسبة النساء الريفيات إلى الحضريات ٣٠٪ اي ثلث نساء البلد ريفيات ومع ذلك يتم معاملة الدولة لهن على انهن نسبة ضئيلة وكذلك المنظمات غير الحكومية المعنية بالنساء لا توليهن اهمية . فحياة الريفيات حياة قائمة على التهديد ، التهديد بالقتل اذا عشقت او عاشرت والتهديد بالتزويج جبرا أو دفعها دية عن قاتل أو التهديد بأهانة كرامتها والتزوج عليها أو التهديد بطلاقها وتركها عرضة لكي يُلاك اسمها بين الناس ناهيك عن أساليب التفنن الاخرى لإرهاب النساء وتحجيم تفكيرهن وتمردهن .
ان معاناتهن قانونية وخدمية وعرفية حيث استطاعت الثقافة الذكورية الصرفة لدى الذكور ايهامهن بدونيتهن بل تساعدهم في ذلك من تشربت بتلك الثقافة بترسيخها لدى الأخريات بالاقناع أو بالقوة. وليس لتفوقها او نضجها الفكري تتفوق عليهن بل بسبب نضجها الذكوري فهم لايمنحون سلطتهم لأي كان او لمن يعتقدون انها تزعزع عرشهم .
فوفق الجهاز المركزي للإحصاء هناك ٤٩.٦٪ امرأة ريفية ترى من حق الرجل ضربها إذا كانت قد خرجت من المنزل دون أن تخبره وهي نسبة ليست ضئيلة فحتى من لايتم ضربها تعتقد ان رجل غيرها يملك هذا الحق ومن الجبن وقلة الرجولة عدم استخدامه معززات ذلك باقوال دينية او عرفية قديمة .
و ٣٥.٥٪ امرأة ريفية ترى من حق الزوج ضربها إذا أهملت اطفالها لان مسؤولية الاطفال مسؤولية أحادية تقع على عاتق الام وحدها وكأنها تلد بالانشطار ولايشاركها ذكر في ذلك و ٣٨.٩٪ اذا جادلته و ٣٢٪ اذا رفضت ممارسة الجنس معه اي ان الجنس حق خالص للرجل وواجب على المرأة ومن الممكن أن يتم بدون تراضي مغطى بشرعية دينية وقانونية وعرفية صرفة . و ١٩.٤٪ امرأة ترى أنها اذا حرقت الطعام تستحق الضرب و ٢٩.١٪ اذا بذرت مال زوجها و ٤٦.٥٪ اذا افشت اسرار البيت .
فالعنف عمل مشرعن من الجانبين معا مع لمسة تسامح من السلطة متمثلة بتجاهل الاجرام بحق النساء هذا حتى لاتتصادم مع العشيرة أو الأعراف والتقاليد لتتدخل وتحمي مواطناتها .
ومع أن النساء في الريف تعمل على مدار الساعة سواء داخل المنزل متمثل بالأعمال المنزلية اليومية ورعاية كبار السن و ذوي القدرات و تربية الصغار فعملها هذا كأختها الحضرية لايصنف كعمل. ولا يضاف كقيمة إلى الدخل القومي وحتى عملها بصنع مشتقات الحليب ورعاية الماشية وبيع المنتجات وتوزيعها في المدن وعملها في الأرض كفلاحة لا يضاف إلى الدخل القومي لدرجة أن الجهاز المركزي للإحصاء في دراسته السنوية اعتبر النساء الريفيات العاملات لايشكلن سوى ٨.٦٪ فقط بينما الغالب الأهم منهن يعمل بل واقترح في تقريره العديد من المشاريع لتشغيلهن وتعليمهن الحياكة وصناعة المنسوجات وتطوير المنتجات الحيوانية .
أما عملها الرئيسي في الحياة من منظارا ذكوري هو الحمل والولادة إلى أن يتوقف رحمها عن العمل ليتم استبدالها. فلا يتم وقاية النساء من أضرار الحمل المبكر أو الولادات القريبة من بعضها بوسائل تنظيم الأسرة ف ٤٩.٧٪ من النساء الريفيات يستخدمنها والملاحظة البسيطة توحي بنسبة أقل من ذلك بكثير فأيقاف النسل لايتناسب مع الدين أو الأعراف العشائرية فالإكثار من الأطفال وتحديدا البنين هو عزة للذكور وتدعيم لسلطتهم. فمن تنجب البنات فقط ستظل تحمل وتلد حتى يأتي الذكر ليرفع اسم أبيه ونعشه، واذا كانت تلد ذكورا ستظل تحمل وتلد حتى تكثرهم. فكل ما تقدم يلقى على عاتق بشر وليس حجر صوان ومن الطبيعي أن يعتل نفسيا بسبب القهر والكبت وعدم الرضا فأصواتهن غير مسموعة وان سمعت فلغتهن غير مفهومة عمدا . في مقابلة مع احداهن قالت انا لا اتكلم حتى لو غصبوني على أمر جلل فأنا ملكهم وان تكلمت فما جدوى كلامي وهو لا بلا قيمة . ان العصاب مرض نفسي واعراضه تنبئ بوجود مشكلة تستحق الحل لا أن يتم تجاهلها .
بلا سلطة ،رعايا الدولة من الفئات الهشة والضعيفة هم فرائس سهلة لمن هم أكثر نفوذا وقوة فالحامي الاول لهن والمسؤول عن حل مشاكلهن هو الدولة ففرض القانون هو من يجعل الضرب لأي سبب كان جريمة معاقب عليها والجنس بالاجبار اغتصاب والتزويج بالإكراه جرم والحرمان من الدراسة جرم والحرمان من الخروج اختطاف أو حبس قسري وليست عادات وتقاليد بل جرائم .