نحو تحرير النسوية من الاستعمار وتجديدها



زهراء علي
2021 / 12 / 21

النص أدناه هو خاتمة كتاب زهراء علي، النسوية الإسلامية، الصادر عن دار نشر لافابريك، باريس، ٢٠١٦
لا تزال أعمال إدوارد سعيد راسخة الحضور حول الاستشراق (1) الذي أظهر كيف بنيت صورة الشرق القبيحة التي تسيطر عليه الظلامية والتخلف، لصالح صورة الغرب التقدمي، الحديث والمساواتي. هذا التجسيد للشرق سمح بتبرير الهيمنة الاستعمارية على النساء المسلمات، خاصة حيال مسألة الحجاب، الذي كانت رأس حربة تلك المهمة المسماة حضارية(2). تصدّى فرانتز فانون في نص كتبه بعنوان “معركة الحجاب(3)”، المسألة الأساسية المكونة لموضوع نزع حجاب الجزائريات خلال الهيمنة الاستعمارية الفرنسية. كان يُعتبر حجاب النساء رمزاً رجعياً بامتياز للمجتمع الجزائري وصُوّر الاستعمار كناشر للحضارة ومن أهدافه الأولى “تحرير” الجزائريات من البطريركية العربية-المسلمة التي كنّ ضحايا لها وبالتالي نزع الحجاب عنهنّ. ونظمت احتفالات نزع الحجاب في الأماكن العامة، في الجزائر من بينها الأشهر التي جرت يوم 13 أيار/مايو 1958، التي نشرت أخبارها بكثافة وقدمت كنموذج لشرعية الوجود الفرنسي في الجزائر.


كذلك، فإن حجة تحرير وتحرر المسلمات كانت مركزية خلال الاستعمار، وهذه النسوية الاستعمارية كانت بمثابة الأساس لحجة نشر الحضارة في “العالم الإسلامي”. المفردات المستعملة في “معركة الحجاب” التي وصفها كل من سعيد وفانون تتردد بشكل مؤثر لكيفية طرح مسألة الحجاب اليوم، وبشكل أوسع مسألة “النساء في الإسلام”. تُظهر أعمال ليلى أحمد(4) بشكل جلي الجدل الحالي حول الإسلام وموضوع المسلمات التي هي آتية من السردية الاستعمارية حول “العالم الإسلامي” خلال القرن الـ19. تظهر أن طريقة تعريف الحجاب، وإعادة تعريفه، والاحتجاج عليه والمطالبة به، من بينهم/ن من المسلمين/ات، مرتبطة بتحديده في السردية الاستعمارية كرمز من طبيعة قمعية وبطريركية وظلامية في الإسلام. كذلك، في مصر عند نهاية القرن الـ19، وفي وقت كانت تضع تقريباً كل النساء الحجاب، ومن بينهن اليهوديات والمسيحيات والمسلمات، وحده الحجاب الذي تضعه المسلمات وصف من قبل البريطانيين، من بينهم كان لورد كرومر أحد المسؤولين، كرمز لقمع النساء وتخلف الإسلام. مذاك، كانت تتبلور السرديات والخطابات حول الحجاب- فرض الحجاب ونزعه- بشكل كبير متبعة ذلك التحديد الإقصائي(5). كذلك الحجاب الذي يحمل منطقه الديني الخاص المعرف بواسطة الأرثوذكسية الإسلامية، وضعته الجزائريات كرمز لمقاومة الاستعمار الفرنسي، ولاحقاً من الإسلاميات من أجل التعبير عن رفضهن للنموذج الغربي ومن أجل دفاعهن عن الحداثة الإسلامية البديلة(6)، أو حتى اليوم في فرنسا من قبل النساء العائدات إلى الإسلام المحتجات ضد الأوامر الاندماجية(7).
رسوخ هذه السردية المستغلة للنسوية لأهداف استعمارية وامبريالية شديد التأثير في مرحلة ما بعد 11 أيلول، حيث استثمر موضوع “تحرير النساء” بشكل واسع من قبل إدارة بوش من أجل تبرير الحروب الامبريالية في أفغانستان والعراق(8). والجملة الشهيرة لغاياتري سبيفاك “الرجل الأبيض يحرر السمراوات من الرجال السمر”(9) لا تزال تتردد، وبشكل أكبر عندما لا يكتشف الرجال عادة النسوية إلا عندما يريدون التحدث عن التمييز الجندري عند الآخرين. كذلك ليست مسألة عابرة أن حاكم مصر لورد كرومر(10) الذي دعا إلى نزع حجاب المسلمات كان رئيساً وعضواً مؤسساً في الرابطة الرجالية ضد حق النساء بالانتخاب. كذلك لم تكن مسألة عابرة عام 2004، في فرنسا، عندما شرّعت الجمعية الوطنية المكونة من 90 بالمئة من الرجال قانوناً يمنع ارتداء الحجاب الإسلامي واعتبرت ذلك، في الوقت نفسه، دفاعاً عن حقوق النساء. بمواجهة هذا الاستخدام اللافت للانتباه للنسوية لأهداف عنصرية، وعلى الرغم من الثقل التاريخي للمنطق الكامن وراء التعاطي السياسي والإعلامي مع موضوع المسلمات اليوم، قليلة هي الأصوات التي يتم الاستماع لها، خاصة داخل التيارات المتعددة المكونة للحركة النسوية، من أجل الاعتراض على هذا المنطق وللتمايز عنه.
في فرنسا، وخلال السنوات الأخيرة، تعاقبت السجالات حول الحجاب وكذلك حول مجمل القوانين والتعاميم والمناقشات البرلمانية مقارنة مع ارتداء النقاب في الأماكن العامة، حول “الحاضنات” المرتديات للحجاب، مروراً بالأمهات المحجبات المرافقات لأولادهن إلى المدرسة، هي دلالة على انتشار الخطاب الإسلاموفوبي. موجهةً ضد النساء والصبايا، دائماً بحجة العلمانية والنسوية، تلك الإجراءات العنصرية والتمييزية، ليس فقط لم ترفضها الحركة النسوية في فرنسا، ولكن وجدت تلك الإجراءات في صفوف المناضلات من تبناها باعتبارها ضمانة “نسوية”.
أظهرت نصيرة غينيف سويلاماس كيف أن الحركة النسوية الفرنسية ارتكبت حماقة السردية الجمهورية وبنت خطابها انطلاقا من الصورة البشعة “للفتاة المحجبة” و”الصبي العربي” التي تمثل أعداءها الأساسيين (11). جزء من الحركة النسوية، اختار تجسيد الآخر، المسلم، كحامل لكل المساوئ: الذكورية، التمييز الجندري، التخلف، الأصولية. كما أنها جردت معنى الالتزام النسوي من خلال اعتمادها ضمنياً على منطق يعتبر المجتمع الفرنسي “مجتمعاً أصيلاً” وهو بمجمله وبطبيعته مساواتي، مبعدة كذلك عن أولوياتها الأسئلة النسوية الحقيقية. باختيارها الاعتماد على المنطق الإسلاموفوبي ووصم ارتداء الحجاب ووصف الثقافة والدين الإسلامي أنها بطبيعتها حاملة للتمييز الجندري، وقع الكثير من النسويات في الجوهرية والهيمنة نفسها اللواتي ساهمن بنقدها ورفضها. استمراراً للنسوية الاستعمارية، الطريقة التي بنت فيها النساء والنسويات الغربيات هويتها على نقيض من نساء الجنوب المعتبرات فقيرات، غير متعلمات، مسجونات في حالة الضحية، معزولة في البيت العائلي، المتدينات، والتقليديات، جرى تحليلها طويلاً(12). أما المرأة الغربية فقدمت على العكس تماماً: متعلمة، حديثة، سيدة جسدها، حرة ومستقلة. بنفس طريقة النسويات السودوات الأميركيات اللواتي أثبتن كيف أن الهوية النسائية الأميركية تعرف عن ذاتها بشكل متعارض مع المرأة السوداء، وخاصة عبر أسطورة “الأمومية السوداء(13)”.
خلال قضية دومينيك ستراوس كان، شهدنا تضامناً طبقياً كاملاً و”عرقياً” إلى جانب المدير السابق لصندوق النقد الدولي، وأحيطت الفضيحة بصمت وقح من الطبقة الحاكمة الفرنسية، من ضمنهم/ن عدداً كبيراً من الشخصيات النسوية(14). حتى أن البعض منهم/ن وصل الأمر بهم/ن إلى التقليل من الاغتصاب حيث شبهوا الجريمة بالتطهرية الأميركية، بعيداً عن تقاليد الإغواء وفق الطريقة الفرنسية. “دومينيك ليس إلا إغوائي… ما الخطأ في ذلك!”. هكذا، فإن التمييز الجندري والاغتصاب والعنف هي دائماً من فعل الآخرين، “أبناء الضواحي”، الطبقة البرجوازية الفرنسية “الأصيلة عرقياً” كما هو معلوم، هي بعيدة عن ارتكاب كل ذلك. كشفت هذه القضية طبقات من الأسئلة الجندرية والاجتماعية و”العرقية” وأثبتت مدى منطقية التحليل والنضال لهذه التعابير. فالمسائل الاجتماعية و”العرقية” لا يمكن وضعها بعيداً عن قضية الجندر. كما أثبتت رائدات الحركة النسوية السوداء من خلال صياغتهن للمعادلة الشهيرة: “كل النساء هنّ بيض وكل السود هم رجال”(15) طريقة جنسنة الجسد هي أيضاً طريقة إلى عرقنته، ولا يمكن للنسوية أن تدمج ضمن تحليلها ومساءلتها للهيمنة البطريركية أشكالاً أخرى من الهيمنة، وإلا تكون هي نفسها وعاء للعنصرية.
الأخذ بعين الاعتبار للأشكال المتعددة من الهيمنة، والتي يمكن أن تظهر بين النساء ومن شأنها أن تجعل من كليّة المرأة مسألة نسبية، وذلك لا يضعف النسوية بشيء، ما عدا إذا أدركناها بطريقة متجانسة. ولكن، وحدة النسوية وتعدديتها هي أمر ممكن(16). بناء التحالفات بين الأشكال المختلفة من النسوية ليس ممكناً إلا بالاعتراف بالاختلافات والفروقات التي تقسم النسويات فيما بينهن، من ضمنها الصراعات الخاصة بكل تحالف. الاختلافات التي تفصل النسويات المسلمات عن النسويات الأخريات ليست هي بحد ذاتها عوائق للنضال المشترك حول المسائل الأساسية التي تشكل الالتزام بحقوق النساء، ولكن عدم الاعتراف بتلك الاختلافات يمكن أن يمنع أي شراكة. التحالفات ممكنة إذا كانت برامج وأولويات نضال البعض لا تفرض على الآخرين، وحيث ثمة اعتراف حقيقي بتعددية أشكال النضال من أجل حقوق النساء(17).
في فرنسا، النسويات المسلمات لا يعرفن الهرمية فيما بينهن، من جهة، النضال ضد الهيمنة الذكورية والتشجيع على إجراء قراءات للإسلام بشكل يتوافق مع اقتناعاتهن النسوية، ومن جهة أخرى، النضال ضد العنصرية والإسلاموفوبيا التي توصمهن وأشقائهن، وربط الكل بالظلامية والرجعية. هذا التداخل في مناهضة التمييز الجندري ومناهضة العنصرية ليس خياراً، إنما هي موقف بمواجهة الاضطهاد المزدوج. انطلاقاً من ذلك، تعيد ملاءمة النسوية، وتعيد تعريفها، وتغذيها، وتساهم كذلك في تجديدها. هذه النضالية الجديدة، من خلال تنوع مكوناتها (اجتماعية ودينية وعابرة للأجيال، والمسارات النضالية فيها…) تسمح بالواقع إلى تحرر النسوية، وأن تضعها في صلب النقاشات حول التفاوت الاجتماعي والعنصري والجندري.
المسائل النسوية الأساسية مثل الاغتصاب، والعنف المنزلي، والتحرش الجنسي، والتفاوت في الأجور والتفاوت في توزيع المهام المنزلية، والتمييز الجندري في وسائل الإعلان والتجسيدات المعيارية، المقزمة للنساء، والمسلعنة لأجسادهن، والصور المحطة المسوقة في عالم الأزياء التي تؤثر على طريقة لبسنا وتسائل طرق الاستهلاك، كل هذه الأسئلة تجمع النساء وهي في صلب حياتهن اليومية. تثبت أهمية هذه الأسئلة كم هو ضروري لتجديد النسوية، الاعتماد على “نسوية بلا حدود(18)” التي تجمع الأسئلة الاجتماعية والعرقية إلى جانب نقدها للهيمنة الذكورية. من خلال الاعتراف بتعددية الطرق حتى نكون نسويات وشرعية السرديات النسوية البديلة التي تتمفصل وتتبنى مراجع مختلفة، والتي يمكن أن تكون دينية نابعة من إرث مختلف وتقاليد سياسية مختلفة، يمكن للنسوية أن تتعزز بذلك.
الهوامش:

Said E., L’Orientalisme. L’Orient créé par l’Occident, Le Seuil, 1980.
من بين هذه المواضيع، مسألة معاينة طبيب للنساء، ليلى أحمد تستشهد حول هذا الموضوع بلورد كرومر، المسؤول عن الإشراف على الهيمنة الاستعمارية البريطانية في مصر: “أنا على علم أنه في بعض الحالات الاستثنائية تحب النساء مراجعة الطبيبات، لكنني أعتقد أنه من خلال العالم المتحضر، العلاج بواسطة الأطباء لا يزال هو القاعدة”. In Ahmed L., Women and Gender in Islam. Historical Roots of a Modern Debate, Yale University Press, 1992, chap. 8, « The discourse of the veil», p. 154.
Fanon F., « L’Algérie de dévoile », dans L’An V de la révolution algérienne, La Découverte, 2001.
Women and Gender et A Quiet Revolution.
A Quiet revolution.
Göle N., Musulmanes et Modernes. Voile et civilisation en Turquie, La Découverte, 1993 Ahmed L., A quiet Revolution, op.cit., Mahmood S., Politics of Piety. The Islamic Revival and the Feminist Subject, Princeton University Press, 2005 Lila Abu Lughod, Remaking Women. Feminism and Modernity in the Middle-East, Princeton University Press, 1998.
Khosrokhavar F., L’Islam des jeunes, Flammarion, 1997, chapitre « L’islam au féminin », p. 117 à 142 et Gaspard F. (en collab. avec) Le Foulard et la République, La Découverte, 1995 Cesari J., Musulmans et républicains. Les jeunes, l’islam et la France, Complexe, coll. « Les Dieux dans la Cité », Bruxelles, 1998 Venel N., Musulmanes françaises. Des pratiquantes voilées à l’université, L’Harmattan 1999 et Ali Z. et Tersignif S., « Feminism and islam : a post-colonial and transnational reading », in Exchanges and Correspondence : The Construction of Feminism, -dir-. C. Fillard et F. Orazi, Cambridge Scholars Publishing, oct. 2009 « Féminisme et islam : entretien avec Zahra Ali », in Féminisme au pluriel, coll. « Cahiers de l’Émancipation », Syllepse, sept. 2010.
Lila Abu-Lughod, « Do muslim women really need saving ? Anthropological reflections on cultural relativismand its others », in American Anthropologist 194 (Sept. 2002) : 783–790.
Gayatri Spivak, « Can the subaltern speak ? », publié pour la première fois en 1988 in Cary Nelson and Lawrence Grossberg’s Marxism and the Interpretation of Culture, University of Illinois, 1988.
المسؤول عن الإشراف على الهيمنة الاستعمارية البريطانية في مصر.
La République mise à nu par son immigration, La Fabrique, 2006, Macé É. (en collab. avec) Les Féministes et le garçon arabe, Aube, 2004.
Mohanty C., Under Western Eyes, op. cit.
Davis A., Femmes, race et classe, Éditions Des Femmes, 1983, et Black Feminism, op. cit. p. 34-42.
Christine Delphy, Un troussage de domestique, Syllepse, 2011.
Hull G., Scott P. B., Smith B., All the Women are White, All the Blacks are Men but Some of Us are Brave : Black Women’s Studies, Feminist Press, 1982.
Chandra Talpade Mohanty, Feminism without Borders : Decolonizing Theory, Practising Solidarity, Duke University Press, 2003.
في فرنسا، تجربة تجمع النسويات من أجل المساواة مهمة في هذا الموضوع
Mohanty C. T., Feminism Without Borders : Decolonizing Theory, Practicing Solidarity, Duke University Press, 2003.
Share this: