الفصل الثاني: روسيات في باريس: “إلى المتاريس!”



جودي كوكس
2022 / 1 / 18



الفصل الثاني من كتاب ثورة النساء: روسيا 1905-1917

لاحظت ذلك الثورية العظيمة روزا لوكسمبورغ: قبل حدوث الثورة، نعتقد أنها مستحيلة، ولكن بعد حصولها نرى أنه لا مفر منها. ساعدت العاملات والاشتراكيات لتحويل المستحيل إلى ممكن. لم يكن لدى الروس/يات تقاليد ثورية يبنون عليها. كان عليهم/ن قراءة كتابات كارل ماركس وفريديريك أنغلز وتجارب الثورات الأوروبية العظيمة للاستلهام منها. الانتفاضة العظيمة في نهاية القرن 19 كانت كومونة باريس. تكشف بطولة المنتفضين وقائع جديدة عن كيف أن الطبقة الحاكمة تتمسك بالسلطة وكيف النساء، والرجال كذلك، يمكن أن يناضلوا/ن ضدها. من خلال شبكة من المناضلين المتضمنة النساء، كان للكومونة الأثر العميق على السياسات الاشتراكية في روسيا التي صحّت جيلاً كاملاً من الثوريين/ات.

يوم 18 آذار 1871، وقفت مجموعة من الباريسيات بين كتيبة من الجنود ومدافعهم. كانت النساء مصرات على حجز المدافع حتى يستطعن الدفاع عن مدينتهن بوجه الجيش البروسي. فالحكومة الفرنسية كانت قد استسلمت أمام الجيش البروسي بعد أشهر من القتال وحصار كارثي لمدينة باريس. لكن الباريسيين/ات كانوا/ن مصرون/ات على القتال. في الساعات الأولى من النهار، نشرت موزعات الحليب على البيوت خبراً أن الجنود كانوا يأخذون المدافع. عندما واجهت الباريسيات الجنرال لوكمبت، أمر جنوده بإطلاق النار عليهن. فهتفت النساء بوجهه: “ستطلق النار علينا؟” لم يتمكنوا من فعل. بدلا من ذلك، تعاون الجنود معهن وأعدموا الجنرال. عند الظهر كانت أغلب المدافع بيد الباريسيين/ات.

كانت الحادثة الشرارة التي أطلقت كومونة باريس. هبّ/ت المنتفضون/ات للسيطرة على المدينة، إحدى أكبر المدن في العالم، لمدة شهرين من الزمن. خلال هذا المسار، تحدوا/ين النظام الاجتماعي السائد ونشروا آمالاً تتضمن الاشتراكية وحقوق النساء. “في كل المدينة، المنتفضات أطلقت، وألهمت ونظّرت وقادت الثورة”.(8) سحقت النساء الأحكام المسبقة السائدة حول دورهن وفرضت حقهن في المشاركة في خلق المجتمع الجديد. والأكثر أهمية، أن الروسيات لم يلعبن فقط دوراً مهما في الكومونة، إنما أيضاً نقلن معهن تجاربهن إلى الحركة الثورية في روسيا.

في روسيا خلال الـ1860ات، “هبّت رياح الثورة على الجيل الجديد من الانتيلجنسيا”(9) وقد انعكس ذلك في الأدب وقتها، على سبيل المثال رواية نيقولا تشيرنيشيفسكي ما العمل؟ الصادرة عام 1863، التي كان لها التأثير الكبير. في ذلك الوقت بدأت النساء من الطبقة الوسطى المثقفة بالنضال ضد مجتمعهن القمعي والبطريركي ويطالبن بالتعليم الممنوعات عنه من النظام القيصري. كتبت صوفي كروكوفسكي: “انتشر نوع من الوباء بين الأطفال، وخاصة بين البنات، الرغبة بالفرار من البيت العائلي”.(10) صوفي كانت قد هربت من عائلتها العسكرية والغنية إلى سويسرا حيث أصبحت مختصّة مميزة في الرياضيات. شقيقتها آنا سافرت معها إلى جنيف حيث التقت وتزوجت الثوري، فيكتور جاكلارد، وعقدت صداقة مع راديكالية روسية، إليزابيث دميترييف. ثم توجهت آنا جاكلارد إلى باريس حيث عملت في تجليد الكتب وأصبحت مناضلة في الأممية الأولى: “اكتشفت تباعاً أهمية النضال والثورة العمالية”(11).

خلال الكومونة، ساعدت آنا جاكلارد على إقامة لجنة اليقظة في مونمارتر، التي نظمت المشاغل والإسعاف، وحرضت من أجل حقوق النساء وأرسلت النساء للتحدث في النوادي السياسية المؤثرة. وصفت الكتابات المعاصرة كيف طغى صراخ النساء وبكاء الأطفال وربطات الشعر الحمراء على بعض من تلك النوادي. عندما طلبت الكومونة المساعدة، أعلنت لجنة آنا جاكلارد: “نساء مونمارتر، المتأثرات بالروح الثورية، يتمنين التأكيد من خلال أفعالهن على مدى التزامهن بالثورة”(12). كما أسست جاكلارد وكتبت في مجلة اشتراكية وتبادلت الرسائل مع كارل ماركس.

كما كان هناك منظمة في الكومونة شديدة التأثير هي اتحاد النساء، أسستها صديقة آنا الروسية، إليزابيث دميترييف التي كانت ابنة شخصين غير متزوجين، ضابط خيّال غني من روسيا وممرضة شابة. انضمت إلى الحلقات الراديكالية خلال الـ 1860ات وكذلك سافرت إلى سويسرا حيث التقت بالثوريين/ات الروس/يات الذين/اللواتي أرسلوها إلى لندن حتى تلتقي بكارل ماركس. فأمضت ثلاثة أشهر في لندن، حيث تحدثت مع كارل ماركس وبناته لورا وجيني وإليانور كما التقت بالعديد من الاشتراكيين. ورد ذِكر موجز لإليزابيث في رسالة ابنة ماركس جيني إلى زوجها المستقبلي تخبره فيها عن مدى التزام إليزابيث الثوري، كما تغمز من قناته لناحية كيف أنه على النساء الاختيار بين النضال السياسي والعلاقات الجنسية. إليزابيث لم تكن تريد أن تبتعد صديقتها عن التزامها السياسي وأن تختار الزواج التقليدي بدلاً عنه. كتبت جيني كيف كانت سترد إليزابيث لو قرأت رسائلها الغرامية. “كم ستشعر بالاشمئزاز، وكم سيخيب أملها هي التي بذلت كل ما في وسعها حتى تجعل مني بطلة، مدام رولاند أخرى [ثورية فرنسية]… لا تنسى أنك أنتَ من حرمت العالم من هذه البطلة.” (13)

عيّن ماركس دميترييف مبعوثة له إلى باريس عام 1871. كان عمرها 20 سنة فقط، لكنها أثبتت أنها زعيمة ثورية تتمتع بشخصية كاريزماتية وفعالة. فأسست اتحاد النساء في شهر نيسان/أبريل من أجل دعم الكومونة بين العاملات. نظم الاتحاد النساء من مهن مختلفة، الخياطات ومجلدات الكتب وصانعات الورق وملمعات الذهب. كان الاتحاد في وسط محاولات الكومونة لإصلاح ظروف العمل وطبيعة العمل نفسه من خلال نظام جديد يقوم على ورش العمل. وقد ذكرت دميترييف: “بإبعاد العمل عن عبودية الاستغلال الرأسمالي، تشكيل هذه المنظمات سيسمح في نهاية المطاف للعمال بإدارة أعمالهم بأيديهم”(14). كافحت دميترييف وجاكلارد من أجل وحدة العمال والعاملات، وعارضت دعوات الرجال لاستبعاد النساء من الوظائف المدفوعة الأجر حتى لا تتقلص معدلات أجورهم المرتفعة.

وعندما شنت الحكومة الفرنسية هجومها الإجرامي على الكومونة، بقيت دميترييف والعديد من النساء على المتاريس لعدة أيام. قتل الآلاف من المنتفضين/ات بالرصاص وأعدم ورُحِّل الكثير. اعتقلت آنا جاكلارد وزوجها. حكم عليه بالإعدام وهي بالأشغال الشاقة المؤبدة. لحسن حظهما، تمكنا من الفرار إلى لندن حيث استقرا لدى كارل ماركس. عند عودتهما إلى روسيا، أقامت آنا صلات مع المجموعات الثورية القريبة من إرادة الشعب، منظمة دعت إلى العنف الثوري وإلى تشجيع الفلاحين على الانتفاضة ضد القيصر. كما نجت إليزابيث دميترييف من القمع ووصلت إلى روسيا.

شكّلت تجارب كومونة باريس التقاليد الاشتراكية في أوروبا عبر الأممية الأولى على وجه التحديد، وكانت جاكلارد ودميترييف نشيطتين في القسم الروسي. بعد الكومونة، أدرك الكثير من الاشتراكيين أن العاملات يمكن، ويجب، كسبهن لقضية الاشتراكية. كانت تجربة الكومونة جزءاً أساسياً من كتاب لينين الدولة والثورة(15) وشكّل الأساس لفهم البلاشفة للدولة. لقد كان ذلك بمثابة تحذير رهيب لأولئك الذين اعتقدوا أنهم قادرون على الانتفاض ضد حكامهم دون مواجهة الدولة، وهكذا، فقد كانت الكومونة إحدى الروافد التي صبّت في الثورة الروسية.

الهوامش:

8. Carolyn J Eichener, Women in the Paris Commune: Surmounting the Barricades, (Indiana, 2004), p.25.

9. Edith Thomas, The Women Incendiaries: The Fantastic Story of the Women of the Paris Commune Who Took up Arms in the Fight for Liberty and Equality, (New York, 1966), p.75.

10. Cathy Porter, Fathers and Daughters: Russian Women in Revolution, (London, 1976), p.121.

11. Thomas, Women Incendiaries, p.75.

12. Ibid., p.114.

13. Mary Gabriel, Love and Capital: Karl and Jenny Marx and the Birth of a Revolution, (New York, 2011), p.433.

14. Thomas, Women Incendiaries, p.70.

15. Vladimir Ilyich Lenin, State and Revolution (New York, 1932).