النسوية العربية: رؤية نقدية



هاني جرجس عياد
2022 / 1 / 29

دخلت الأفكار والمقولات النسوية الغربية إلى العالم العربي بشكل متفاوت، عن طريق عدة قنوات، أهمها: البعثات العلمية إلى دول الغرب، وكذلك من الأعمال الذي قدمها رجالات النهضة من المثقفين العرب، وعن طريق تقليد الشرائح الاجتماعية شبه الارستقراطية للثقافة الغربية ومسالكها. وقد تشكلت النسوية العربية خلال ثلاث مراحل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، وذلك على النحو التالي:
أ‌- المرحلة الأولى:
تسمى هذه المرحلة بـ “عصر النهضة”، التي ترافقت مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798. وكانت أبرز ملامح النسوية في هذه المرحلة تتمثل في:
●الاهتمام بمسألة المرأة في هذه المرحلة بشكل ثانوي، وملحق بقضية النهضة، لذلك لا تكاد تخرج المطالب على حق المرأة في التعليم.
●الحديث عن حق المرأة في العمل، لكنه لم يكن شاملاً مطلقاً كما هو في المراحل التالية، وأيضاً دعوا إلى الاختلاط بين الجنسين؛ لأن ذلك من مقتضيات التعلم والعمل، حسب رأيهم، وليس من منطلق المساواة بين الجنسين.
●لم تُطرح فيه قضايا مباشرة مناقضة لثوابت الدين ومسلماته، ولم يتم نسبة التخلف الذي كان عليه حال المرأة إلى الدين.
●في هذه المرحلة الدعاة لحقوق المرأة كانواً رجالاً، وغاب العنصر النسائي.
ب- المرحلة الثانية:
اختلف الباحثون في تحديد بداية هذه المرحلة، فمنهم من يرجعها إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، الذي أصدر فيه مرقص فهمي كتابه “المرأة في الشرق” عام 1894م، والذي أحدث هزة كبيرة في المجتمع؛ لأنه نقل موضوع حقوق المرأة إلى ميدان المواجهة مع المعتقدات الإسلامية، ومنهم يرجع بدايتها لكتاب قاسم أمين عام 1900، والذي دعا فيه المرأة العربية إلى اقتفاء أثر المرأة الغربية، وسلك المسلك العلماني الليبرالي عند طرحه لقضايا المرأة.
كذلك نشطت هذه المرحلة في مصر بتأسيس الاتحاد النسائي المصري عام 1923 وحضرت رئيسة الاتحاد الدولي للحركة النسوية في العالم إلى مصر لمساعدة المصريات في بناء التنظيم ودعمه، ومن أبرز نسويات هذه الفترة هدى شعراوي وصفية زغلول. وكانت أبرز الملامح النسوية في هذه المرحلة:
●أصبحت الكتابات تتجه نحو المناداة بالالتحاق بركب الحضارة الغربية، وجعل المرأة الغربية نموذجاً يحتذى به، وتناولت موضوعات لم تُطرح من قبل، مثل: المساواة بين الجنسين في مرافق التعليم.
●ظهرت المرأة في ميدان التأليف للدفاع عن حقوق المرأة، ولم يَعُدْ مقتصراً على الرجال فحسب كما كان في المرحلة الأولى كدرية شفيق، والتي أصدرت مجلة “بنت النيل“.
●نظمت المرأة نفسها في سبيل نيل حقوقها في الاتحادات النسائية التي ظهرت في تلك المرحلة، وشاركت من خلالها في المؤتمرات العالمية التي تدرس وضع المرأة.
●محاولة توظيف الدين ونصوصه لتصبح صالحة للاستدلال عليها في كتاباتهم ودعواتهم.
ج. المرحلة الثالثة:
تعود بداية هذه المرحلة إلى الخمسينيات، ويرجع اعتبار هذه الفترة فترة مستقلة عن سابقتها، ونشطت في هذه الفترة حركة ثقافية قامت بترجمة الكثير من الأدبيات الفكرية والفلسفية بكافة تياراتها، والتي تخص قضية المرأة وتحررها على منظورٍ مغايرٍ للمنظور الديني، وهي التي قدمت للكُتَّاب العرب الأساس النظري في قضية المرأة، الذي يمكِّنهم من الاسترشاد في قضية المرأة على ضوئه. ومن أبرز الملامح النسوية في هذه المرحلة:
●انتقلت الدعوات النسوية في هذه المرحلة من مرحلة التأثر بنمط الحياة الظاهري والعملي للمرأة الغربية إلى مرحلة استلهام الرؤى الفلسفية الغربية، وجعلها عقيدة للمرأة في حركتها ووضعها.
● انتشر في بعض الأدبيات الربط بين تحسين وضع المرأة أو تغييره، وبين التغيير الشامل والجذري في قيم المجتمع.
●زاد الاهتمام بدراسة النوع “الجندر”، حسب أطروحات الدراسات الغربية.
وقد واجهت هذه الأفكار العديد من الانتقادات والهجوم نظرا لكونها تخرج عن الإطار المجتمعي والثقافي، كما تتعارض بشكل صريح مع الأطر الدينية التي تتبناها المجتمعات العربية والإسلامية، لذا ظهرت بعض التوجهات الجديدة التي حاولت الموازنة والمواءمة بين اعتبارات الفكر النسوي والمطالبات بحقوق المرأة، وبين الإطار الشرعي للدين الإسلامي، وظهرت اتجاه فرعي جديد للنسوية، تحت مسمى "الاتجاه النسوي الإسلامي".
- الاتجاه النسوي الإسلامي:
وهو اتجاه نسوي فرعي للاتجاه العربي، ظهر كرد فعل لانتشار أفكار المدرسة النسوية الغربية، وانطلاقا من ضرورة احترام الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمعات العربية، وبدأ مصطلح النسوية الإسلامية بالظهور في تسعينيات القرن الماضي، وتعتبر الناشطة الإيرانية زيبا مير حسيني أول من استخدمه. أما أبرز الحركات التي نشأت تجسيدًا لفكرة النسوية الإسلامية فهي “حركة مساواة”، وهي حركة عالمية انطلقت في مؤتمر عُقد في ماليزيا عام 2009 وحضره أكثر من 250 امرأة ورجلا من نحو 50 دولة حول العالم، وكانت الناشطة الإيرانية زيبا مير حسيني إحدى المؤسسات إلى جانب 12 شخصية أخرى. ونال المصطلح شهرته على يد الأمريكية آمنة ودود، أستاذة التفسير في جامعة فرجينيا، وتعتبر مُؤسسة المرأة والذاكرة التي أسسها عدد من النساء أبرزهن أميمة أبو بكر وهدى الصدة. ويمكن توضيح أهم خصائص المعرفة النسوية الإسلامية في النقاط التالية:
●أصالة المكون الميتافيزيقي جنبا إلى جنب مع المصادر المادية للمعرفة، ويعني ذلك المكوّن الإيمان بالله وبالغيب.
●أن المعرفة النسوية الإسلامية تستند إلى إطار معرفي عقائدي أكبر، وهي بذلك تتشابه مع النسوية الليبرالية والاشتراكية في انتمائها لغطاء فكري وعقائدي أكبر، وتبتعد عن نسوية ما بعد الحداثة التي ترفض المعرفة قبل النسوية.
●المعرفة النسوية في المنظور الإسلامي هي معرفة نقدية في جوهرها ومضمونها، إصلاحية في هدفها.
●محكومة بالضوابط الموضوعية والمنهجية الإسلامية.
●معرفة تحررية ضد السلطة المطلقة لفرد أو جنس أو رأي أو نظام وحيد.
●نمو المعرفة النسوية رهين بنمو تيار ثقافي اجتهادي في نسيج المعرفة والثقافة الإسلامية عموما.
 وقد انقسم الاتجاه الإسلامي للنسوية إلى تيارين أساسيين:
 التيار الأول: التيار النسائي الإسلامي
وأهم ما يميزه إيمانه الكامل بكل ما جاء به القرآن من أحكام متعلقة بالنساء دون ليّ أعناق النصوص، وأن ما جاء به القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، واحترامه للتفاسير مع ترجيحه لتفسير دون آخر استنادا لقوة الدليل، وتؤمن باحثات هذا التيار بكل الأحاديث الشريفة التي صحّت سندا ومتنا، ومما يميزه أنه لا يعتمد على الفصل العنصري، ومن ثم يجتهد في هذا المجال الكثير من الرجال والنساء.
ويتشدد هذا التيار في الحرص على إثبات خصوصية هويته الإسلامية، بدءا من المصطلح "النسائي" نسبة إلى النساء، وهي اسم سورة سور القرآن الكريم، وتمييزا له عن مصطلح التيار النسوي الغربي، ويرى رواد هذا التيار أن الالتزام بأحكام الدين المتعلقة بالمرأة كجزء من الالتزام العام بالنظام الإسلامي بشموليته، وهو كفيل بحل كل المشكلات والتحديات التي تواجهها النساء، ويأخذن موقفا نقديا من الوثائق الأممية، لاعتقادهم بأنها تأسست على هدم وتفكيك الأسرة وتزييف الوعي وتشبيه النساء بالرجال، وبرز هذا التيار بشكل أكبر في البلدان الإسلامية الأكثر تشددا كالسعودية. ولم يتجاوز كونه تيارا نظرياُ ناقدا للرؤية الغربية، له بعض الكتاب والمفكرين والكثير من رموزه هم من دارسي الشريعة الإسلامية، لكن لم يحظ التيار بمساحات واقعية واسعة للتطبيق.
 التيار الثاني: النسوية الإسلامية
وهو تيار أكثر مرونة من التيار الاول، فآمن بالفكرة النسوية بوجه عام ورأى أنها ليست نتاجا غربيا، وإنما هي أفكار تكوّنت عبر نضال النساء على مدار التاريخ إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه، ويرفض هذا التيار الفكر النسوي المتطرف الذي يعتمد على هدم كل آليات المعرفة السابقة والذي ينحاز للنساء ويبحث عن استقواء أنثوي مقابل الاستقواء الذكوري، لكنه يؤمن بأطروحة "الجندر" أو النوع الاجتماعي ويتعاطى معها بإيجابية، ويرى رموز هذا التيار أنه لا تعارض بين الفكر الإسلامي وبين الفكر النسوي أو أطروحة الجندر.
فتعرّف أميمة أبو بكر النسوية الإسلامية بأنها "موقف له منطلقات أنطولوجية معينة وهدف مزدوج، هو الاهتمام بتحسين أحوال النساء، خاصة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، وتحقيق العدالة والمساواة للنساء، والهدف الثاني هو إصلاح وترشيد الفكر الإسلامي نفسه ومنهجيات العلوم الإسلامية والفهم الديني لإعادة قراءة المصادر الإسلامية ما يسمح ببناء معرفة إسلامية نسوية مساوتية".
 ومن الجدير بالذكر أنه داخل هذا التيار برزت مدرستين متقابلتين :
 الأولى: هي مدرسة الخارج، أي منظرات الفكر النسوي الإسلامي من النساء في البلاد الغربية حيث تشهد هذه المدرسة زخما كبيرا يرتد أثره للداخل الإسلامي، ومن أعلامها آمنة ودود، وهي مدرسة لا تتقيد في اجتهادها بأي قيد خارج منهجيتها في التفكير.
 الثانية: هي مدرسة الداخل الإسلامي، حيث تتحرك بحذر أكبر وهي تعلن أنها لا تستورد أجندتها من الخارج وأن كل ما يتعلق بأفكار خارجة عن صريح الشرع مثل المثلية ونحو ذلك من أفكار النسوية العالمية لا تعنيها لأنها تتحرك وفق المشكلات الموجودة في الداخل لدينا فقط.
وعلى الرغم من أن هذا التيار يقوم باستيراد مصطلحات وأدوات الآخر النسوية المعرفية إلا أنه يحاول أن يصبغها بصبغة إسلامية، وهو ما يعرض هذا التيار للكثير من الانتقادات والاتهامات، كونه يتبنى إطارا أكثر اتساعا ومرونة من الأطر الدينية المعروفة، إلى الحد الذي يجعل رواده يتلاعبون في تفسير بعض النصوص الدينية لكي تتفق مع الرؤى والأفكار التي يقدمونها.
يتضح من العرض السابق لأفكار وتوجهات المدرسة النسوية، والمدارس الفكرية الفرعية التي حاولت تنقيحها أو التعديل عليها، التمايز الشديد بين كل مرحلة زمنية، وكل توجه فكري للمدرسة، فنجد أن الفكر النسوي يخضع في كل مرحلة جديدة لمزيد من التحديث، ولا يزال إلى وقتنا الحاضر يشهد المزيد من التطوير المستمر، فقد تغيرت مساحات الحركة للفكر النسوي وازدادت اتساعا مع التطور التكنلوجي لوسائل التواصل، ويرى البعض أن هذه المساحات الجديدة للتعبير قادت إلى ظهور موجة رابعة للمدرسة النسوية، وهي الموجة التي ارتبطت ساحات النضال فيها بمنصات التواصل الاجتماعي، فأطلق عليها "النسوية الالكترونية"، وطرحت هذه الموجة قضايا جديدة من نوعها على ساحة الفكر النسوي، فانصب الاهتمام على إنصاف المرأة والقضاء على التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة، حيث كانت فضائح الانتهاكات الجنسية وإيذاء النساء أحد أهم دوافع ظهور واستمرار الموجة الرابعة؛ مثل قضية الاغتصاب الجماعي في دلهي 2012، وقضية هارفي واينستين المنتج الأمريكي المتهم بالتحرش الجنسي من قبل عشرات من السيدات عام 2017.
فاستغلت النسويات الجدد الصفحات الالكترونية لنشر الدعوة للقضاء على هذه الانتهاكات، وفي سبيل ذلك نشأت العديد من (المواقع) و(المدونات) و(الهاشتاجات) المصممة خصيصا لرصد هذه الانتهاكات وإيقاع العقوبة على مرتكبيها، كما دعت هذه المواقع والصفحات إلى العديد من المسيرات والمظاهرات لهذا الهدف خصيصا. ومع المساحات الجديدة التي تكشف عنها التكنولوجيا يتسع إطار النسوية ومساحات التعبير عنها.