الفصل السادس: 1914: كوارث الحرب



جودي كوكس
2022 / 2 / 15

الفصل السادس من كتاب ثورة النساء: روسيا 1905-1917


أدى اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى انتشار موجة من القومية في كل أنحاء أوروبا. وكان العديد من الأحزاب الاشتراكية من الأممية الثانية الماركسية التي ادعت في السابق أنها تعارض الحرب بكل الوسائل. ولكن بمواجهة الحرب الحقيقية، انتهى الأمر بها إلى دعم المجهود الحربي والطبقات الحاكمة وقدمت تبريرات تدعي اليسارية لهذا الموقف المتراجع. أما الثوار الذين بقوا مخلصين لمبادئهم المعارضة للامبريالية والحرب فقد كانوا مصدومين، حتى أن لينين نفسه لم يصدق لبعض الوقت التقارير الصحفية التي أشارت إلى تلك المواقف “اليسارية” المتراجعة. فوجد الاشتراكيون أنفسهم بداية معزولين ومقموعين ومهانين ولكن الحرب تفاقمت وسببت بمقتل الملايين من الشباب في الخنادق مسببة فقراً شديداً وظروفاً صعبة في البلاد، فبدأ مزاج الطبقة العاملة بالتغيّر في كل أنحاء أوروبا. والاشتراكيون الذين وقفوا بصلابة ضد الحرب وجدوا أنفسهم في موقع يسمح لهم بقيادة المعارضة المتنامية للمذبحة.

وقفت النسويات والناشطات من أجل الحق بالتصويت في كل بلد خلف جيش بلدها القومي. فعلى سبيل المثال، كانت إيميلين بانكهورست تطبّل في روسيا دعماً للمجهود الحربي للحلفاء. مع ذلك، بقيت الاشتراكيات الأمميات مخلصات لموقفهن المبدئي المناهض للحرب الامبريالية، بتناقض حاد مع القيادة الذكورية للأممية الثانية. “لويز سومونو في فرنسا، ألكسندرا كولونتاي، ناديا كروبسكايا، وإينيسا أرماند في روسيا (أو في المنفى مع قيادة الاشتراكيين الروس في زوريخ)، كلارا زيتكين ولويس زيتز في ألمانيا، كلهن عارضن الحرب منذ بدايتها.”(35)

نظمت الاشتراكيات مؤتمراً في برن بشهر آذار/مارس عام 1915. بمشاركة حوالي 70 مندوبة، كان هذا المؤتمر خطوة أساسية باتجاه بناء معارضة للحرب. الوفد البلشفي، بقيادة كروبسكايا، حاجج أن الأحزاب الاشتراكية يجب أن تقطع مع رفاقها الوطنيين وتعمل على إسقاط طبقتها الحاكمة. لذلك، منذ بداية اندلاع الحرب كان وقوف البلاشفة الشجعان والمبدئيون ضد الامبريالية في صلب نظريتهم وممارستهم. وكان ذلك حاسماً في السنوات المقبلة، بحيث عارض عشرات الآلاف من الناس، الذين عانوا الأمرين، الحرب.

سببت الحرب العالمية الأولى تبدلات كبيرة في حياة النساء. أغلب نساء روسيا اللواتي كن يعشن في القرى حيث كانت الحياة أصلاً شاقة. تفيد المادة 107 من القانون المدني الامبريالي أن “الزوجة يجب أن تطيع زوجها رأس العائلة، تعيش معه بحب، وتعامله باحترام وتقدير وطاعة وتواضع لأنه هو سيد البيت”. وكنّ يحتجن إلى إذن أزواجهن حتى يسمح لهن بالسفر أو العمل. لم يكن هناك وسائل لمنع الحمل وبالتالي كانت النساء تحبل كثيراً. وكانت نسبة وفيات الأطفال مرتفعة، ونسبة قتل الأطفال لم تكن غير معتادة. وكانت استراتيجيات النساء للنجاة تقوم على السلبية والانهزامية. انتُزعت هذه التوقعات والتصرفات من جذورها عند اندلاع الحرب.

في وقت تطوع الرجال للذهاب إلى الجبهات بدأت النساء بالحلول مكانهم في المصانع وورش العمل. عددٌ كبير من النساء كان قد بدأ أصلا بالعثور على عمل في مدن وبلدات روسيا، ولكن المسار تسارع بشدة بعد عام 1914 عندما غادر ما يقارب الـ 40 بالمئة من العمال الصناعيين المصانع إلى الجبهة. عام 1914، كانت نسبة العاملات في الصناعات التعدينية 3 بالمئة فقط؛ أما عام 1917 فأصبحت النسبة 18 بالمئة. حوالي 25 بالمئة كانت نسبة العاملات في القطاع الصناعي عام 1914؛ أما عام 1917 فأصبحت النسبة تقريباً 50 بالمئة. عادة، تركزت النساء، ولكن ليس حصراً، في المهن التي لا تحتاج إلى مهارات. في المصانع، عانت النساء من ظروف قاسية من دون أي حماية قانونية. عند اكتشاف حمل إحدى العاملات كان أصحاب العمل يطردونها فوراً، وعادة ما كانت العاملات بحاجة إلى أعمالهن بشدة لذلك أخفين حملهن. يتذكر أحد العمال: “اعتادت العاملات على إخفاء الحمل إلى أن يبدأن بالتأوه ويلدن الأطفال على المقاعد… كان هناك العديد من العاملات اللواتي شتمن أطفالهن”.(36) كان العمل الجنسي كذلك وسيلة عيش العديد من النساء في المدن. مع ذلك، حتى النساء اللواتي عانين من هذه الظروف القاسية، دفعتهن طبيعة العمل في الصناعات الكبيرة نحو تقاليد التنظيم الجماعي التي كانت موجودة قبل الحرب.

شهد القرن الـ 19 تطور القطاع الصناعي والطبقة العاملة الروسية. منذ نهاية القرن 19، تنامت الإضرابات والمنظمات العمالية، وعمت موجة واسعة من الإضرابات في الصناعات النسيجية التي شاركت فيها الكثير من العاملات. الإضرابات العامة كانت من محركات ثورة عام 1905 وطورت المطالب السياسية وكذلك تلك الاقتصادية. كانت موجة الإضرابات قد بدأت سنوات قبل بداية الحرب العالمية الأولى؛ عام 1912 أضرب مليون عامل/ة. هذه النضالية خرّبها اندلاع الحرب. عند بداية عام 1917، كانت النساء تعيد خلق التقاليد النضالية للطبقة العاملة التي كانت موجودة في السابق في أوساط العمال خلال سنوات ما قبل الحرب. تطلب الأمر أشهراً قليلة حتى أعادت النساء اكتشاف التقاليد النضالية التي بنيت طوال عقود قبل الحرب.

في وقت كانت الحرب لا زالت مستعرة، عانت سانت بطرسبرغ، التي بات اسمها بتروغراد، من تقنين قاسٍ من المشتقات النفطية والمواد الغذائية الأساسية. انضم الفلاحون بأعداد كبيرة إلى الجيش وهذا الأمر أدى إلى انخفاض في انتاج الغذاء، ولكن التقنين كان ناتجاً عن الاحتكار بهدف تحقيق الأرباح. كانت ساعات العمل الثمانية حلماً غير متحقق، فبعد الانتهاء من عملهن، كان على العاملات الوقوف بالصف للحصول على الخبز. إيلا وودهاوس، ابنة القنصل البريطاني في بتروغراد، وظفت عاملة في الخدمة المنزلية كانت مهمتها الوحيدة الانتظار وقوفاً للحصول على الحليب والخبز.(37) كانت صفوف الانتظار تمتد على مسافة ميل حيث تنتظر النساء بأربعة صفوف جنباً إلى جنب. كن ينتظرن بدءاً من الفجر في ظل درجات حرارة جليدية، وذلك فقط حتى يعلمن بعدم وجود الخبز في هذا النهار. في هذا الوقت، انتشرت السهرات الفاخرة في بتروغراد، القائمة على الكافيار ولحم الغزال وطيور التدرج وكبد البط والشامبانيا.(38) وانتشرت الشائعات حول تخزين السلع الغذائية وازدياد الفساد الحكومي. بدأت النساء بكتابة الشعارات على جدران المعامل: “أعيدوا رجالنا إلى البلاد”، “نريد خبزاً”. وبدأن بالتنظم كعاملات وكزوجات للجنود.

مع بداية العام 1917، رداً على على الأزمة المتنامية قرر الدوما منع خبز الحلوى والبسكوت وتقييد توزيع الطحين إلى مطاعم العمال. استقبل العمال المنع بغضب شديد. اطمأن بعض المراقبين أن الغضب المتنامي كان اقتصادياً وليس ذات طبيعة سياسية، ولكن الانقسام بين الاثنين كان يتضاءل في وقت كانت تزداد أعباء الحرب ونتائجها الكارثية. في ورش العمل والمتاريس، في الشوارع والأسواق، كان الاشتراكيون يربطون بين الجوع والحرب والنظام الأوتوقراطي نفسه. خلال أسابيع قليلة، كان الناس يطالبون بأكثر من الحلوى. اعتقد السفير البريطاني جورج بوكانان أن العاصفة آتية “ليس من العمال في المصانع، ولكن من الجماهير التي تنتظر في البرد وتحت الثلج خارج المحلات التجارية.”(39)

بدأت قطاعات من الحزب البلشفي تدرك أن العاملات لن يضعفن الحركة العمالية، ولسن محافظات للأبد. فبدأوا بالاستماع إلى زوجات الجنود والعاملات المتجمدات في الطقس الجليدي منتظرات بالصفوف غير المنتهية للحصول على الطعام. وعندما كانوا ينظمون تحركات ضد الحرب، كان البلاشفة ينظمونها بين النساء. وبدأت نقاشات كبيرة بين أعضاء المنظمة حول إقامة منظمات منفصلة بهدف كسب النساء للاشتراكية. فأطلقت جريدة تستهدف النساء. وكانت جريدة رابوتنيتسا (المرأة العاملة) التي ولدت من الجريدة البلشفية برافدا عندما أغرق عدد خاص بالنساء برسائل من العاملات عبّرن فيها عن تظلماتهن ومطالبهن.

في البداية وافقت الرقابة على رابوتنيتسا. ولكن عشية النشر، اقتحمت الشرطة اجتماع مجلس التحرير واعتقلت كل المحررات ما عدا آنا أوليانوفا التي وصلت متأخرة إلى الاجتماع. بكل عزيمة، أنتجت العدد الأول من الجريدة لوحدها. وبيع منها أكثر من 12 ألف نسخة ولكن توقفت الجريدة في حزيران/يونيو بعد إصدار 7 أعداد. على الرغم من حياتها القصيرة، كانت الجريدة مؤثرة. الروابط التي أقامتها والدعم السياسي الذي اكتسبته بين العاملات في المصانع عام 1914 من خلال رابوتنيتسا جعل البلاشفة يقفون في موقع جيد عام 1917. أصبحت المعارضة المبدئية للحرب مهمة بعد ثورة شباط/فبراير عندما أصبحت فكرة “الدفاعية”، أي فكرة دعم المجهود الحربي الروسي للدفاع عن مكتسبات الثورة، تنال شعبية قوية في الحركة الاشتراكية. عارض لينين وكولونتاي وأنصارهما كل التبريرات لمتابعة الحرب. أثبت إصرار المناضلين البلاشفة على معارضة الحرب كم كان ضرورياً كسب العاملات إلى القضية الاشتراكية.

الهوامش:

35. Evans, Comrades and Sisters, p.131.

36. Quoted in RAJ Schlesinger, Changing Attitudes in Soviet Russia: The Family, (London, 1949), p.328

37. Helen Rappaport, Caught in the Revolution: Petrograd, 1917, (London, 2016), p.37.

38. Ibid., p.35.

39. Ibid., p.45.