الفصل السابع: “كبلاشفة شعرنا وكأن أجنحة نمت فينا”(40)



جودي كوكس
2022 / 2 / 22


الفصل السابع من كتاب ثورة النساء: روسيا 1905-1917

الكاتبة: جودي كوكس

كان نيكولاي سوخانوف، الاشتراكي المعروف في بتروغراد بشهر شباط/فبراير 1917، حيث استمع إلى عاملتين على الآلة الطابعة تتحدثان عن غضب النساء الواقفات في الصف من أجل شراء الخبز تحت الثلج. واستنتجتا بأن الثورة ستبدأ. فوصفهما سوخانوف بأنهما “جاهلتان”. “الثورة- بالتأكيد غير ممكنة الحدوث! الثورة- الجميع يعلم أنها ليست سوى حلم”(41) لكن الفتاتين كانتا على حق والثوري الخبير كان على خطأ. بمناسبة يوم المرأة العالمي، انفجر غضب النساء الواقفات في الصفوف من أجل شراء الطعام، إلى جانب معاناة العاملات في المصانع، في شوارع سانت بطرسبرغ. أطلقت النساء ثورة شباط/فبراير وحركة اجتماعية هائلة الحجم. خلال أسابيع قليلة، تخلى القيصر عن الحكم لصالح حكومة مؤقتة، التي كان عليها أن تحكم بانتظار موعد الانتخابات. في هذا الوقت، أنشأ عشرات الآلاف من العمال والجنود حركة قادرة على إدارة المجتمع لصالحهم بواسطة المجالس الديمقراطية، أو السوفيتات.

كثيراً ما وصفت ثورة شباط/فبراير بأنها عفوية ومن دون قيادات؛ وأنها ثورة بدأت بالصدفة بواسطة نساء أردن فقط تأمين الغذاء لأولادهن. وأن أولئك النساء كن انفعاليات وغير منضبطات للاستماع إلى الخبراء الاشتراكيين الذين أوصوهن بالصبر والانتباه: وذُكرت شجاعتهن الشديدة كدليل على النقص بفهمهن السياسي. وصف تروتسكي، أولئك الذين عارضوا الثورة أنهم كانوا حريصين جدا لإثبات أنها كانت بالكاد متنكرة بثياب الثورة، “ثورة تنانير، مدعومة من انتفاضة الجنود”(42). مؤرخ تلو مؤرخ ادعوا أن الجماهير التي هبت لوحدها، ومن دون قيادة، إنما فقط تألفت من عناصر عنيفة. لاحظت الشرطة السرية أن ثورة شباط/فبراير لم تكن تحركها قيادات من فوق، ولكنها لاحظت كذلك “وجود تأثير عام لتحريض البروليتاريا”.(43)

الإعلانات

الإبلاغ عن هذا الإعلانالخصوصية

الدعاية لم تأت من فراغ؛ إنما كانت مكتوبة، ومطبوعة وموزعة. وصف تروتسكي كيف أن القادة المجهولين من الطبقة العاملة دربوا أنفسهم من بقايا البروباغاندا الثورية، كما مزقوا الصحافة الليبرالية: “في كل مصنع، وكل جمعية، وكل شركة، وكل حانة، وكل مستشفى عسكري، وفي محطات القطار، وحتى في القرى القليلة السكان، كان يتنامى الوعي الثوري”.(44) قاد العمال المسيسون ثورة شباط/فبراير وكانت النساء في المقدمة في كل من المصانع والحزب البلشفي. يكشف التركيز على دور البلشفيات كيف أن الثوار والثائرات ساعدوا/ن على إطلاق ثورة شباط/فبراير وحافظوا/ن على تلك الثورة من خلال تحقيق النصر في شهر تشرين الأول/أكتوبر. كانت النساء جزءاً من المسار الثوري من البداية ولم ينسحبن إلى الخلف بعد إسقاط القيصر.

في شهر شباط/فبراير عام 1917، كانت العاملات في فيبورغ، الضاحية الراديكالية، لبتروغراد يتحضرن للتظاهر والإضراب خلال يوم المرأة العالمي. نصح الحزب البلشفي، من خلال قيادته التي كانت بأغلبها في المنفى، إلى اليقظة. أراد الحزب من النساء الانتظار و”التحريض حتى تصل الجماهير إلى درجة الغليان” يوم الإضراب العام في يوم العمال العالمي. كانت البلاد تحتفل بيوم المرأة العالمي منذ عامين فقط ودوماً كان نشاطاً صغيراً في روسيا. كانت فيبورغ ضاحية سانت بطرسبرغ مركزاً للعديد من الصناعات من بينها صناعة النسيج، وتتمتع بتقاليد ثورية عريقة. خلال الليلة التي سبقت يوم المرأة العالمي، أمضى عامل ماهر في قطاع الصناعات المعدنية وبلشفي خبير، كايوروف، كل الليلة بالنقاش مع النساء. “حاولت بداية أن ألح على النساء الامتناع عن القيام بنشاطات غير ناجحة والتصرف فقط وفق تعليمات لجنة الحزب” يتذكر كايروف. قالت العاملات أنهن قد فقدن صبرهن: رجالهن يموتون على الجبهة وأولادهن من الجوع. في اليوم الثاني، عَلِمَ “متفاجئاً” و”مستنكراً” أن النساء تجاهلن نصيحته وقد خرجن للتظاهر والإضراب.(45) فرميْن أدوات العمل على الأرض وواجهن العمال الذين قالوا لهن أن التظاهر “ليس من شأن البابا [الفلاحات]”. انضم حوالي 900 ألف عامل إلى إضرابهن خلال اليوم الأول.

تلك كانت نظرة تقليدية لثورة شباط/فبراير: نساء مناضلات ولكن غير مسيسات قلبت الأمور رأساً على عقب وأرغمت الحزب البلشفي المتردد على دعم إضرابهن. كما استعملت الحجج المستعملة بين كايوروف والنساء كدليل أن النساء تصرفن بعفوية ومن دون استراتيجية سياسية. “إذا نظر المؤرخون في المستقبل إلى المجموعات التي بدأت الثورة الروسية، أعلِموهم أنها لم تكن صنيعة أي نظرية ملتزمة. الثورة الروسية بدأت من جانب نساء جائعات وأطفال يطالبون/ن بـ”الخبز والسمك””، كتب المؤرخ بيتريم سوروكين.(46)

في الواقع، كان الطعام بحد ذاته مسألة سياسية. إذ لطالما ناضل البلاشفة من أجل توجيه الغضب ضد التقنين الغذائي وارتفاع الأسعار نحو اتجاه اشتراكي. عام 1915 نشر البلاشفة كتيباً بعنوان: “الحرب وارتفاع كلفة المعيشة”، حيث ربطوا فيه بين الجوع والحرب والنظام القيصري. “جروا أبناءنا وأشقاءنا وأزواجنا بعيداً عنا إلى الحرب، وحرمونا من الخبز”، (47) كما أعلن الكتيب. وشهد مسؤول رسمي في محكمة بتروغراد أن العمال الذين نزلوا إلى الشوارع يوم 23 شباط/فبراير استعملوا شعارات من كتيب البلاشفة. وخلص الكتيب إلى دعوة العمال إلى النزول للشوارع حاملين لافتات الانتفاضة الحمراء- وهذا بالفعل ما فعلوه في شباط/فبراير عام 1917. لم تكن منظمة البلاشفة في روسيا متجانسة، وحزباً مركزياً. فبعض القادة داخل روسيا دعا إلى الحذر، في حين كان مناضلو الحزب يحرضون باتجاه الثورة. استمعت النساء إلى حجج البلاشفة وتحضرن للنضال وفقها، حتى لو أن قادة الحزب اعتقد أن اللحظة المناسبة لم تحن بعد.

الإعلانات

الإبلاغ عن هذا الإعلانالخصوصية

كانت النساء رائدات في التحريض ضد الحرب في ضاحية فيبورغ. حيث نظمت شبكة من البلشفيات في المنطقة اجتماعاً ربطت فيه بين القضايا الاقتصادية وارتفاع الأسعار والتضخم إضافة إلى المعارضة السياسية للحرب. أقامت لجنة الحزب البلشفي في سانت بطرسبرغ حلقة للنساء مهمتها التنظيم والبروباغندا بين العاملات في المصانع. انضمت النساء القياديات في الحلقة إلى البلشفيات في لجنة المقاطعة لتنظيم نشاط في يوم المرأة العالمي. كما خططن لتنظيم مظاهرة مشتركة مناهضة للحرب حيث يربطن من جديد بين ارتفاع تكلفة المعيشة والحرب. كما أرسلن متحدثات للتحدث في اجتماعات العمال، وفي حين فشل الحزب البلشفي في طبع بيانه بسبب عطل في مطبعته، أصدرت لجنة المقاطعة النسائية هذه الدعوة:

“أيها الرفيقات العزيزات، هل سنحتمل هذا الأمر بصمت لفترة أطول، بين الحين والآخر ننفس عن غضبنا المشتعل على أصحاب المتاجر الصغيرة؟ بعد كل شيء، لا ينبغي لومهم على معاناة الناس، فهم يدمرون أنفسهم. الحكومة هي المسؤولة! لقد بدأت الحرب ولكنها لا تستطيع إنهاءها. الحكومة تدمر البلد وتجوعنا. الرأسماليون هم المسؤولون! الحرب تزيد من أرباحهم. حان الوقت للصراخ بوجههم والقول: كفى! تسقط الحكومة الإجرامية وعصابتها بأكملها من اللصوص والقتلة! يعيش السلام!(48)”

وصف مسؤول في الشرطة ما حدث في مصانع أيفاز. عادت أكثر من 3000 عاملة من استراحة الغذاء وتجمعن للاحتفال بيوم المرأة. “قررت العاملات عدم العمل اليوم وبدأن بالتحدث عن أزمة الخبز. سألت العاملات العمال الانضمام إلى الإضراب، وتفرقوا سويةً “بكل سلمية””.(49) عبارة تفرقوا بسلمية تعني أن العمال غادروا المصانع، ولكنهم لم يرجعوا إلى بيوتهم. في كل المصانع، قرعت النساء على أبوابها داعية العمال إلى الانضمام إليهن، ونظمن مظاهرات وتجمعات مرتجلة واشتبكن مع الشرطة. لاحظت اللجنة المركزية البلشفية أن “إصرار النساء المنظمات” هو الذي أشعل شرارة الانتفاضة.(50)

سمعت العاملات في مصنع نيفا ضجة غريبة ومن ثم باتت أكثر وضوحاً وأعلى صوتاً: كانت الأصوات في الخارج تهتف: “إلى الشارع! توقفوا [عن العمل]! وفي لحظة واحدة فتحت نوافذ الطابق الأول بأكملها، أو بالأحرى كسرت بالعصي والحجارة. اندفعت العاملات إلى الممر… وفتحت جميع الأبواب. وتدافعت الحشود من المصنع نحو الحرية”.(51) ثم انتقلت النساء إلى مصانع المعادن. قال عامل بلشفي في مصانع لودفيك نوبل:

“في صباح 23 شباط/فبراير، سمعت أصوات النساء في الزقاق، حيث كان هتافهن: “تسقط الحرب! يسقط غلاء المعيشة! الخبز للعمال!” اتجهت مع عدد قليل من رفاقي إلى النوافذ… كانت بوابات مطحنة بوشوي رقم 1 مفتوحة على مصراعيها. ملأت الحشود من العاملات الزقاق. أولئك اللواتي رأونا بدأن بالتلويح بأيديهن ويصرخن: اخرجوا، توقفوا عن العمل!” كما رشقن النوافذ بكرات الثلج. فقررنا الانضمام إلى المظاهرة”.(52)

تشابكت أيدي النساء والرجال وهتفوا/ن هيا، وانطلقت الحشود إلى المصنع التالي. قبل أيام منع 30 ألف عامل من دخول مصنع بوتيلوف للحديد. اليوم انضم إليهم العمال المضربون وأمضوا ساعات في الشوارع يسيرون ويتناقشون.

كان لأثرياء بتروغراد دفاعاتهم الخاصة بهم لمنع العمال من مناطق مثل فيبورغ من الوصول إلى مناطقهم في المدينة: الجسور التي يمكن رفعها، والأنهار التي لا يمكن عبورها، والقوات المسلحة جداً. بعد ظهر كل يوم، كان العمال يتجمعون ويتم تفريقهم ومن ثم يعاودون الكرة مرة أخرى. كان هدفهم الوصول إلى ساحة المدينة الأساسية، نيفسكي بروسبكت. سيّر الجنود دوريات في الترام، وألقوا القبض على كل من يرتدي ثياب عمالية. لكن في اليوم التالي، انهار انضباط القوزاق. وعندما أرسل الخيالة ضد المتظاهرات، حاصرتهم النساء وبدأن بالنقاش معهم. تذكرت بلشفية تعمل في مصنع برميت، اسمها ألكسندرا كروغلوفا، المواجهة:

“وصلت كتيبة من القوزاق إلينا بسرعة. لكننا لم نتردد ووقفنا كجدار صلب كأننا تحولنا إلى صخرة. صرخ ضابط من القوزاق: “من يقودكن: أنتن تتبعن رجلاً عجوزاً!” أجبت: لا ليس رجلاً عجوزاً إنما أخت وزوجة الجندي على الجبهة”. ما حصل بعد ذلك كان غير متوقع. أنزل الجنود بنادقهم… وصرخ واحد في الخلف: “يا قوزاق، أنتم إخوتنا، لا يمكنكم إطلاق النار علينا”. فأدار القوزاق خيولهم إلى الخلف”.(53)

أنزل القوزاق الذين يحرسون الجسور الأساسية في سانت بطرسبرغ سيوفهم. احتشد العمال عند ضفاف الأنهار المتجمدة واحتل العمال الملوحون بالأعلام الحمراء الساحات المحاطة بالأشجار. وبين الخطابات، هتفت الجماهير نشيد لامارسييز، النشيد الذي كانت تعتبره حكومة القيصر خيانة.

قادت زينيا إيغوروفا، أمينة سر الحزب البلشفي في مقاطعة فيبورغ، النساء أيضا في محاولة منهن لفصل الجنود عن الضباط. نظمت الرفيقات في الحزب البلشفي من بينهن نينا أغادزانوفا وماريا فيدرينا اجتماعات جماهيرية وإضرابات ومظاهرات وبحثتا عن الأسلحة المخبأة التي يمكن استعمالها لتسليح الجماهير. النساء اللواتي اعتبرن غير قادرات على تنظيم ذاتهن أو تطوير الوعي السياسي تمكنّ من وقف قطاعي الصناعة والخدمات في سانت بطرسبرغ واستطعن تحريض الجنود على التمرد.

تلاشت المعتقدات التي امتدت لقرون خلال أيام. استيقظ الناس وهم يصلّون من اجل دوام صحة العائلة القيصرية وانتهى النهار وهم يهتفون: “يسقط حكم القيصر!”. حصل انقلاب لا مثيل له في الرتبة والمكانة داخل المجتمع الأكثر استبداداً والأشد هرمية في أوروبا. تذكر صحافي أميركي: “وجدت العاصمة تهذي من الحرية، وما زالت عيون الناس ترتعش من ومضات الخلاص المفاجئ”(54). قبل الحرب، كانت الوظيفة المسموحة للنساء في ترام سانت بطرسبرغ هي التنظيف. أول من استعملت الترام كانت شابة من الطبقة العاملة تدعى ألكسندرا روديونوفا. عام 1916، شاركت في أول إضراب لها وانضمت إلى الحزب البلشفي. في يوم المرأة العالمي عام 1917، لاحظت روديونوفا أن جنوداً يحرسون مستودعات الترام، لكنهم انضموا في نهاية النهار إلى المضربين. قلبت النساء عربات الترام لتشكيل حاجز لمنع إرسال المزيد من التعزيزات لسحق الثورة. وككثيرين/ات آخرين/ات، عانت روديونوفا نشوة شديدة بعد ثورة شباط/فبراير. “تذكرت بأنني فقدت اتصالي بالأرض وحلقت في السماء في حالة من اللا-يقين. وفجأة، أصبح المستقبل المجهول حقيقياً.(55) بعد القمع الذي حصل خلال أيام تموز/يوليو عندما أجبر قادة البلاشفة على الاختباء، أخفت روديونوفا 42 بندقية في مستودعها. في تشرين الأول/أكتوبر، حرصت على انتقال قطارَي ترام لنقل الأسلحة بهدف اقتحام قصر الشتاء. وتمكنت من الإبقاء على سير الترامواي خلال كل ثورة تشرين الأول/أكتوبر لمساعدة الثوار على انتزاع السلطة.

كان على النساء التخلص من قرون الاضطهاد للمطالبة بمكانهن في الثورة. كان عليهن مواجهة القوزاق المسلحين بالسياط، والذكورية والأحكام المسبقة للعمال، وافتقارهن للثقة والخبرة. وحقيقة أن بعض النساء حققن كل ذلك هو شهادة على إمكانية التحرر الذاتي للطبقة العاملة لكسب تحرر النساء في الوقت عينه. على أي حال، استطاع الرجال والنساء الذين واللواتي أسقطوا النظام القيصري في شباط/فبراير عام 1917 الاستفادة من الأفكار السياسية التي ربطت بين جوعهم بالحرب وبالنظام السياسي الاستبدادي. حاجج الحزب البلشفي وناضل وحرّض من أجل السياسات الاشتراكية وكان البلاشفة هم من قدم بعض القادة الأكثر إلهاماً وشجاعة لثورة “من دون قيادة”.

الهوامش:

40. Ibid., p.122.

41. McDermid and Hillyar, Midwives of the Revolution, p.142.

42. Leon Trotsky, History of the Russian Revolution, (New York, 1932), Chapter 8, ‘Who led the February Insurrection?’, paragraph 1, https://www.marxists.org/.

43. Trotsky, History of the Russian Revolution, Chapter 8, ‘Who led the February Insurrection?’, paragraph 29, (New York, 1932), https://www.marxists.org/.

44. Ibid., paragraph 31.

45. Marcel Liebman, Leninism under Lenin, (London, 1980), p.117.

46. P Sorokin, Leaves from a Russian Diary, (London, 1950), p.3.

47. E N Burdzhalov, Russia’s Second Revolution: The February 1917 Uprising in Petrograd, (Bloomington, 1987), p.112.

48. Ibid., p.105.

49. Ibid.

50. Ibid., p.106.

51. Ibid., p.107.

52. Ibid., p.107.

53. Ibid., p.115.

54. Rapport, Caught in the Revolution, p.145.

55. Clements, Bolshevik Women, p.122.