” النقط مقابل الجنس”: شجرةٌ تفضح غابةُ الاضطهاد الجنسي ضدّ النّساء



شيماء النجار
2022 / 3 / 3

في خُطوة دالة على تفاهة ادعاءات التّقدم في ملف “إنصاف النّساء” بعد قرابة عقدين عن إصدار مدونة الأسرة الجديدة، أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في وثيقة بتاريخ 26 نوفمبر 2020 ضَمَّنَها مطلب “المصادقة على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 190 بشأن القضاء على العنف والتحرش في عالم العمل المعتمَدة في سنة 2019 وإعمال الإجراءات المقترحة في إطارها، وكذا التوصية رقم 206 المتممة للاتفاقية التي توفر إطارا واضحا يتيح الوقاية من العنف والتحرش في عالم الشغل ومعالجتهما”[1].

كما طَالب بـ”توفير شروط الأمن في فضاءات التعليم والتكوين، من خلال تعزيز ودعم التدابير المؤسساتية المعتمدة في هذا المجال، وإنجاز دراسات حول ظاهرة العنف، بهدف اقتراح حلول فعالة”. هذا، بعد سنة من تفجر ما أُطلِق عليه إعلاميا “فضيحة الجنس مقابل النقط”. إذ تقدمت طالبتين في جامعة سطات بشكاية ضد أستاذ قام بفصلهما بسبب رفضهما الخضوع لابتزاز جنسي من طرفه.

صدر الحكم سنةَ سجنٍ على الأستاذ المتهَم بتاريخ 12 يناير 2021، وفي شهر فبراير صدر حكم بالسجن على أستاذ آخر بمدرسة الملك فهد العليا في طنجة بنفس التهمة.

ورغم ذلك لا تمثل القضايا التي أبرزها الإعلام إلى الواجهة إلا قمة جبل جليد عائمة فوق سطح محيط هائج بشتى مظاهر العنف الجنسي الممارس ضد النساء. شهدت السنوات الأخيرة حالات تحرش جنسي كثيرة تعرضت لها طالبات من قبل أساتذتهن في جامعات مغربية، إلا أن غالبية هذه القضايا لم تتحول إلى شكاوى. وتلك التي تحولت إلى شكاوى قضائية بقيت بغالبيتها دون متابعة[2].

ما الذي جعل إذن كل الترسانة القانونية التي روجت لها الدولة ببهرجة كبيرة، عاجزة عن “القضاء على العنف وكل أشكال التمييز ضد المرأة”؟

التحرش الجنسي تلوين من اضطهاد ذكوري أشمل

لا يمكن عزل التحرش الجنسي عن باقي صنوف العنف والتمييز ضد المرأة، التي تغرس جذورها عميقا في تربة نظام اجتماعي واقتصادي حيث تتكامل أشكال الاستغلال الطبقي والعسف السياسي والاضطهاد الذكوري والعنصرية وتدمير البيئة.

قصور “المقاربة القانونية”

على أسس هذا النظام الاقتصادي الاجتماعي (الرأسمالية) تقوم بنية فوقية متكاملة بدورها مكونة من جهاز دولة وترسانة تشريعية وتمثلات ثقافية تبرر وترسخ كل صنوف الاضطهاد، مع تكييفها لتلائم متطلبات التحولات الاقتصادية، على غرار الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية سنة 1999.

طالما بقيت جذور اضطهاد النساء واعتبارهن ملحقات تابعة للمجتمع الذكوري، فإن “فضائح” الاغتصاب والتحرش والتمييز وشتى صنوف العنف، ستتكرر ولن تتمكن “المقاربة العقابية” من استئصالها ما دامت جذورها راسخة.

ومن هنا قصور “المقاربة القانونية/ التشريعية” التي اعتمدتها الجمعيات النسائية الليبرالية وتفاخرت الدولة بالاستجابة لها منذ بداية سنوات 2000 عند إصدار “مدونة الأسرة” وما تلاها من مبادرات أخرى.

لا يعني هذا رفضا لتجريم وعقاب أشكال العنف والتمييز ضد المرأة، ولكن وعيا جازما بأن جدلية الجريمة والعقاب ستظل مستمرة طالما ظل المجتمع الذي يُنتج الجريمة قائما، والحل النهائي هو تشييد مجتمع لا نحتاج فيه إلى قانون يعاقب الجريمة، لأن هذه الأخيرة ستنتفي فيه نهائيا. ونستعير هنا تعبيرا موفقا لناعوم تشومسكي: “إن الخبراء في تطبيق القانون الذين سألتهم الصحافة عن آرائهم أعربوا عن شكهم في أن تؤثر التشريعات كثيرا على الجريمة لأنها لم تعالج “أسباب التفكك الاجتماعي التي تنتج المجرمين الذين يلجأون إلى العنف”. في طليعة هذه الأسباب السياسات الاجتماعية والاقتصادية”[3].

طيلة أكثر من نصف قرن حاولت الجمعيات النسائية الليبرالية دفع الدولة لمراجعة الترسانة التشريعية لتلائم تغير وضعية المرأة في المجتمع، خاصة مع توسع تدريسها وخروجها للعمل، في حين ألقت الجمعيات النسائية التابعة لأحزاب الرجعية الدينية بثقلها في الكفة الأخرى من الميزان، مصرة على إبقاء تلك الترسانة التشريعية كما هي، إن لم يكن مراجعتها بروح رجعية.

بالفعل فإن دخول القانون الذي يعاقب بالحبس كل ممارسات “تعتبر شكلا من أشكال التحرش أو الاعتداء أو الاستغلال الجنسي أو سوء المعاملة”، منذ سنة 2018 لم يمنع تكرار تلك الممارسات التي تكررت بشكل دوري. الجديد في حالتنا هذه هي “الفضيحة” التي أثيرت في الإعلام، والعقاب الذي تعرض له المتحرشون موجه لإنقاذ ماء وجه دولة تدعي تقدما كبيرا في هذا الميدان.

لا ينتج عن “المقاربة القانونية” إلا مساواة شكلية تخفي تحت إسارها كل أشكال التفاوت الاجتماعي والقهر الجنسي والاحتقار العنصري. ليس هذا حصرا على المغرب. تتحدث النسوية السيرلانكية كوماري جاياواردينا عن حصيلة نضال الحركات النسوية بالعالم الثالث كاتبة: “حققت الحركات النسائية في عديد من البلدان الآسيوية المساواة القانونية والسياسية مع الرجل على المستوى القضائي، لكنها فشلت في إحداث أي تأثير في تبعية المرأة داخل البنى البطريريكية للأسرة والمجتمع. ولم يتطور الوعي النسوي، إلا في استثناءات نادرة، إلى حد التشكيك في البنى البطريريكية التقليدية”[4].

لا يعني التأكيد على قصور “المقاربة القانونية” رفضا للنضال من أجل قوانين مجرِّمة للتحرش الجنسي ومختلف ضروب العنف ضد المرأة، بل وعيا بأن تلك القوانين تكون نتاج نضال كما يحتاج تطبيقها على أرض الواقع إلى نضال أيضا. فعادة ما تكون غاية الدولة في إقرار مثل هذه القوانين نشر خديعة أنها في ركب التغيير دون أن ينعكس ذلك فعلا على أرض الواقع، وتبقى أغلب تلك القوانين التي تهم حماية الحريات والمساواة معلقة في السماء. وهذا ما يفسر ما أطلقت عليه المحامية والحقوقية فتيحة اشتاتو “الثغرات التي اعترت تطبيق القانون بعد سنتين من إقراره”[5].

ثقافةٌ ذُكورية متجذرة

ليست الأفكار المسبقة عن المرأة نتاج عقلية ذكورية مستقلة عن جذورها الاجتماعية والاقتصادية. وهي تتويج لتطور تاريخي مديد من سيطرة نظام اجتماعي واقتصادي يسيطر عليه ذكور الطبقة السائدة.

في حالتنا هذه، لا تقتصر هذه العقلية الذكورية على القائمين بالتحرش والموجِّهين عنفهم ضد النساء، بل تشمل بشكل أكبر جهاز الدولة الذي يدعي انخراطه في مبادرات القضاء على “العنف وكل أشكال التمييز ضد المرأة”.

الشرطة والقضاء جهازين ذكوريين بامتياز، رغم كليشيهات تبني مقاربة النوع وتوسيع توظيف النساء في سلك الشرطة والقضاء، وهو ما يُسهِم بدوره في قصور “المقاربة القانونية والردعية” المتبناة. هذا ما اعترف به تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهو يتحدث عن نواقص وثغرات “القانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء”: “هامش كبير للسلطة للتقديرية للعنصر البشري المكلف بتطبيق القانون، في ظل سياق مجتمعي تسوده “الثقافة الذكورية”[6]. وهو ما أكدته رئيسة “شبكة الرابطة إنجاد ضد عنف النوع”، نجية تزروت بقولها أن “العديد من ضحايا التحرش الجنسي في الأماكن العامة يمتنعن عن التبليغ عما تعرضن له بسبب ما قد يواجهنه من “أسئلة محرجة” من طرف الشرطة”[7].

تقف الثقافة الذكورية عائقا- من بين عوائق أخرى أهم- في وجه القضاء على صنوف العنف والتمييز ضد المرأة. فما أسمته نوال السعداوي “الازدواجية الأخلاقية ” تجعل من الرجل دائما ضحية إغواء المرأة. وتذهب التنظيمات الرجعية بعيدا في هذا المنطق مطالبة بعزل النساء نهائيا لحماية الذكور من إغواء ارتكاب “رذيلة” التحرش. رغم أن وقائع مجتمعات فُرض فيها عزل المرأة بالتشادور لم يمنع من ارتفاع جرائم التحرش: “قبل الثورة الإسلامية في إيران وفرض الحجاب أو «الشادور» على النساء والسماح باختلاط النساء والرجال في جميع المجالات، كانت نسبة التحرش الجنسي أقل بقليل من بعد الثورة. لا أقول إن التحرش كان غير موجود تمامًا، لكن نسبته كانت ضئيلة جدًّا مقارنةً بالآن. هكذا بدأ حسين ظريف، أستاذ علم الاجتماع الإيراني، كلامه لـ«منشور» عن انتشار التحرش الجنسي في إيران بعد الثورة”[8].

هذه الثقافة والتسامح مع المتحرشين يمنعان المتعرضات للعنف والتحرش من التقدم بشكاية أو فضح المعنِّفين والمتحرشين. أوضحت دراسة للمندوبية السامية للتخطيط سنة 2019 مدى القبول الذي يحظى به العنف الزوجي في المجتمع المغربي بعد عقدين مما اعتُبر “ثورة” في حقوق النساء، أي إصدار “مدونة الأسرة”: ” يتبين أن العنف لا يزال سلوكا مقبولا، بل مبررا في مجتمعنا. وهكذا تعتبر حوالي %38 من النساء و%40 من الرجال أن تحمُّل المرأة للعنف الزوجي أمر مقبول للحفاظ على استقرار الأسرة. ويرى %21 من النساء و%25 من الرجال، أنه من حق الزوج ضرب زوجته أو تعنيفها، في حال خروجها من البيت دون إذنه”.

مُحام يبرر التّحرش

تقدم أشرف منصور جدوي محامي الأساتذة المتحرشين بجامعة سطات بحجة غريبة للمطالبة بتمتيع المتحرش بالمتابعة في حالة سراح. إذ تقدم بسابقة تمتيع مرتضى إعمارشا المتهم بارتكاب “أفعال إرهابية” بالسراح المؤقت. وعلق المحام قائلا: “أن هذا الاتهام أقل خطورة من الفعل المتابع به الأساتذة”[9].

يعرف الجميع أن اتهام مرتضى إعمراشا بـ”ارتكاب أفعال إرهابية” كان ضمن خطة الدولة لهزيمة حراك الريف، وهي أكذوبة فاضحة، بينما تحرش الأساتذة بالطالبات واقعة مؤكَّدة بالتسجيلات المسربة. واعتبار “التحرش” أقل خطورة من أي جريمة أخرى، ليس إلا اعتبارا ما يلحق النساء من اضطهاد واحتقار وعنف مشكلةً ثانوية مقارنة بـ”القضايا الكبرى للوطن” ومنها “محاربة الإرهاب”!!

وفي تبرير آخر شدد المحامي على أن تعليل الاعتقال يقوم على “خطورة الشخص وليس خطورة الفعل”. وهكذا فالقاعدة القانونية حسب ذات المحامي هي أن المدان هو الشخص الذي يقوم بالتحرش وليس الفعل في حد ذاته. فإن تحرش مجرم خطير بامرأة فيجب اعتقاله ليس لأنه ارتكب جريمة التحرش بل لأنه شخص خطير بذاته، أما الأستاذ فلا يجب متابعته في حالة اعتقال ليس لأنه لم يرتكب جرما، بل لأنه ليس شخصا خطيرا في حد ذاته!!

محدُودية المكاسب

تعزى محدودية المكاسب القانونية التي تتالت في العشرين سنة الأخيرة، إلى كونها ناتجة جزئيا عن النضال. ولكن في أغلبها هي عبارة عن تكييف قانوني قامت به السلطة الحاكمة من أعلى، لجعل الترسانة التشريعية متكيفة مع الوضع الجديد للمرأة الناتج عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية: توسع التعليم والخروج إلى العمل.

تحتاج الرأسمالية إلى المرأة كمُنتِجة ومستهلِكة. يتناقض الوضع التقليدي للمرأة مع الاستجابة لهذه الحاجات الحديثة للرأسمالية. فالمرأة القابعة في البيت والواقعة تحت سيطرة مطلقة للزوج أو الأب، لا يمكن أن تكون متاحة لاعتصار جهدها في أماكن العمل، ولا أن تكون مستهلِكة تتحكم في مدخولها النقدي لتصرفه كما تشاء، ولا أن تكون سلعة أو وسيلة لإشعار المنتَجات.

لكن الرأسمالية تخترقها ميول متناقضة. فحاجة الرأسمالية للنساء كمنتِجات ومستهلكات، يوازيها حاجتها إلى الحفاظ على دور إعادة الإنتاج الاجتماعي كوظيفة لصيقة بالنساء حصرا. تريد الرأسمالية إلقاء كلفة إعداد قوة العمل المستقبلية (إنجاب الأطفال وتربيتهم) وإعادة إنتاج قوة العمل الحالية (الاعتناء بالأزواج والأبناء العاملين) ورعاية قوة العمل المُهتلِكة (الشيوخ)، وهذا يحتاج التحكمَ في النساء وفي أجسادهن وضبط سعيهن إلى التحرر. لذلك تحافظ الرأسمالية وأنظمتها الرأسمالية على تراتبية اجتماعية يقف الذكور في قمتها، وهو ما يجعل كل أشكال اضطهاد النساء واحتقارهن (وضمنها التحرش) قائمة حتى والرأسمالية تحرر النساء من الأطر التقليدية التي تمنع تحولهن إلى قوة عمل ومستهلكات.

هذه هي خلفية الصراع الذي قام بين الجناح الليبرالي للحركة النسائية والقسم الرجعي منها منذ نهاية الثمانينيات حتى بداية سنوات 2000، حول إصلاح قانون الأحوال الشخصية. وكلا الطرفين عول على الدولة لحسم الصراع. تقدم الجناح الليبرالي بمطلب ملاءمة قانون الحوال الشخصية مع المواثيق الدولية، بينما أصر الطرف الرجعي على ضرورة الحفاظ على خصوصية الأسرة المغربية وثوابت الإسلام ليبرر رفضه تعديل ذلك القانون.

تدخلت الملكية بإنشاء لجنة انتهت بإصدار مدونة الأسرة في فبراير 2004. ومنذ ذلك الحين تبنى أغلب الحركة النسائية الليبرالية والتابعة لقسم من الحركة الرجعية الدينية (العدالة والتنمية) شعار “تمكين النساء”، مساهمة في الترويج لمشاريع الدولة والبنك الدولي.

يتيح واقع أن التغيرات التي وقعت في الأحوال الشخصية للمرأة ناتجة في أغلبها عن تنازل من أعلى من طرف السلطة الحاكمة، تصوير هذه الأخيرة أكثر تقدمية من المجتمع الذي يرفض التغيير. وليس هذا حصرا على تغيير الترسانة القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية، بل تشمل مجمل أوجه المجتمع. وقد عبر عن هذا أحد خدام الاستبداد، إسماعيل العلوي من حزب التقدم الاشتراكية، حين تحدث عن “الانفصام داخل المجتمع بين عناصر متقدمة في تفكيرها (شيئا ما) ومجموعة واسعة من المواطنين أو فئات أو شرائح مهمة ما زالت تعيش في زمن آخر، زمن القرون الوسطى أو على الأقل زمن لا يساير مقتضيات الحداثة”، منوها بـ” الأفكار الهامة والنيرة التي ترد في هذه الخطابات [الملكية] لم تترجم في غالب الأحيان بشكل قوي على أرض الواقع”، مفسرا عدم تطبيقها الكلي إلى عجز المجتمع تمثل تلك الأفكار الملكية النيرة[10].

النيوليبرالية في خلفية أشكال العنف ضد النساء

تجميد التوظيف وإضفاء المرونة على أنظمة التشغيل وإضفاء الطابع السلعي على التعليم من بين العوامل التي أنهكت النظام التعليمي بالمغرب. أصبح الحصول على شهادة عليا حلما يسعى إليه الجميع، في ظل نظام تعليمي يشهد تسربا واسعا من الأسلاك التعليمية ونسبا عالية من “الهدر المدرسي”.

تعددت أساليب التكيف مع تدهور جودة التعليم وملاحقة حلم الحصول على وظيفة مطابقة للشهادة المتحصل عليها. وضمن تلك الأساليب ساعات الدعم المؤدى عنها واللجوء إلى التعليم الخصوصي والغش وحتى الاتجار في الولوج إلى الأسلاك العليا والحصول على شهاداته.

فقبل أربع سنوات شهدت جامعة محمد بن عبد الله بفاس “فضيحة” حيث طالب إطارُ بالجامعة مقابلا ماليا (40 ألف درهم) من طالب مقابل ضمان مقعد في ماستر “قانون المنازعات العمومية”. وهو ما تكرر بكلية الحقوق آيت ملول التابعة لجامعة ابن زهر أكادير، إذ ادَّعى مجموعة من الطلبة وجود حالات اتجار بالشهادات الجامعية والتسجيل بمقابل مادي.

إن العناوين التي انتشرت تحتها أخبار تحرش الأساتذة بالطالبات، تندرج ضمن “الازدواجية الأخلاقية” التي تحدثت عنها نوال السعداوي في كتابها “الوجه العاري للمرأة العربية”. فقول “الجنس مقابل النقط”، يعني أن الطالبات هن من يعرضن أنفسهن كسلعة مقابل النقط. في حين أن انهيار أنظمة التعليم تحت وقع الإصلاحات النيوليبرالية، قد حولت “النقط” إلى سلعة معروضة مقابل أشكال كثيرة من الدفع. وخصوصية حالة التحرش أن الطالبات ليس هن من يطلبن دفع الجنس مقابل النقط، ولكن الأساتذة المتحرشين هم من يبتزون الطالبات بدفع مقابل جنسي للحصول على النقط.

في إطار رصده لأسباب محدودية أثر سياسات محاربة العنف ضد النساء التي وضعتها الدولة، يتحدث تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في إطار تقييمه للخطتين الحكوميتين “إكرام 1 و2” عن غياب ميزانية مخصصة للخطتين، فضلا عن “التبعية القوية للتمويلات والبرامج الأجنبية، والتي لا يمكن بدونها ضمان استدامة هذه السياسات. فعلى سبيل المثال، بلغت مساهمة الاتحاد الأوروبي في تنفيذ الخطة الحكومية للمساواة (إكرام 1) 45 مليون أورو، بينما بلغت مساهمته في تنفيذ الخطة الحكومية الثانية (إكرام 2) 35 مليون أورو”[11].

يعلم الجميع أن التمويلات الأجنبية سواء من الاتحاد الأوروبي أو هيئة المعونة الأمريكية أو البنك العالمي، كلها تُشرط بإعادة هيكلة الاقتصاد وبـ”إصلاح” أنظمة الشغل والتوظيف وتقديم الخدمات العمومية بما يلائم الرأسمال العالمي والمحلي. ألقت تلك “الإصلاحات” بملايين النساء في دائرة الفقر ما دفعهن إلى امتهان الدعارة، أو الصبر لصنوف العنف والتحرش سواء في أماكن العمل أو المنازل.

إن نقاش التحرش وكل أشكال العنف والتمييز ضد المرأة بمعزل عن الهجمات النيوليبرالية التي دمرت الخدمات العمومية والاجتماعية، سيعيد قصة قصور “المقاربة القانونية”. فما دامت تلك الهجمات تدمر الحصول على الخدمة العمومية المجانية والجيدة، فعقاب أستاذ متحرش، لن يمنع آخرين من استغلال حاجة طالبة لنيل شهادة تفتح في وجهها باب “فرصة شغل نادرة”.

في الحاجة إلى حركات نضال ببعد نسوي جذري

ينتج عن كون المكاسب التي نالتها النساء ممنوحة بحركة من أعلى جهاز السلطة، أن المجتمع الذكوري يرفض استساغة تلك المكاسب. والمعروف كذلك أن الحق الممنوح غير المنتزَع بنضال من أسفل لا يُطبَّق كليا في الواقع ويسهل التراجع عنه إذ يظل مدادا على الورق. هذا هو سبب استمرار أشكال التمييز والعنف ضد المرأة، وليس عجز المجتمع المغربي عن تمثل “الأفكار الملكية النيرة” كما ادعى خادم الاستبداد الملكي إسماعيل العلوي.

عادة ما تؤدي تلك المحاولات لـ”فرض إصلاحات في مجال حقوق المرأة” من أعلى من طرف السلطة، إلى ردة فعل رجعية. معروف جيدا المقولة المنتشرة شعبيا بأن “الملك محمد السادس قد أطلق عنان النساء للتطاول على الرجال”، والتحسر على سلطة الرجل/ الذكر التي نالت منها تلك “الإصلاحات”. ومرة أخرى ليس هذا حصرَ مجتمع مغربي له خصوصيته.

تتحدث كوماري جاياواردينا عن تجربة مماثلة سابقة في تركيا مع كمال أتاتورك، وضمنت كتابَها تقييمات حول تلك التجربة: ” تقول الدكتوورة نيرمين آبدان أونات، وهي أستاذة في العلوم السياسية، إن تقييم تلك التغييرات “يشير إلى أن الجهود الثورية من خلال القانون لم تؤد إلا إلى تغييرات جزئية في كل من وضع المرأة ودورها في المجتمع التركي”. وتضيف أن لم يتم النضال لتحقيق التغييرات التقدمية الرئيسية، وإنما منحتها الحكومة لكي تثبت أنه عبر منح حقوق متساوية للنساء، فإن تركيا الحديثة “تبلغ مستوى الحضارة المعاصرة” وأنها “رمز للعالم”. تخلص عبدان أونات إلى أن “الحقوق الأساسية التي مُنحت للمرأة التركية كانت في أغلبها نتيجة جهود دؤوبة بذلتها نخبة ثورية صغيرة، أكثر منها نتاج مطالب واسعة النطاق من مجموع النساء التركيات”[12].

أدى اندماج قسم مهم الحركة النسوية الليبرالية في جهاز الدولة وتبنيها للمنظوراللنيوليبرالي المملى من المؤسسات المانحة، إلى تخلي تلك الحركة حتى على العمل الترافعي الذي أقدمت عليه طيلة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.

كما أن الرفض الواعي وغير الواعي لتنظيمات نضال الشغيلة والكادحين (نقابات وحركات شبيبية) تبني المطلب النسائي والعراقيل الموضوعة في وجه النساء لتناسب تمثيليتُها في تلك التنظيمات حجمَ مشاركتهن في النضال ونسبتهن ضمن إجمالي قوة العمل، يساهم بدوره في إعادة إنتاج أشكال التمييز ضد المرأة سواء داخل تلك التنظيمات وبالتالي في المجتمع.

أدى قمع الحركة الطلابية وعنف الإصلاحات النيوليبرالية داخل الجامعة إلى تراجع النضال الطلابي وانطفاء الاهتمام بقضية اضطهاد النساء في صفوف الطلاب والطالبات، وهو ما فتح الباب لأشكال التحرش التي شهدنا بعض فصولها في فضائح “الجنس مقابل النقط”.

لن نستطيع القضاء على العنف وكل أشكال التمييز ضد المرأة بالتعويل فقط على مبادرات الدولة وتغييرات في القوانين وحملات تواصلية تأتي من أعلى. فقط بناء تنظيمات النضال العمالي والشعبي بشكل تدمج معه البعد النسوي في تصورها ومطالبها وبنيات تنظيمها، هو ما سيفتح الباب لصهر النضال ضد أشكال الاستغلال الطبقي والقهر الاجتماعي والعسف البوليسي والتمييز والعنف ضد المرأة ممكنا.

هوامش:

[1] – “”القضاء على العنف ضد الفتيات والنساء: استعجال وطني”، رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 00/ 2020، 26 نوفمبر 2020، ص 17.

[2] – ” فضيحة “الجنس مقابل النقاط”: القضاء المغربي يصدر حكما بسجن أستاذ جامعي عاما”، موقع فرنسا 24، بتاريخ 13/02/2022

[3] – “الربح فوق الشعب، الليبرالية الجديدة والنظام العولمي”، نعوم تشومسكي، ترجمة مازن الحسيني، دار التنوير للترجمة والطباعة والنشر، رام الله- فلسطين، الطبعة الأولى 2000، ص 152.

[4] – “النسوية والقومية في العالم الثالث”، كوماري جاياواردينا، ترجمة: ضحوك رقية وعبد الله فاضل، الطبعة الأولى 2016، دار الرحبة للنشر والتوزيع، دمشق- سوريا، ص 68.

[5] – https://www.maghrebvoices.com/front-page/2020/12/09/التحرش-الجنسي-في-المغرب-صعوبة-الإثبات-تعيق-الضحايا.

[6] – رأي المجلس الاقتصادي… مرجع مذكور، ص 13.

[7]– https://www.maghrebvoices.com/front-page/2020/12/09/التحرش-الجنسي-في-المغرب-صعوبة-الإثبات-تعيق-الضحايا.

[8] – “هل حمت الثورة الإسلامية نساء إيران من التحرش الجنسي؟”، شيماء محمد، 25 غشت 2017، https://manshoor.com/society/iran-sexual-harassment/.

[9] – https://www.hespress.com/محاكمة-الجنس-مقابل-النقط-تتحول-إلى-مو-934495.html.

[10] – إسماعيل العلوي، “النضال الديمقراطي في المغرب، رهانات الماضي وأسئلة الحاضر”، أنجز الحوار وقدم له: عبد الله البلغيتي العلوي، مركز الأزمنة الحديثة، ص 134- 150.

[11] – رأي المجلس الاقتصادي.. مرجع مذكور، ص 12

[12] – “النسوية والقومية في العالم الثالث”، مرجع مذكور، ص 101