الفصل التاسع: حملنا الثورة على أكتافنا(78)



جودي كوكس
2022 / 3 / 7


الفصل التاسع من كتاب ثورة النساء: روسيا 1905-1917

جودي كوكس

مساء 10 تشرين الأول/أكتوبر عام 1917، غادرت ألكسندرا كولونتاي متردية قبعة مزخرفة وتحمل نوعاً محدداً من المظلات من شأنها الدلالة على أنها “سيدة” لأي جاسوس يراقبها. توجهت إلى منزل عاملة في الحزب، تاتيانا فلاكسيرمان، التي كان زوجها، سوخانوف، الرجل الذي استمع على نقاش العاملات اللواتي كن يناقشن إمكانية حصول الثورة (راجع/ي بداية الفصل السابع)، قد وافق على إخلاء المنزل في تلك الليلة. كل من انضم إلى الاجتماع مع كولونتاي حول طاولة العشاء في الغرفة الرئيسية القليلة الإضاءة كان متنكراً؛ وضع لينين شعراً رمادياً مستعاراً. من الساعة 10 مساءً وحتى صباح اليوم الثاني، قدّم أعضاء اللجنة المركزية البلشفية تقاريرهم، وكل تقرير تضمن جهوزية العمال والجنود للقتال. عارض زينوفييف وكامينيف فكرة أن يستولي العمال على السلطة باسم السوفيتات، حتى لو فاز البلاشفة بالأكثرية في سوفيتَي بتروغراد وموسكو مع شعارهم: كل السلطة للسوفيات. كتبت ألكسندرا: “ماذا يريد هذان الجبانان الوصول إلى السلطة عبر المسار البرلماني الانتهازي؟”(79)

مع حلول الفجر، أجري التصويت، كانت النتيجة 10 مقابل 2 لصالح الانتفاضة المسلحة. فأدخلت أواني الأكل إلى الغرفة وسط جو من الغبطة، وكان البلاشفة متضورين جوعاً، فبدأوا بالأكل والشرب. وتوجهوا بعد ذلك لتشكيل مكتب خاص لتنظيم تسليح العمال والعاملات، والجنود والبحّارة. “سارت ألكسندرا في الشوارع والقنوات الخلفية المعتادة يحركها شعور النصر والنشاط وتوجهت مباشرة إلى مقر السوفيات، حيث ألقت خطاباً حماسياً داعية إلى وضع حد لتشارك السلطة مع الحكومة، وإلى كل السلطة للسوفيات”.(80)

في شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1917، انضمت حوالي 30 ألف امرأة إلى صفوف البلاشفة. وعندما طالب الحزب بنقل كل السلطة إلى السوفيتات، تجاوبت كل تلك النساء. لقد ساعدن على صنع ثورة تشرين الأول/أكتوبر وحافظن عليها خلال سنوات الحرب الأهلية. عززت الثورة ممارسات البلاشفة العريقة التي تُشرِك النساء في كل النضالات. فسنوات العمل السري أنتجت المساواة. “سنة 1917 الثورية كانت مليئة بأفكار عامة بأن الحرية أصبحت بسرعة ميزة فخر للبلاشفة لأن كان لديهم العديد من العاملات في المنظمة”(81). نظم البلاشفة حملات من أجل حقوق النساء وسط العمال وناضلوا من أجل انتخاب ممثلات عن العمال/ات في مراكز العمل حيث للنساء حضور بارز. كانت الثوريات الخبيرات قادرات على التفاعل مع النساء المسيسات حديثاً.

إحدى الأمثلة كانت آنا ليتفيكو، بدأت بالعمل وكان عمرها 12 سنة، وعلى الرغم من صغر سنها، هربت من منزل أهلها لأن والدها كان يعنفها ويسيء معاملتها. استمعت إلى متحدث منشفي في مصنعها ولكن وجدته معتدلاً للغاية، ولاحظت أن المتحدثين المناشفة كانوا من المثقفين في حين كان البلاشفة عمالاً. انتخبت إلى لجنة المصنع حيث التقت البلشفية، ناتاشا بوغاشيفا، وعام 1917 انضمت إلى الحزب البلشفي نفسه. عندما أحرق أحد المشرفين في المصنع عاملة بواسطة قضيب فولاذي، دعت العاملات إلى اجتماع، ووضعوه في عجلة ورموه خارج المصنع. خلال تشرين الأول/أكتوبر، كانت آنا وناتاشا، ناشطات خلال الثورة، فحملتا السلاح في المدينة واعتنتا بالجرحى في المستشفيات الميدانية. اعتبرت مجموعات يسارية أخرى نساء مثل آنا صغيرات للغاية حتى يكون لديهن معتقدات سياسية جدية. وحدهم البلاشفة شجعوهن على القراءة، وعلى التغلب على مخاوفهن عند التحدث أمام الجمهور، وعلى أن يكن جزءاً من السوفيتات.

العديد من القياديات البلشفيات، مثل كولونتاي وأرماند وكروبسكايا، كن في المنفى عندما بدأت ثورة شباط/فبراير. مع ذلك، لعب جيل آخر من النساء دوراً أساسياً في الحزب البلشفي خلال الثورة. انضمت نينا أغادزانوفا إلى البلاشفة عام 1907 يوم كانت طالبة، ونشطت في بناء الحزب خلال العمل السري واعتقلت 5 مرات ونفيت مرتين. عام 1917، أصبحت عضوة في منظمة الحزب البلشفي في فيبورغ. وكانت كذلك سكرتيرة تنفيذية لجريدة رابوتنيتسا، وخلال عام 1917 عملت في مهمات سرية ضد الجيش الأبيض. وأخيراً كتبت سيناريو فيلم معركة بوتيمكين.(82)

كان تمثيل النساء ضعيفاً في قيادات كل الأحزاب السياسية المتنافسة على الشعبية عام 1917. كتبت الصحافية الأميركية بيسي بيتي: “هنا، في كل مكان، الوصول إلى الشرف الحكومي كان من نصيب الرجال، ولكن، الأعمال العادية لإعداد اللحم والشراب كان من نصيب النساء”.(83) وصفت اجتماعاً ديمقراطياً حيث من أصل 1600 مندوب كان هناك 23 مندوبة فقط. العديد من النساء كن هناك، يخدمن خلف الأواني، ويحضرن السندويشات، ويكتبن المحاضر ويحصين أعداد المصوتين. علقت بيتي: “كان الأمر طبيعياً للغاية، وسبب لي المرض”.(84) على الرغم من الصورة العامة، كانت ألكسندرا كولونتاي وإيلينا ستازوفا عضوتين في اللجنة المركزية البلشفية عام 1917، وانضمت إليهما بعد سنة فارفار ياكوفليفا. كما تولت مراكز أساسية في الحكومة السوفياتية. بدورها، تولت كولونتاي مركزاً أساسياً في الحكومة الجديدة، بداية عينت مفوضة للرعاية الاجتماعية ولاحقاً مفوضة لشؤون البروباغندا. كما تولت إينيسا أرماند وناديا كروبسكايا أدواراً في الحكومة الجديدة. وكانت البلشفية يفغينيا بوش أول امرأة تترأس حكومة في أوروبا الحديثة، حيث ترأست الحكومة السوفياتية في أوكرانيا عام 1917. مع ذلك، اختارت العديد من القياديات البلشفيات عدم تولي مراكز قيادية في الحكومة السوفياتية الجديدة.

كان غياب النساء عن الحكومة الجديدة نتيجة عدة أسباب. الأول، من دون شك الافتراضات المختلقة من الرجال حول قدرة النساء على قيادة الآخرين. الثاني، هو موقف النساء أنفسهن من القيادة السياسية. غالباً ما تختار النساء تولي مناصب أقل أهمية والعمل من أجل القضية دون البحث عن الأضواء بسبب افتقارهن إلى الثقة والخبرة والتعليم (كانت النساء مستبعدة من التعليم العالي في روسيا). بالإضافة إلى ذلك، إن العديد من النساء كن ما زلن مسؤولات عن رعاية الأطفال وشعرن أنهن لا يمكنهن تولي مناصب قيادية طالما أنهن ينجزن مسؤوليات عائلية. لكل هذه الأسباب، كان تمثيل النساء ضعيفاً بالمناصب القيادية في الحزب البلشفي وفي الحكومة.

مع ذلك، كتبت ألكسندرا كولونتاي، التي عملت بكد لإشراك النساء في السياسات الثورية، بحماسة عن أعداد النساء الناشطة في الحكومة السوفياتية: “لدينا نساء لسْن فقط عضوات في السوفيتات، إنما أيضا قائدات للسوفيتات المحلية. العديد من النساء يتصرفن كمفوضات لكل أنواع الحياة الاجتماعية وشؤون الدولة، وعلى الجبهة”.(85) ومن المفيد تذكّر أنه في بريطانيا أول امرأة عُينت في الحكومة كانت سنة 1929، عندما عينت مارغريت بونفيلد وزيرة للعمل. وأول امرأة عينت في حكومة الولايات المتحدة كانت فرانسيز بيركينز التي عينت كذلك وزيرة للعمل ولكن سنة 1933. يجب فهم فشل البلاشفة في تعيين المزيد من النساء في المراكز الأساسية في سياق ذلك الزمن. فالنظام الثوري أخرج العديد من النساء من تحت عبء العمل المنزلي أكثر من أي حكومة عاصرته.

أبعد من الحكومة الجديدة، انخرطت الآلاف من النساء في ثورة تشرين الأول/أكتوبر، التي ألهمت النساء حتى أصبحن قائدات ثورية في الحركة الواسعة، بين العمال والجنود. إحداهن كانت روزاليا زيملياتشكا. تنحدر روزاليا من عائلة يهودية راديكالية وكان عمرها 15 سنة فقط عندما جرى اعتقالها لأول مرة. أصبحت ماركسية عام 1896 وبقيت مناضلة بلشفية سرية حتى عام 1917. في ثورة شباط/فبراير عام 1917، كانت أمينة سر اللجنة البلشفية لمدينة موسكو. لم تكن وظيفة مكتبية. كانت زيملياتشكا مؤيدة صلبة للينين ومنظِّمة سياسية مصممة. عندما فشلت لجنة موسكو في دعم السيطرة على السلطة، شكلت زيملياتشكا ورفاقها لجنة أخرى. ومن ثم عادت اللجنتان إلى الاندماج بعد أن تمكنوا في شهر تشرين الأول/أكتوبر من هزم جنود الحكومة المؤقتة خلال يومين. وعندما اندلعت الحرب الأهلية، تطوعت زيملياتشكا للخدمة على الجبهة وفي شهر آب/أغسطس عام 1918 أرسلت إلى بيلاروسيا للتعامل مع الجنود الرافضين القتال في الجيش الأحمر. فألقت خطاباً حماسياً وأمضت أسبوعين تقنع الرجال للقتال. من ثم استقلوا القطار الذي نقلهم إلى الجبهة. لاحقاً باتت القائدة السياسية للجيش الثامن في أوكرانيا. كانت قائدة حازت على الولاء والاحترام، وأثبتت أنها كانت عدوة شرسة للجيش الأبيض.(86)

عنت الراديكالية في الجيش أن الجنود يمكن كسبهم إلى الاشتراكية بواسطة المحرضات. في شهر نيسان/أبريل عام 1917، كانت ألكسندرا إحدى أكثر القادة البلاشفة شعبية في بتروغراد. حضرت اجتماعاً للجنود وطلبت منهم انتدابها لتمثيلهم في سوفيات بتروغراد. تطلب الأمر يوماً حتى يخرج الجنود من صدمة أن يُطلب منهم انتداب بلشفية تمثلهم، ومن ثم صوتوا لصالحها. أمضت ليودميلا ستال معظم سنة 1917 في قاعدة كرونشتاد البحرية تستقطب البحارة وزوجاتهم إلى الاشتراكية. هكذا أمكن استدعاء الرجال من أجل الدفاع عن الثورة. تعرض النظام الثوري لعدوان شنه الجيش الأبيض والقوى الخارجية؛ أدت الحرب الأهلية إلى مصرع حوالي 10 مليون روسي.

انضم عدد مهم من النساء إلى الجيش الأحمر، في حين فرض التجنيد الإجباري على الرجال للمحاربة في الحرب الأهلية، لم يكن إجبارياً انضمام النساء. مع ذلك، تطوعن وبأعداد كبيرة. قدرت أعداد المتطوعات في الجيش الأحمر بحلول العام 1920 بين 50 ألف و70 ألف امرأة، أي ما نسبته 2 بالمئة من مجمل القوى المتحاربة. وصلت قلة منهن إلى مراتب عسكرية قيادية. من بينهم كانت يفغينيا بوش. انضمت إلى صفوف البلاشفة عام 1901. عام 1906، أخذت بناتها، وتركت رسالة إلى زوجها وتوجهت نحو كييف، حيث أصبحت أمينة سر المجموعة الاشتراكية الديمقراطية الروسية قبل اعتقالها ونفيها إلى سيبيريا. فهربت من هناك، وعادت إلى روسيا بعد بدء ثورة شباط/فبراير. في تشرين الأول/أكتوبر 1917، أخذت بوش إذناً لقيادة كتيبة من الجنود متمترسة في مدينة وسط أوكرانيا. كانت تعرف باسم “الكتيبة الوحشية”، وعندما وصلت كان الجنود المسلحين يشربون الكثير من الكحول. بكل شجاعة، تحدثت بوش لمدة ساعتين وشرحت أهمية استبدال الحكومة المؤقتة الفاشلة بحكومة سوفياتية. وعندما غادرت، سارعت الكتيبة في البحث عن أغراضها للحاق بها وتأملها وهي بكامل أناقتها. بعد شهر كتب قائد العمليات، معبراً عن مناهضة للسامية كانت سائدة بين ضباط الجيش حيث اعتبر أن: “المحرضين، مثل اليهودية بوش، قد دنسوا كل وحدات الكتيبة”.(87) قدرة بوش على إقناع الجنود بأن مستقبلهم يكمن في الاشتراكية كانت أقوى من الأحكام المسبقة ضدها. اعترف قائد العمليات بمدى خطورة ذلك على النظام السائد، والذي اعتمد لوقت طويل على معاداة السامية والتحيّز الجندري للحفاظ على انقسام وضعف الطبقة العاملة.

بعد وقت قصير، تمردت كتيبة أخرى على بعد 20 ميلاً من فينيتسا. دعا الجيش إلى إرسال التعزيزات فهبت بوش لإقناع الكتيبة الوحشية لعدم التجاوب مع الأوامر العسكرية. وقف الجنود متراصين في الساحة تحت المطر الجليدي يستمعون إليها، وفي اليوم التالي، عادت إلى فينيتسا على رأس كتيبة مدفعية مدعية أنها تريد الانضمام إلى المتمردين بدلاً من سحقهم. بعد مرور أيام على الاشتباكات سقطت المدينة بيد بوش وثوارها. لاحقاً، خلال الحرب الأهلية، تمكنت بوش من استعادة أوكرانيا إلى السيطرة البلشفية، فوصفها فيكتور سيرج بأنها واحدة من أكثر القادة العسكريين/ات كفاءة في ذلك الوقت. بعد بضعة أشهر، أطلقت بوش مؤتمر السوفيتات الأوكراني، الذي أعلن الجمهورية السوفياتية وأصبحت مؤقتاً أول امرأة تترأس حكومة وطنية. في كانون الثاني/يناير عام 1918، أصبحت بوش وزيرة الداخلية في جمهورية أوكرانيا السوفياتية. بعد وفاة لينين، باتت صوتاً مبدئياً نقدياً لقيادة ستالين للحزب. وكمناصرة لتروتسكي، تزايدت كآبتها وخيبة أملها. في كانون الثاني/يناير عام 1925، عندما عزل ستالين تروتسكي من منصبه كقائد الجيش الأحمر، انتحرت بوش.

الهوامش:

78. Ibid., p.200.

79. Porter, Alexandra Kollontai, p.268.

80. Ibid., pp.267-8.

81. Clements, Bolshevik Women, p.126.

82. McDermid and Hillyar, Midwives of the Revolution, p.71.

83. Bessie Beatty, The Red Heart of Russia, (New York, 1918), p.358.

84. Ibid., p.358.

85. Alexandra Kollontai, ‘Letter to Dora Montefiore’, 1921, paragraph 5, https://www.marxists.org/.

86. Clements, Bolshevik Women, pp.180-4.

87. Ibid., p.129.