في أهمية وفضائل تحرير المرأة



شاهر أحمد نصر
2022 / 3 / 23

"إذا ما أتَتْنا الريحُ من نحو أرضه أتَتْنا بريّاه فطـــاب هبوبـــــــــــــها
أتَتْنا بمسك خالط المسك عنبرٌ وريحُ خُزامى باكرتها جنوبُهـــــا
أحِنّ لـــذكراه إذا ما ذكــــــــــــــــــــرتُه وتنهلّ عَبْراتٌ تفيض غروبُهـــــا
حنينَ أسيرٍ نازحٍ شُدّ قيــــــــــــــــــــدُهُ وإعوالَ نفسٍ غاب عنها حبيبها"(1)
حينما تذكر المرأة تتفتح أزاهير البيلسان، ويفيض الفضاء عطراً ورقة وألقاً...
فالمرأة والرجل: الأم والأب، الأخ والأخت، الصديقة والصديق، الزوج والزوجة؛ مقولتان متكاملتان، ووجهان متلازمان لإنسان واحد على سطح هذا الكوكب، لا يستمر وجود أحدهما بمعزل عن الآخر... وأي تطور ورقي يحوزه أحدهما يخدم الآخر... فتطور المرأة ورقيها في صالح الرجل، مثلما تطور الرجل ورقيه في صالح المرأة... وإذا أراد الرجل أن يعيش حياة متحضرة راقية، عليه أن يساهم في تحضّر المرأة ورقيها؛ فهي التي تحمله، وتربيه، وتحبّه، وتشاركه الحياة.
الجمال، والإغواء، والخصب من أهم خصال المرأة، وأكثر جوانب علاقة الرجل بالمرأة حظاً في التدوين، والتخليد، فنجده جلياً في الميثولوجيا، وفي أغلب الأساطير:
" آه أوروبا، أوروبا !
ذهبت الفتيات لجمع الورد.
كم كانت جميلة أوروبا.
حتى زفس الإله الذي كان مستلقياً متكاسلاً هبّ بعد أن قذفته أفروديت بسهم الحبّ. فتحوّل إلى ثور، كأنّ هيرا لا تعلم ماذا يفعل. اقترب منها، فركبت ظهره، وفرّ بها في البحر. حتى حيوانات البحر رقصت لها. اختطفها إلى جزيرة كريت، وأنجبت من زفس أولاداً وخلد اسمها. وبقي قدموس يبحث عن أوروبا."(2)
يخلد هذا النص جمال المرأة السورية التي أيقظت آلهة اليونان، ويظهر العلاقة التاريخية بين أوروبا وبلاد الشام، ومكانة المرأة في تلك العلاقة... ودور المرأة في تأسيس الحضارات، وفي تفاعلها فيما بينها. فكيف نُفسّر نظرة المجتمعات البشرية الاستعلائية إلى المرأة في الألفية الثالثة بعد الميلاد؟ مما يدفع المفكرين المتنورين منذ آلاف السنين إلى أن يضعوا أمام البشرية مهمة تحرير المرأة، ويعدّوها من المهمات الملحة التي ينبغي معالجتها، ولم يجدوا لها علاجاً؟ بل نجد حتى الآن أناساً ينكرون هذه المسألة، ولا سيّما أصحاب قصة التفاحة الواردة في التوراة، والتي تعدّ مرجعاً مشتركاً لدى كثيرٍ من أتباع مختلف الديانات التوحيدية؟ الذين يؤمنون بحرفية هذا النص، على الرغم من أنّ النصوص غالباً ما تحمل بعداً رمزياً... وتتكاثر الأسئلة المرتبطة بقضية تحرير المرأة، منها، على سبيل المثال:
بماذا يختلف الرجل والمرأة؟
كيف تمكّن الرجل أن يفرض نفسه كجوهر أساس، متجاهلاً المرأة، والروابط التي تربطه بها؟
كيف قبلت المرأة واقع الاستسلام لمصير لم تخطّْه بنفسها، وكيف اكتسبت هذا الرضوخ؟
كيف تستطيع المرأة أن تحقق ذاتها، وتثبت وجودها؟ وهل يمكن أن تتحرر؟
وإذا كان اختلاف الرجل والمرأة جسدياً يتركز في أعضائهما التناسلية، فهل هذا الاختلاف يمنح الذكر الحق في التفوق؟
تلعب الأعضاء التناسلية لدى الذكر، والأنثى دوراً متشابهاً في تلبية الرغبة والغرائز، بينما العقل والذكاء يساعد الإنسان في تحقيق أهدافه التي يسعى لتحقيقها وفقاً لإرادته الذاتية، أي يساعده في تحقيق ذاته، وإثباتها. والعقل موجود لدى الأنثى كما الذكر، وتختلف نسبة استخدامه لدى الذكور اختلافها لدى الإناث؛ وبالتالي تنتفي إمكانية تفوق أي جنس على الآخر بسبب اختلاف أعضائهما التناسلية والذهنية... إنّما قد يختلفان باختلاف الإرادة، والمقدرات المادية، والمعنوية المتوفرة لكلّ منهما، ولا سيما، مع اقترانها بعقدة "نقص" تظهر لدى الأنثى بسبب وضعها الاجتماعي، مما يجعلها تنكفئ، فيتفوق الذكر عليها...
أما الاختلاف الجسدي الآخر بين الرجل والمرأة الذي يتجلى في امتلاك الرجل قوة عضلية تفوق قوة المرأة؛ فالتجربة العملية تدحض ذلك، لأنّ النساء اللواتي يمارسن التمارين الرياضية، تنمو عضلاتهن، فتكتسب شكل وقوة عضلات الرجل، فضلاً عن أنّ المرأة تكتسب هذه العضلات القوية من خلال القيام بأعمال جسدية شاقة، وثمّة مِهَنٌ كالدهان، والطينة، تمارسها النساء في عدد من البلدان، كروسيا، على سبيل المثال، بينما هي من مِهَنِ الرجال في بلدان أخرى...
لعل من نافلة القول إنّ وجود فروقات تشريحية، وبيولوجية، ربّما تسبب اختلافات فطرية بين الذكر والأنثى، إنّما لا تبرر هذه الاختلافات، تفوق جنس على آخر... فأين يكمن سبب سيادة الرجل على المرأة؟
مكانة المرأة في المجتمع مقياس حضارته
حينما يجري الحديث عن تحرير المرأة غالباً ما تحضر المسألة الجنسوية إلى الذهن، بيد أنّ قضية تحرير المرأة أوسع، وأكثر عموماً وعمقاً من ذلك، ولا تنحصر في الحقوق الجنسوية المهمة، فثمة حاجة إلى أفعال وخطوات كثيرة ينبغي القيام بها في مختلف المجالات العملية، والنظرية والتشريعية، والقانونية كي تحصل المرأة على حقوقها كاملة، ولكي تُعالج تلك العوامل الكثيرة التي تراكمت طوال مراحل متعددة من التاريخ البشري، وساهمت في جعل المرأة تابعة للرجل، والتي تكمن في البنى الاقتصادية، والاجتماعية التي هيمنت على المجتمعات البشرية.
يرى المؤرخون والباحثون في مكانة المرأة الاجتماعية في سياق التطور التاريخي، أنّ مجتمعات العصور الأولى كانت مجتمعات أمومية، أي تعتمد على المرأة في تأمين شؤون ومتطلبات الحياة... ففي تلك المرحلة، ارتبطت الأنثى مع الأرض بعلاقة العطاء والخلق، والمســــاهمة في ديمومة الحياة، فكان الإله في تلك المرحلة أنثى، وكان الرجل يخافها، ويتوجــــس من مـــــكائدها؛ وقد انعكــــــــــــــــس ذلك في نصوص ميثولوجية تعبّر عن نظرة الرجل إلى علاقته بالمرأة، وتعيد، أحياناً، غضب الطبيعة وما تجرّه من مآسٍ إلى المرأة... هكذا يخاطب الرجل عشتار قبل حوالي ستة آلاف عام:
"ماذا تفعلين بعشاقك، يا عشتار ؟!
أيّها الموقد، الذي ينطفئ وقت البرد،
أيّها الظرف المثقوب يبلل ظهر حامله،
أيّها الباب لا يقي صاحبه نفخ العواصف،
إن أصبحت وإياك حبيبين،
ألن أشرب الكأس نفسها؟"(3)
وغالباً ما كانت الشعوب المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط تُقدِّم للآلهة بكارة بناتها، فيُؤتى بهنّ إلى الهيكل، ليزيل عذرتَّهن كهنة يتقمَّصون قوة الله... ذلك أنّ السرّ الغامض للجسد الأنثوي كان حقاً يوحي ببعض القلق والاضطراب... فالعبد السادن للمعبد يأخذ على عاتقه كلّ خطر، ويرسم الطريق الذي يستطيع الرجل المحتمل من بعده أن يسلكه في تمام الهدوء والطمأنينة.(4)

وازداد تشبّث الرجل بنظرة الريبة والشك إلى المرأة، وأيدها بنصوص مقدّسة، عبّرت عن نظرة كثير من رجال الدين التعسفية إلى المرأة، الذين عززوها، وزادوا من حدتها باستثمار عدد من النصوص المقدسة التي سُخّرت لتثبيت فكرة التفوق الذكوري، ووصلت إلى حد التشكيك إن كانت المرأة إنساناً مكتملاً؟ ففقدت الإلهة الأنثى عرشها الديني، وأضاعت مكانتها، وأصبح مصيرها رهن إرادة الذكر. فكيف حصل ذلك، ولماذا؟
بيّنت دراسات المؤرخين ولا سيما مورغان (1818-1881) - التي اعتمد عليها فريديريك انجلس في وضع كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" - أنّ العلاقات الجنسية داخل القبيلة في العصر البدائي كانت غير محدودة، أسماها باهوفن (1815-1887) "الهيتيرية"؛ فكلّ امرأة كانت تخصّ كلّ رجل، وكلّ رجلٍ كان يخصّ كلّ امرأة... عُرف ذلك بالزواج الجماعي.(5) وفي مرحلة لاحقة ظهرت العائلة الثنائية... إنّ هذه العلاقات تنفي كلّ إمكانية لتقديم الدليل الأكيد على الأبوة، ولهذا لم يكن من الممكن تقرير النسب إلا حسب خط الأم. من جراء هذا، تمتعت النساء بمقدار كبير من الاحترام والتقدير، بلغ، حسب رأي باهوفن، حدّ سيادة النساء التامة ("الجينيكوقراطية" أي "حكم النساء").
وتلخص تطور العائلة في العصر البدائي، إذن، في استمرار تقلص تلك الحلقة في العلاقة الجنسية التي كانت في البدء تشمل القبيلة كلّها، ثم اســــــــــــــــــــــــــــــــــــتبعد الأنسباء الأكــــــــــــــــثر قرابة بادئ ذي بدء من العلاقة الجنسية، ثم الأنسباء الأكثر بعداً... ولم يبقَ في آخر المطاف إلّا الزواج من اثنين تجمع بينهما علاقات زواج غير متينة...(6)
ويجد باهوفن الأدلة على موضوعاته في الانتقال إلى الزواج الأحادي في استشهادات عديدة مأخوذة من أدب الأزمنة الغابرة الكلاسيكي... وتبعاً لذلك، يفسر باهوفن ثلاثية "أوريستيه" المسرحية أسخيلوس على أنّها تصوير درامي للصراع بين حقّ الأم الهالك، وحقّ الأب الذي انبثق في العهد البطولي وانتصر. فإنّكليتمنسترا، إرضاء لعشيقها أيغيست، قد قتلت زوجها أغممون بعد عودته من حرب طروادة، ولكن أوريست، ابنها وابن أغممنون، يقتل أمه انتقاماً لمقتل أبيه. ونظراً لذلك، تطارده الإيرينيات الحاميات الشيطانات لحقّ الأم، الذي يعتبر قتل الأم أفدح جريمة، وجريمة لا تغتفر... وها هو ذا ابولون يأخذ جانب الدفاع عن أوريست؛ وتطرح أثينا (رئيسة المحكمة) المسألة على التصويت أمام أعضاء "الأريوباغ" – أي أمام المحلفين الاثينيين؛ فانقسمت الأصوات قسمين متعادلين، قسم يؤيد التبرير، وقسم يؤيد المعاقبة؛ آنذاك صوتت أثينا بوصفها رئيسة المحكمة في صالح أوريست، وأعلنت براءته. وهكذا انتصر حقّ الأب على حقّ الأم(7)...
يرى انجلس أنّ هذه الواقعة تؤكد أنّ باهوفن كان على حقّ حين أكد أنّ الانتقال مما يسميه "الهيتيرية"، إلى الزواج الأحادي قد تحقق أساساً بفضل النساء... إنّما هنا يتوارد سؤال: أليست هذه الواقعة دليل على أكبر تزوير قام به الرجال في التاريخ، وكيف غاب عن ذهن انجلس أنّ المسرحية كتبها رجل؛ بالتالي فالرجل هو الذي تصوّر، ودوّن رأي أثينا، بأنّها صوتت في صالح أوريست، وأعلنت براءته؟ أي إنّ الرجل هو الذي جعل حقّ الأب ينتصر على حقّ الأم عملياً بجهوده وتصميمه، ونظرياً على لسان المرأة...
فهل يعود الرجل إلى رشده، ويعتذر عن مجمل التزوير التاريخي الذي ارتكبه بحق المرأة، وتنال المرأة مكانة موازية لمكانته في المجتمع، مثلما يحصل يوم الزفاف؟"
إذاً، حينما أصبحت الثروات ملكية خاصة للعائلات، وحينما تنامت بسرعة، سددت ضربة قوية إلى حقّ الأم؛ فبموجب تقسيم العمل الساري المفعول آنذاك في العائلة، كان على الزوج (الرجل) أن يستحصل على الغذاء وعلى أدوات العمل الضرورية لهذا الغرض، بالتالي كان له حق امتلاك أدوات العمل وتوريثها، إنّما بموجب العرف والعادة السائدين في ذلك المجتمع، لم يكن بوسع أولاده أن يرثوه... إذ كان المتوفى في العشيرة يرثه أنسباؤه.
وبمقدار ما كانت الثروات تتنامى، كانت من جهة أخرى تولد الرغبة والسعي إلى الاستفادة من هذا المركز المترسخ لأجل تغيير نظام الوراثة التقليدي في صالح الأبناء. إنّما لم يكن من الممكن أن يتحقق هذا طالما كان النَسبُ يُحسب تبعاً لحقّ الأم. ولهذا كان ينبغي إلغاء هذا الحقّ فألغي... وأُقر الانتساب حسب النسل الرجالي، وحق الوراثة حسب خط الوالد...(8)
هكذا، إذاً، في غابر الزمان، لمّا عرف الانسان أدوات العمل المعدنية، تسيّد الرجل الذي بدأ يضع القوانين والأنظمة، وأخذ يوسع دائرة ممتلكاته ويديرها بنفسه، وانكفأت المرأة، ليقتصر دورها على الإنجاب، وتلبية رغبات الرجل، والقيام بالأعمال المنزلية... ولمّا بدأ الرجل يضع القوانين الدنيوية، همّش دور المرأة وجعلها تابعاً له، وأعادها إلى المنزل لتلعب الدور الذي رسمه لها...
وتتعزز عملية تهميش المرأة، حسب رأي "سيمون دي بوفوار"، منذ طفولتها، إذ "تكتشف الفتاة أنّ هناك فرقاً بينها وبين الذكر في الأعضاء التناسلية، وهذا ما يربكها، ويجعلها تعزو اهتمام المحيط بالذكر إلى تفوق هذه الأعضاء. وكذلك سهولة تحرك الذكر ضمن بيئته التي ترحبّ به وتغفر أخطاءه، وتشعره بالتفوق، بينما تنكفئ الأنثى وتلوذ بالأم، والأخوات، والجدات... اللواتي يسعين إلى نقل مورثهن إليها وتكبيلها بما كُبّلن به، قبل أن يتولى المجتمع ذلك. ومما يرثى له أنّ المرأة تساهم في تعزيز عبوديتها عن طريق رضوخها لها، ونقل ذلك الشعور وترسيخه في عقل طفلتها الأنثى، حيث تختلف المعاملة، فالذكر هو البطل، والحامي، والقوي الذي لا يبكي، بينما الأنثى، هي العبء، والعار في أغلب المجتمعات..."
ولا تغفل "دي بوفوار" آثار الحمل والولادة، وعلاقة الأم بالمولود، ومدى تأثير ذلك في حالتها النفسية، فهذا الحدث الذي هو طارئ جديد على جسد المرأة، لا بد أن يسبب لها الاضطراب والحيرة والتساؤل عن كنه هذا الغريب الذي ينمو في أحشائها، ويهدد جمال جسدها، وراحتها، ويفرض عليها قوانينه هو. (9)
ويبقى الهاجس الرئيس الذي يقض مضجع المرأة كيف تثبت ذاتها، وتعزز مكانتها في المجتمع؟ ومتى تتحرر؟
إنّ مسألة علاقة الرجل بالمرأة، ومكانة المرأة في المجتمع، والمسألة الجنسوية، مثلها مثل مسائل كثيرة أخرى كالعنصرية، والاحتلال، والاضطهاد، ذات بعد إنساني عام... ومن الطبيعي أن يتساءل المهتمون بالشأن الإنساني في بداية الألفية الثالثة: لماذا ما يزال الجنس البشري بعد آلاف السنين من التطور تنهشه هذه الأمراض؛ مثل: الجنسوية، والعنصرية. التي تبرر سيطرة الرجال، على النساء... على الرغم من عدم وجود ما يُثبت أن النساء "مخلوقات دنيا"...
إنّ المجتمعات التي يهيمن فيها الاستغلال والاضطهاد، والفكر العنصري، يتضاعف فيها ظلم المرأة... وعلى الرغم من أنّ الثورة الصناعية أعطت بعداً، وطابعاً جديدين للعلاقة بين الرجال والنساء... وحازت النساء في مجتمعات الثورة الصناعية كثيراً من الحقوق التي طالما حلمن بها، وتقدم وضع النساء كثيراً في بلدان الثورة الصناعية، إلاّ أننا لا نستطيع القول إنهنّ حصلن على كامل حقوقهنّ، وإنّ جميع مشاكلهن قد حلت... فالثقافة الجنسوية، التي نشرتها وسائل الإعلام في هذه المرحلة، ساهمت في تبرير الإجحاف الذي تتحمله النساء، ولعبت دوراً في إجبارهن على متابعة العيش في عالم مغلق، منعزل، من أجل تهيئتهن للاستسلام، وللرضوخ وحتى التعلق بالحدود المفروضة عليهن، لتحقيق أكبر مقدار من الربح والفائدة للاحتكارات... مما يدفع كثيراً من الباحثين إلى التساؤل: هل تريد المرأة، حقاً، أن تتحرر؟
المرأة في العالم العربي
أما وضع المرأة في عالمنا العربي فلا يختلف كثيراً عن وضعها في باقي بلدان العالم... إذ مرّت علاقة الرجل العربي بالمرأة بمراحل متعددة...
فقد عرف العرب شاعرات أنشدن قصائد من دون تكلّف، أو خجل من المشاعر الإنسانية التي أحسسن بها، فهذه أم خالد النميرية تقول في حبيبها أثال الكلابي (كما جاء في زهر الآداب:2: 966)
إذا ما أتَتْنا الريحُ من نحو أرضه أتَتْنا بريّاه فطـــاب هبوبـــها
...
وكان لظهور الإسلام وانتشاره أثر عميق في علاقة الرجل بالمرأة... فلعبت ثورة الإسلام دوراً عظيماً في تجاوز مرحلة مظلمة من مراحل وأد الأنثى في المنطقة العربية... وأكد الإسلام على حقوق المرأة عموماً، وفي الوقت نفسه ترك مسائل - مثل تعدد الزوجات، وأصول الشهادة في المحاكم، وفرض الحجاب، والنظرة الاستعلائية من قبل الرجل إلى المرأة - تحتاج إلى معالجة بالانسجام مع التطور الاجتماعي التاريخي لتجاوزها... ومن المفيد للمسلمين، عند تناولهم هذه المسائل ومعالجتها، أن يعالجوها بمنظور جديد متحضر، وفق الأسس العصرية، وليس وفق أسس مضت عليها عصور وعصور، بحجة القداسة، وقد لا تكون كذلك، مستفيدين من الجرأة التي تحلّى بها صحابة النبي العربي العظيم محمد، في تعاملهم مع ما يراه البعض ثابتاً مقدساً، والذي تجاوزه هؤلاء الصحابة الكرام... فلقد عُرفت في عهد النبي العربي، وصدر الإسلام نساءُ كثيرات لعبن دوراً متميزاً في الحياة السياسية والاجتماعية، وأولهن السيّدة خديجة بنت خويلد، والسيّدة فاطمة بنت النبي العربي محمد، والسيّدة عائشة بنت أبي بكر الصديق، والسيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب، كما عُرِفت شاعرات مبدعات منهن ليلى العامرية، والخنساء... وليست التقاليد والأعراف التي هيمنت لاحقاً عند بعض المجتمعات الإسلامية والعربية، إلاّ نتاج المراحل التاريخية والاقتصادية والبيئية المختلفة التي مرّ بها المسلمون، وبالتالي وبما أنّها نتاج مرحلة تاريخية محددة، فمن الممكن والضروري تجاوزها في المراحل التاريخية الأرقى، التي لا يمكن أن تتطابق معها، وتأتي في مقدمة ذلك النظرة إلى انخراط المرأة في المهام الاجتماعية والعمل، وحصولها على حقوقها كاملة، وتجاوز بعض الأمور المقيدة لحريتها... علماً أنّ المرأة العربية تمتعت بهذه الحقوق في بعض المراحل، وعُرف كثيرون من المتنورين والشعراء والأدباء العرب الذين نادوا بذلك...
إليكم هذه الحادثة التي رويت في الأغاني (19: 217-218)، وفي زهر الأدب (1: 211):
خرج أبو حازم (بن دينار) يوماً (حاجاً) يرمي الجمار، فإذا هو بامرأة حاسر (سافر) (سفرت عن وجه يبهر الشمس حسناً) فقال لها: يا هذه، إنّك بمعشر حرام، وقد فتنت الناس، وشغلتهم عن مناسكهم، فاتقي الله واستتري، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه العزيز (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، فقالت: إني من اللواتي قيل فيهن:
أماطت كساء الخزّ عن حُرّ وجهها وأرخت على المتين برداً مهلهلا
من اللائي لم يحججن بغية حسبة ولكن ليــــــقتلن البريء المغــــــــــفلا
(الشعر للحارث بن خالد المخزومي)، فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندعُ الله لهذه الصورة الحسنة ألّا يُعذبها الله تعالى بالنار، فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمنون. وعلّق الشعبي على هذا الحادث تعليقاً لاذعاً، فقال: ما أرقكم يا أهل الحجاز وأظرفكم. أما والله لو كان من قُرى العراق لقال: اغربي عليك لعنة الله.
وها هو ذا الشاعر مسكين الدرامي، في القرن الأول الهجري، يدعو فيها إلى حرية المرأة قائلاً:
"ألا أيّها الغائر المستشـيط علام تغار إذا لم تغــر؟
فما خير عرس إذا خفتهـا وما خير بيت إذا لم يـزر
تغار على الناس أن ينظروا وهل يفتن الصالحات النظر"
أي إنّ المرأة، حسب رأي شاعرنا، حرة في استقبال زائر واحد، أو عدة زوار في بيتها بحضور زوجها أو غيابه.(10)
ولا يجوز تجاهل أنّ العرب عاملوا المرأة في مرحلة من تاريخهم، ولا سيّما السبايا، بقسوة، وعبودية، فيُنسب إلى الشريف الرضي، قوله:
"وإننا في أرض أعدائنا لا ننكح العذراء إلّا سفاح"
(السِّفَاحِ: الزِّنَى. تَزَوَّجَ الْمَرْأةَ سِفَاحاً: بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ.)
ولا يخالفه حاتم الطائي كثيراً في نكاح السراري، لكنّه يُظهِر جانباً أقرب إلى الإنسانية حين يقول:
"وما أنكحونا طائعين بناتهم ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا
فما زادها فينا السباء مذلة ولا كفلت خبزاً ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بخير نسائنا فجاءت بهم بيضاً وجوههم زهرا"(11)
كما توجد مسألة مهمة لدى المسلمين ينبغي معالجتها بأسلوب حضاري، هي مسألة الحجاب وتفسير الآية: "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ".
ينبغي أن يدرك المسلمون أنّ هذه الآية تدعو إلى التمسك بمكارم الأخلاق، وليست دعوة للحجاب بالقسر، ولا للابتزاز، فلقد جاء في مختلف التفاسير - ونذكر منها تفسير "الجلالين" - "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ" أَيْ يَسْتُرْنَ الرُّؤوس وَالْأَعْنَاق وَالصُّدُور بِالْمَقَانِعِ "وَلَا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ" الْخَفِيَّة وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْه..."(12)
أي إنّه، وحسبما ورد في التفاسير، لا حرج للمرأة منذ عهود الإسلام الأولى أن تبدي وَجْههَا وَكَفَّيْهَا وَالْخَاتَم. هذا فضلاً عن أنّ الآيات القرآنية نزلت في ظروف تاريخية معينة، والغاية الأساسية منها حماية المسلمات المؤمنات من الأذية، وصون الأخلاق النبيلة والشريفة، ومن المعروف أنّ الإسلام دين يسر، لا دين عسر... وطبّق الخلفاء الراشدون وأمراء المؤمنين أحكام الشريعة بما ينسجم والعصر والظروف التي مرّت بالمسلمين. لنأخذ، على سبيل المثال، حكم عقوبة السارق في الإسلام. أساس عقوبة السارق في الإسلام ما ورد في القرآن الكريم: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم) (سورة المائدة. الآية(38)). ومن المعروف أنّ عمر بن الخطاب أوقف عقوبة قطع اليد في عام الرمادة، الذي عمت فيه المجاعة والقحط، فقد كان الناس جياعاً وكانوا مضطرين إلى السرقة، لكي يبقوا مع أهلهم وأولادهم على قيد الحياة... ولقد سار معاوية على نهجه في الواقعة التالية:
جاء في موسوعة أشعار اللصوص وأخبارهم تحقيق عبد المعين الملوحي، أنّ معاوية أتى بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم، فقدم ليقطع، فقال:
"يميني أمير المؤمنـين أعيذهـا بعفوك أن تلقى نكـالاً يبينها
يدي كانت الحسناء لو تم سترها ولا تعدم الحسناء عيباً يشينها
فلا خير في الدنيا، وكانت حفية إذا ما شمال فارقتها يمـينها"
فقال معاوية: كيف أصنع بك وقد قطعت أصحابك؟
قالت أم السارق: اجعلها من جملة ذنوبك التي تتوب إلى الله منها. فخلى سبيله، ويُعدّ هذا ترك حد في الإسلام".(13)
ومع تطور الحياة، ونظراً لاستتباب الأمن والأمان، وبما أنّ المجتمعات ارتقت في نظرتها إلى المرأة، التي ليست عورة... وبما أنّ الدول أصبحت تكفل أمن المرأة وحرمتها، فمن الطبيعي أن يتم التعامل مع المرأة والنص وفق ظروف الحياة المتطورة... ولا سيّما، أنّ المجتهدين، بمن فيهم الأوائل، يختلفون في تفسير النصوص... فهناك من يرى في الحجاب تغطية الرأس، وهناك من يعني بالحجاب وجوب تغطية المرأة لجميع بدنها؛ لأنّ المرأة، حسب رأيهم، "كلها عورة"، وثمّة من يرى أنّ تطور الحياة والحضارة وعدم الخوف على المرأة من الأذية يترك لها حرية الاختيار في أن تتحجب أو لا تتحجب... علماً أنّ عدم تحجبها لا يجلب الضرر لها، ولا للإسلام... من هنا يتبين أنّ تشريعات الدول فيما يخص اللباس في مدارسها هي شأن داخلي، لا ينقص من الإسلام، ولا يؤثر على المسلمات، طالما أنهن لن يتعرضن للأذية... مع التأكيد على الحرية الفردية في ارتداء، أو عدم ارتداء الحجاب في المجتمع، تلك الحرية التي لا تتعارض مع احترام القانون...
ومسألة تحرير المرأة ترتبط بإرادة النساء أنفسهن... كم نحن في حاجة إلى وجود نساء مصونات يدفعن بتميزهنّ، وعطائهن الناس أن يقتنعوا بأنّ السفور أفضل من الحجاب.
إذا أراد العرب التفوق على الغرب، فعليهم بناء حضارة تتفوق على حضارته، وإذا أرادوا رقي الإسلام علينا تطوير فهمهم لأمور الحياة وفق متطلبات الواقع الموضوعي، الذي نعيش فيه، ومتطلبات التطور الحضاري... وإنني لعلى ثقة من أنّ الخلفاء الراشدين، لو عاشوا معنا في أيامنا هذه، لكان فهمهم وتطبيقهم للنص أكثر انسجاماً مع متطلبات التطور الحضاري من كثيرين يعيشون بأجسادهم معنا، وبعقولهم في الجاهلية، ويعملون على فرض فهمهم للنص على الآخر بالتهديد والوعيد...
أما التشبث بتفسير النصوص وفق أهواء البعض، بعيداً عن تطور الحياة ومتطلباتها، فيضر بالإسلام والمسلمين، ولعلّ التعصب في تفسير النصوص، والممارسة الهوجاء الضارة يدفع الناس إلى عدّ تلك الشرائع من أسباب الحقد والعداوة، وهذا ما دفع أبا العلاء المعري إلى القول:
"إنّ الشرائع ألقت بيننا إحـــــــــــــــــــــــــــنا وأودعتــــــــنا أفانين العداوات
وهل أبيحت نساء القوم عن عرض للعرب إلّا بأحكام النبوات"
وفي مواجهة الجهل والحقد الأعمى يدعو المعري إلى المساواة بين الناس عموماً، والنساء خصوصاً، بغض النظر عن أديانهن، وأصولهن، وألوانهن قائلاً:
"وساوِ لديك أتراب الـــنصارى وعيناً من يهودَ ومسلمات
ومن جاورت من حُنُف وسِربٍ صوابئ فلْيَبِنَّ مكرمـــــــــات
فإنّ الناس كلهمو سواء وإن ذكت الحروب مضرمات" (14)
ومن المشاكل التي تعاني منها المرأة العربية والتي تمس مباشرة حقوق الإنسان، تلك المشكلة التي عالجها أدباء ومفكرون عرب منذ بداية القرن الماضي، ولا تجرؤ حكومات عربية في القرن الحادي والعشرين على اتخاذ موقف سليم وجريء منها، إنّها "مشكلة الفتاة التي ينثلم عفافها بفعل التغرير بها"، فإذا بأبيها، وأخيها وأقاربها يلجؤون إلى قتلها، أو رجمها، لغسل (العار) عنهم...
يكمن الحلّ والمعالجة السليمة لهذه المشكلة في الحكم على القاتل بالقتل، عندئذ ستقل حوادث (النخوة) ثم تزول، لأنّ هؤلاء الرجال ليسوا رجالاً إلاّ لأنّهم يعرفون أنّهم لن يلقوا عقاباً. أم أننا نسينا قول السيد المسيح (عليه السلام): "من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه المرأة."
كما تبين النظرة المتفحصة لواقع المرأة في البلدان العربية، أنّه فضلاً عن تلك المشاكل التي يعاني الرجال منها أيضاً، كالاستغلال، والاضطهاد، والفقر، والغربة، والتمييز، هناك مشاكل مضاعفة تعدّ قواسم مشتركة للمعاناة التي تلاقيها المرأة في مختلف البلدان العربية، مثل: ضعف الثقافة، وتفشي الأمية، وعدم إيلاء الاهتمام للصحة الإنجابية، وزيادة عدد الأولاد، وضعف مشاركة المرأة في سوق العمل، مما ينعكس على الأمن الاقتصادي للمرأة، فضلاً عن مشكلة المرأة المزمنة مع متخذي القرار، في العديد من البلدان العربية، التي تحدّ من مشاركتها في الحياة السياسية، وفي تولي المناصب، وعضوية المجالس المحلية والتشريعية والبرلمانات، ومحدودية عدد المشاركات من النساء فيها...
ويبقى السؤال الملح يتوارد في أذهاننا: ما السبيل لتحرير المرأة ونيلها حقوقها؟
يعلم المتنورون من الرجال، والمتنورات من النساء أنّ مسألة تحرير المرأة تتطلب النضال والتضحية، ولقد ضحت شخصيات كثيرة في سبيل ذلك، وأسست حركات وجمعيات تدعو إلى تحرير المرأة في البلدان العربية، وفي هذا المجال نذكر، على سبيل المثال لا الحصر:
- في سوريا عُرفت السيدة مريانا مرّاش التي كانت تكتب في الصحف في أواخر القرن التاسع عشر (1870م) وتدعو إلى تحرير النساء (وربما كانت أول امرأة عربية تفعل ذلك)، وأسست أول مجلس أدبي نسائي في العالم العربي في بيت عائلتها في حلب، والسيدة ماري العجمي التي أسست عام 1910 مجلة العروس، والسيدة عادلة بيهم الجزائري التي شاركت في نشاط جمعيات نسائية، ذات أهداف ثقافية واجتماعية، ونادت بضرورة نيل المرأة حقوقها.
وفي عشرينيات القرن العشرين تأسست في مصر حركة تحرير المرأة بهدف إعادة الحقوق التاريخية المسلوبة من المرأة، والقضاء على الأفكار التي تنظم المجتمع على أساس ذكوري، وهي حركة علمانية وليبيرالية نادت إلى جعل الحجاب والنقاب اختياراً شخصياً، وأن يكون الرجال مع النساء في كل المجالات في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، والأسواق. وتقييد الطلاق وإخضاعه للمحاكم، ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث، وحق النساء في العمل، ونيل الحقوق الاجتماعية والسياسية.
وكانت أولى الناشطات في مجال تحرير المرأة في مصر السيدة هدى شعراوي. وحمل لواء تحرير المرأة من الرجال قاسم أمين، الذي ألف في هذا الشأن كتابي: "تحرير المرأة"، و"المرأة الجديدة"، اللذين نشرهما عامي 1899-1900م على التوالي، بدعم من محمد عبده، وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد، قال فيهما إنّ حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إنّ الدعوة إلى إزالته ليست خروجاً على الدين.
ويمكن القول إنّ أول مرحلة لتحرير المرأة في مصر كانت حينما دعا سعد زغلول النساء اللواتي تحضرن خطبته أن يزلن النقاب عن وجوههن.
تأسس الاتحاد النسائي في مصر في نيسان (أبريل) 1924م بعد عودة مؤسسته هدى شعراوي من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما عام 1922م ونادى بجميع المبادئ التي نادي بها من قبل مرقص فهمي المحامي، وقاسم أمين. مهد هذا الاتحاد بعد عشرين عاماً لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي العربي عام 1944م وقد حضرته مندوبات عن البلاد العربية، وترأست الاتحاد النسائي المصري لاحقاً نوال السعداوي.
وفي زمن الحروب، والنضال ضد الاحتلال تتضاعف مسؤوليات المرأة، ولقد تميزت المرأة السورية، واليمنية، والعراقية، واللبنانية في مساندتها لأبناء شعبها في محنتهم، ويحق للمرأة الفلسطينية أن تفتخر، بأنّها رائدة في النضال من أجل استعادة الحقوق، خصوصاً في الانتفاضتين الأولى والثانية، وبدورها المتميّز الذي يتساوى مع دور الرجل، ويفوقه في بعض الأحيان...
ومما يدعو للتفاؤل، على الرغم من استمرار سعي كثيرين للحد من إمكانيات تحرير المرأة ونيلها حقوقها، وتدعيم سعيهم بالقوانين الجائرة، أن نجد نساء كثيرات يسعين لنيل حقوقهن، وإثبات ذاتهنّ، فنجد الأديبات الكاتبات، والشاعرات، والنساء اللواتي يمارسن مختلف المهن، ويناضلن لنيل حقوقهن، ويرفعن أصواتهن في وجه الثقافة الذكورية، أذكر من تلك الأعمال، على سبيل المثال لا الحصر، أعمال الأديبة والقاصة "ميرفت علي"، شهرزاد القصّ العربي المعاصر، المتميزة بأسلوبها الفني البديع، وبلغتها الفصحى الجذابة، إذ عاينت وضع المرأة الشرقية واضعة اليد على الجرح، مثيرة الحفيظة الذكورية لدى البعص، ومؤججة روح الثأر النسائي من قائمة المسلوبات، والممنوعات التي أجازها المجتمع للرجل، وأباحها له بلا اشتراطات، واجتزأها من حصة المرأة في الحياة، بل جردها منها... وأعادت في روايتها (قولبة الحياة)، وصياغتها وفق رؤى ملايين النساء مُصادرات الحقوق، ولا سيما، في الشأن العاطفي، و في السعي لبلوغ مرتبة الندية وجهاً لوجه مع الرجل... كما أذكر رواية "الراغبون" للأديبة "نهاد أحمد"، وهي قصة امرأة تسعى لإثبات ذاتها في مجتمع ذكوري تهزّه الاضطرابات والحروب، كما أذكر أشعار شاعرات كثيرات، وغيرهن، وأذكر مقتطفاً حاز إعجابي، من مخاطبة الأديبة الشابة "نغم طاهر" للذكر في عيد المرأة قائلة: "مهما علت مراتبك، لا تنسَ أنك تكونت في رحمي... وتغذيت على جسدي وأنهكتني، فلا تتجبر، ولا تتكبر، ولا تدعي أنك أفضل. لأنك من دوني ستخسر".
وعرفت مختلف دول وشعوب العالم حركات، ومناضلين، ومناضلات في سبيل تحرير المرأة.
إنّ واقع المرأة، حالياً، لا سيّما في منطقتنا، يُظهر أنّها مازالت تعاني الظلم والتهميش، ولا تشعر بأنّها معنيّة في كثير من أمور الحياة، بما في ذلك أمور حياتها، ويؤثر ذلك على تطورها، وعلى حالتها النفسية... وهي كائن حي يهمها كيف تتميز، وتثبت ذاتها بأي وسيلة، فتجدها، كما تقول "سيمون دي بوفار" تدرك أنّها لكي تحوز إعجاب الآخرين ينبغي لها أن تكون جميلة كالصورة التي ترسمها في خيالها؛ فتتنكر، وتتزين، وتنظر إلى نفسها في المرآة، وتقوم بحركات إغراء... إنها تخلق السراب، وتقدم شيئاً خيالياً... ثمّة قول يتردّد كثيراً مفاده أنّ المرأة تلبس كي تثير غيرة النساء الأخريات. يمكن أن تكون هذه الغيرة إشارة واضحة إلى النجاح فعلاً ولكنها لا ينبغي أن تكون هدفاً... وينطبق الأمر على حالة ترك المرأة رهينة المنزل، مما يدفعها إلى أن تحوله إلى مملكتها الخاصة، تنظفها، وترتبها لتصبح في أبهى حلة، كأنّها تثبت ذاتها في عملها هذا، وفي جمال ونظافة مملكتها، مما يقودها إلى نوع من الهوس: "ما إن يدخل أحدهم منزلها حتى يتطاير الشرر من عينيها، وتصيح: "ارفع رجليك، إياك أن تلمس هذا". ويُخشى أن تفقد كل بهجة في الحياة...(15) وهي تظنّ أنّها بذلك تُحقق ذاتها. وهنا يتبادر سؤال: ألا يتحمل الرجل المسؤولية عن هذه الحالة التي تُدفع المرأة إليها؟
ما السبيل لتحرير المرأة؟
لمّا كانت مسألة استعباد المرأة، وفقدانها لحقوقها قد حدثت لأسباب اقتصادية اجتماعية، فإنّ السبيل الصحيح لتحرير المرأة ونيلها حقوقها هو معالجة تلك الأسباب.
إنّ المجتمع الذي لا تقوم فيه المرأة بدورها التام، لتكون عنصراً أساسياً هو مجتمع متخلف... ولمّا كانت المرأة والرجل في مجتمعاتنا يعانيان الظلم، ينبغي العمل على تحرير المجتمع من كل أشكال الظلم، فرفع الظلم عن الرجال يساعد في رفع الظلم عن النساء، لا يمكن للرجال المقهورين أنّ يحرروا النساء المظلومات...
نخطئ إن لم نعترف بوجود فوارق بيولوجية تؤثر في الفرق في القوة الجسدية عموماً بين المرأة والرجل، إلاّ أنّ ذلك يجب أن لا يؤثر في العدالة في الحقوق القانونية بينهما...
في فضائل تحرير المرأة:
إذاً تحرير المرأة كما الرجل يتطلب بناء مجتمعات على أسس حضارية عادلة، يكون الإنسان أثمن قيمة فيها، وتبقى إنسانية الإنسان، وحريته، وكرامته غايتها... تلك الأسس التي تأخذ بمنجزات البشرية على كافة الأصعدة، بما فيها الصعيدين التكنولوجي والاجتماعي، وفي أساس ذلك الأسس الديموقراطية في البنيان الاجتماعي...
هناك من يعتقدن أنّ تحرير المرأة يعني أنّها ينبغي أن تكون دائماً على صواب، وإن خالفتها الرأي تعدك معادياً لتحريرها؛ وهذه مسألة تحتاج إلى تدقيق؛ فالمرأة مثلها مثل الرجل يمكن أن تخطئ، ويمكن أن تصيب... وثمة اتجاه متطرف يبالغ في المسألة الجنسية، ويعدّها مصيرية في حياة المرأة، ويقرن تحريرها بها، انسجاماً مع التربية السائدة والمهيمنة منذ آلاف السنين، ويركز هذا الاتجاه على مسألة تحرير المرأة جنسياً، وتحويل جسدها إلى سلعة، من دون معالجة الأسباب الجوهرية لعبودية المرأة أو اضطهادها، مما يترك آثاراً سلبية على المرأة، والأسرة، والمجتمع، وهذا ما دعا عدداً من الباحثين المناصرين للمرأة والأسرة إلى الحديث عن "خطايا تحرير المرأة"... بيد أننا نرى أنّ تحرير المرأة يتميز بفضائل ومزايا مهمة في صالح المجتمعات الإنسانية وأفرادها من ذكور وإناث؛ فتحرير المرأة يحقق نقلة نوعية في مجالات متعددة من حياة المجتمع، ويتحقق تحرير المرأة بها أيضاً، ومن أهمها:
- مشاركة المرأة الفعلية في بناء المجتمع؛ إنّ مكانة المرأة في المجتمع هي مقياس تحريرها، وليست مسألة التحرر الجنسوي المجرد... وينتج عن ذلك مشاركتها في العمل، أي أن تشارك المرأة في الإنتاج الفعليّ، وفي إنتاج الخيرات المادية للمجتمع... إنّ المرأة التي تسهم في العملية الإنتاجية تفرض على الآخرين أن ينظروا إليها على نحو مختلف، لأنّ إسهامها في إنتاج وزيادة الدخل يمنحها حقوقاً، ويحرّرها اقتصادياً، تماماً كما يفرض عليها واجبات، ويساعدها في سعيها إلى الاستقلالية وإثبات وجودها، وتحقيق ذاتها، ويساهم ذلك في التنمية الاقتصادية الرافعة الحقيقية لتنمية المجتمع ككل.
- معالجة مشكلة الأمية المتفشّية، لا سيّما في المناطق الريفية النائية، وتعزيز وعي المرأة، ومعالجة مشكلة غياب الوعي النسائي بدور المرأة، وحقوقها، وواجباتها الحقيقيّة كندّ للرجل، لتتجاوز عقد النقص التي تدفعها أحياناً لكره ذاتها، ويساهم في ذلك تأسيس تنظيمات اجتماعية تضم الجنسين...
- معالجة المسألة الجنسية، وخلق بيئة سليمة تتيح للمرأة أن تلعب دورها في العمل، وفى الأسرة، والعائلة، وفي المجتمع بشكل فعّال، مجتمع تكون فيه نظرة الرجل للمرأة، ونظرة المرأة للرجل تتعدى البعد الجنسي الضيق، وتصبح فيه الصداقة ممكنة بين المرأة والرجل، كما بين رجل ورجل، سواء بسواء؛ ويكون فيه الرجل والمرأة مكملين واحدهما للآخر...
- الاهتمام بمؤسسة الزواج، على أن يقوم الزواج على الحبّ، الحبّ المتبادل، وأن تكون المرأة مساوية للرجل... وأن تبنى الأسرة على المحبّة والتعاون المتبادل لا على التبعية والاستعباد... إنّ بناء الأسرة على أسس المحبّة يهب إلى أفرادها طاقة إيجابية تنعكس على مختلف جوانب حياتهم، فتؤمن لهم الصحة، وتساعدهم في تحقيق الأمان الاقتصادي المادي، وتشكّل فضاء من الإلفة والمحبّة، بين الزوجين، والأبناء، والأحفاد وذويهم لا يعرفها إلّا من ينعم بها... كما ينعكس فضاء المحبة هذا على سلوك أبناء الأسرة، فإن تعميمها في المجتمع يساهم في معالجة كثير من الأمراض الاجتماعية، ويرتقي بالإنسان، ويعزّز إنسانيته...
- ويساهم تحرير المرأة في انتعاش مشاعر الحبّ بين الزوجين، وترتقي العلاقات الإنسانية فلا يؤطر الحبّ في العملية الجنسية، بل يتسامى ليشمل مختلف شؤون الحياة، وتحرير العقل من كلّ رواسب الاستعباد الجنسي؛ علماً أنّ الحبّ الجنسي في القصص الرومانسية لم ينشأ من الزواج الأحادي... وحين ظهر الحبّ الجنسي أول مرة في التاريخ بشكل عشق، وبوصفه عشقاً في منال كلّ فرد (من الطبقات السائدة على الأقل)، بوصفه أعلى شكل للغريزة الجنسية – الأمر الذي يشكل طابعه الخاص المميز – لم يكن هذا الشكل الفروسي في القرون الوسطى حبّاً زوجياً على الإطلاق، بل بالعكس، فإنّ الحبّ الفروسي بشكله الكلاسيكي، يسعى بكل أشرعته نحو انتهاك الأمانة الزوجية، وشعراؤه ينشدون هذا السعي. حين يصورون الفارس في سرير حسنائه، وهي امرأة رجل آخر... وهذا ما تعكسه الروايات الرومانسية(16)...
- ويساعد تحرير المرأة في تنظيم المجتمع بشكل حضاري عادل سليم، ووجود نوادٍ، وجمعيات، وتنظيمات ثقافية، واجتماعية مختلطة من الرجال والنساء، تعمل على نصرة المرأة ونيلها حقوقها كاملة، وبناء الدولة العلمانية الديموقراطية على أسس الحق، والحرية، والعدالة، والقانون، باعتبارها السبيل السليم لمعالجة الأمراض الاجتماعية وفي طليعتها مشكلة تحرير المرأة... فتحرير المرأة والعلمانية مفهومان متلازمان... إذ يتطلب تحرير المرأة بناء المجتمع على أسس علمانية عصرية ديموقراطية عادلة متحضرة...
ثمّة نساء، يفيض حضورهن جمالاً ومحبّة، يعلمننا أنّ المرأة رمز الخير! والمرأة كما الرجل أساس بناء الحضارة؛ ففي كلّ مرحلة حضارية مرّت بها المجتمعات البشرية ثمة أثر للمرأة، وليست مصادفة أن أجمل الملاحم الخالدة كُتبت عن المرأة، فالعلاقة بين الحضارة والمرأة علاقة تفاعلية متبادلة؛ وتحرير المرأة أساس بناء الحضارة، ولن تتحرر المرأة إلّا ببناء مجتمعات عادلة متحضرة، ولا تبنى الحضارة من دون تحرير المرأة، ومشاركتها في الإنتاج والإبداع، وهنا يكمن لغز التعثر في بناء الحضارة؛ فبلوغ الحضارة يستدعي تحرير المرأة، والاستفادة من عطائها وإبداعها.
الهوامش:
(1) زهر الآداب:2: 966 – قصيدة أم خالد النميرية في حبيبها أثال الكلابي، وجاء في مصدر آخر أنّ هذه القصيدة في رثاء ابنها وقد فجعت به إذ سقط في إحدى المعارك.
(2) (3) وديع بشور - الميثولوجيا السورية- شابكة الانترنت الدولية.
(4) جولييت بيتزوني – في مضاجع الملوك، ليالي الأعراس - ترجمة موريس جلال. دمشق 1987 ص21
(5) فريديريك انجلس - أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"- دار التقدم موسكو. ص206
(6) المصدر نفسه. ص229 - (7) المصدر نفسه. ص179 - (8) المصدر نفسه. ص242
(9) سيمون دي بوفوار – الجنس الآخر – ترجمة ندى حداد – الأهلية للنشر والتوزيع.
(10) عبد المعين الملوحي – مواقف إنسانية في الشعر العربي – دار الحضارة الجديدة – بيروت 1992 ص26
(11) المصدر نفسه. ص 132
(12) تفسير الجلالين. شابكة الانترنت الدولية.
(13) عبد المعين الملوحي – أشعار اللصوص وأخبارهم، دار الحضارة الجديدة – بيروت 1993
(14) أبو العلاء المعري – لزوم ما لا يلزم 1/155
(16) فريديريك انجلس - أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"- دار التقدم موسكو. ص263

(15) سيمون دي بوفوار – الجنس الآخر – ترجمة ندى حداد – الأهلية للنشر