ماذا عن عمالة الأطفال في مصر؟



سيد صديق
2022 / 5 / 8


في غضون أربعة أشهر فقط، من يناير إلى نهاية أبريل الماضي، تناقلت وسائل الإعلام واقعتين مأساويتين راحت فيهما أرواح عددٍ من الأطفال العاملين في طريق عودتهم من أعمالهم. ففي 11 يناير، انقلبت سيارة نقل، كانت تقل 23 عاملًا ما بين أطفال وبالغين كانوا في طريق عودتهم اليومية من مزرعة بيض بطريق مصر-إسكندرية الصحراوي. سقطت السيارة من معدية المناشي، الواقعة على امتداد فرع رشيد بين منطقتيّ منشأة القناطر بالجيزة وأشمون بالمنوفية، وتُوفِّي على إثر الحادث 8 من ركاب السيارة.

وفي 30 أبريل، غرق 8 أطفال في إحدى القنوات المائية أمام كوبري السوالم بمحافظة البحيرة، عندما انقلب تروسيكل في القناة وكان ينقل نحو 14 طفلًا (من 13 إلى 16 عامًا) في طريق عودتهم من العمل في مصنع بطاطس.

لعل الواقعتين تشيران، أولًا، إلى الحال المتدهور للمعابر والمعديات في قرى مصر، وإهمال معايير الأمان والسلامة فيها لحماية مستخدميها. وينم ذلك عن فساد الإدارات المحلية وتجاهل وزارة النقل هذه المرافق المتهالكة، من حيث الصيانة والتطوير، بل والترخيص من الأساس في كثير من الأحيان. وهذا ما تؤكده دراسة أجراها المركز المصري للدراسات الاقتصادية أفادت بأن 95% من المعديات في مصر (9,500 معدية) غير مرخصة من الأصل. ومن المعروف أن الأهالي يلجأون إلى إنشاء مثل هذه المعديات في ظل انشغال النظام بإنشاء أعلى برج وأكبر مسجد وأطول سارية، إلخ، في العاصمة الإدارية الجديدة، على سبيل المثال لا الحصر.

ظاهرة واسعة النطاق
لكن الأهم أيضًا هو ما تلفت إليه مأساة وفاة هؤلاء الأطفال في يناير وأبريل من شقاءٍ يومي يعيش فيه مئات الآلاف من الأطفال العاملين في مصر. فبدلًا من أن يتمتعوا بالرعاية والنمو والفرصة الأفضل في التعليم، تسحقهم ظروف الحياة الصعبة، بسبب السياسات الاقتصادية للنظام، فيعيشون شقاءً مبكرًا لقاء أجور زهيدة، دون أدنى حقوق أو حماية لهم، لينضم بعضهم بعد ذلك، كما شهدنا، إلى شهداء لقمة العيش في هذا البلد.

كشف المسح القومي لعمل الأطفال في مصر أن عمالة الأطفال وصلت في عام 2020 إلى 1.6 مليون طفل تتراوح أعمارهم من 12 إلى 17 عامًا. ويفيد المسح بأن هذا العدد يمثل 9.3% من إجمالي الأطفال في هذه الفئة العمرية، أي أن طفلًا من كل عشرة أطفال في هذا السن مدفوع إلى العمل.

ورغم ضخامة هذه النسبة، فهي ليست دقيقة على الإطلاق ولا تعبر عن الحجم الفعلي لمأساة عمالة الأطفال في مصر. أولًا، هؤلاء الـ1.6 مليون طفل لا يتضمنون الأطفال دون سن الـ12. صحيح أن ليس هناك رصدٌ دقيق لعدد الأطفال العاملين تحت هذا السن في مصر، لكن منظمة العمل الدولية تقدر أن الفئة العمرية من 5 إلى 11 عامًا تمثل 28% من إجمالي الأطفال العاملين على مستوى العالم. ومصر بالطبع ليست استثناءً، فالقانون نفسه الذي يحظر عمل الأطفال دون سن الـ12 (القانون 137 لسنة 1981)، يستثني من يعملون في هذا السن في الزراعة بدعوى أن أعمال هذا القطاع غير ضارة! ثانيًا، عادةً ما يتعمد أصحاب الأعمال، مثل المزارع والمنشآت الصناعية والورش، عدم الكشف عن استخدامهم للأطفال في العمل، علاوة على ضعف أو غياب المراقبة على هذه المنشآت والأعمال. باختصار، الواقع أكثر كارثيةً من الإحصاء الرسمي.

وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تتركز 63% من عمالة الأطفال في مصر في الزراعة، و18.9% في التعدين والبناء والصناعات التحويلية، والباقي في البيع والمطاعم وغير ذلك. ويعمل 82.2% من هؤلاء الأطفال في ظروف سيئة وغير آمنة، يتعرضون خلالها لأضرار صحية نتيجة طبيعة العمل نفسه، مثلما في جني المحاصيل وتنقية الآفات وتنظيف الترع والمصارف ورش المبيدات، أو في التعامل مع مواد كيماوية خطرة، أو حمل الطوب في حالة قطاع البناء، إلخ. هذا علاوة على الأضرار النفسية الناجمة عن تعرضهم للعنف وسوء المعاملة والاستغلال، والتحرش الجنسي، ناهيكم عن الحرمان من الرعاية والتعليم.

وبصورةٍ عامة، يتمثل الخطاب السائد في التصدي لهذا الحجم الكبير من عمالة الأطفال في الوعظ الاجتماعي الذي يلقي باللائمة على الأسرة في الدفع بأطفالها إلى العمل. في حين أن الفقر والتردي المعيشي والغلاء المتصاعد يزداد قوةً ليجرف معه عدد هائل من الأسر التي تكافح الفقر والجوع. هذا الخطاب الواعظ يحاول ضمنيًا التضليل على سياسات النظام والإشارة إلى طرف آخر -الإشارة إلى أن المصريين أنفسهم هم المشكلة وليس النظام الذي يحكمهم.

الرأسمالية وعمالة الأطفال
لا ترتبط ظاهرة عمالة الأطفال بالبلدان المتأخرة مثل مصر، بقدر ما ترتبط بالسعي المحموم وراء الأرباح، الذي هو ركيزة رئيسية في الرأسمالية، في العالم أجمع. فرغم قوانين حظر عمل الأطفال، بل وصرامة هذه القوانين في الكثير مما يُعرَف بالبلدان المتقدمة، تستخدم بعض الشركات الكبرى في هذه البلدان أطفال بلدان أخرى في إنتاج منتجاتها، وتسبح في بحر من فائض القيمة الذي تستخرجه من عمل هؤلاء الأطفال.

هناك الكثير من الأمثلة على ذلك، لعل أبرزها شركة أبل، التي اعترفت في العام 2013 أن منتج أيفون إكس كان من صنع تلاميذ مدارس وظَّفهم مقاول صيني لصالح الشركة. ومرة أخرى في أكتوبر 2018 تبيَّن أن تلاميذ مدارس كانوا يعملون على تصنيع ساعات أبل في الصين تحت ستار “تدريب داخلي” تنظِّمه الشركة. شركة مايكروسوفت مثال آخر. في العام 2018، اتضح أن الشركة، المعروفة بأعمالها “الخيرية”، تستخدم أطفالًا دون سن السابعة في الكونغو الديمقراطية للعمل، في ظروف بالغة الخطورة، لاستخراج الكوبالت، وهو عنصر أساسي في بطاريات الليثيوم الموجودة في كل جهاز قابل للشحن تقريبًا.

إن ظاهرة عمالة الأطفال أشبه بأحد نواميس الرأسمالية التي تلازمها منذ نشأتها وحتى اليوم. منذ أكثر من 150 عامًا، كتب كارل ماركس في “رأس المال”: “يستخدم الرأسمالي عمالًا أقل مهارة بدلًا من العمال الماهرين، وقوة غير ناضجة بدلًا من القوة الناضجة … ويافعين وأطفالًا بدلًا من الراشدين”. والسبب الواضح وراء ذلك هو الأجور الهزيلة التي يتقاضاها الأطفال مقارنةً بالكبار. وهذا ما يفسر بالطبع توازي عمالة الأطفال مع بطالة الكبار، سواء في وقت ماركس وفي عهد نشأة الرأسمالية، أو في العالم اليوم. هذا علاوة على الظروف السيئة التي يعمل فيها الأطفال في زمننا، والتي لا تختلف كثيرًا عن وصف ماركس لعمل الصبية في مصانع الكبريت الإنجليزية قبل قرن ونصف.

وفقًا لمنظمة العمل الدولية، بلغت عمالة الأطفال 160 مليونًا في العام 2020 (منهم 79 مليونًا يعملون في أعمال خطرة)، وكان العدد قد زاد من 2016 إلى 2020 بمقدار 8.4 مليون طفل. وفي الوقت نفسه، يتوقع تقرير لمنظمة العمل الدولية أن يصل معدل البطالة العالمي إلى 205 مليون شخص حول العالم في العام الجاري 2022، وهذا يعني 5.7% من إجمالي قوة العمل العالمية. الأمر نفسه ينطبق بالطبع على مصر، التي يصل فيها معدل البطالة، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إلى 7.4% من إجمالي قوة العمل في الربع الرابع من 2021 (2.2 مليون متعطِّل عن العمل)، في مقابل 1.6 مليون طفل عامل كما ذكرنا من قبل.

تخلق الرأسمالية وضعًا قهريًا من الفقر والبؤس، وتؤدي فوضى الإنتاج فيها إلى أزمات تطرد الملايين إلى صفوف البطالة، ثم تستفيد بعد ذلك من جيوش العاطلين في الضغط على أجور العمال. وفي القطاعات التي تشتمل على عمالة من الأطفال، يستفيد الرأسمالي مرة من جيوش العاطلين، ومرة من الأجور الزهيدة للأطفال، ومرة من وجود هؤلاء الأطفال في العمل من الأصل للضغط مجددًا على أجور العمال الكبار، الذين يخضعون في هذه الحالة لشروط مساومة أسوأ وأسوأ.

إن النضال ضد الاستغلال بوجه عام، وضد استغلال الأطفال في العمل، وفي المقام الأول ضد الظروف التي هيأت هذا الاستغلال الجشع، هو نضال أساسي في المشروع الاشتراكي الثوري. النضال من أجل مكتسباتٍ تعزِّز من وضع الأطفال في المجتمع، وتركز على تعليمهم ورعايتهم وتنمية مهاراتهم الإبداعية، والنضال ضد البطالة التي أدت بملايين الأطفال إلى براثن الاستغلال، لهو نضال ضروري ولا يمكن للمشروع الاشتراكي أن يكتمل بدونه. وهذا النضال ينبغي أن يكون ممتدًا إلى الجذور التي ولَّدت كل هذه المظالم. ينبغي أن يمتد إلى مناهضة الرأسمالية ككل، التي لن يُمحى استغلال الأطفال في العمل نهائيًا إلا بالقضاء عليها.