ماري لوّ: شاعرة سوريالية، تروتسكية، ثورية (1912- 2007)



أوغوستين غيامون
2022 / 5 / 31

نشر المقال باللغة الانكليزية هنا بتاريخ 19 تموز/يوليو 2021؛ ترجمة: فيون مونين، نشر المقال الأصلي بتاريخ 20 تموز/يوليو 2018



في 9 كانون الثاني/يناير عام 2007 توفيت ماري لوّ في ميامي، عن عمر بلغ الـ 94 سنة. وبحسب أمنياتها الأخيرة، لم تُنَظم جنازة؛ إنما أحرق جسدها ونثر رماده في باريس وسانتياغو دو كوبا- Santiago de Cuba، وهما من أكثر المدن التي أحبتها.

ماري ستانلي-لوّ (1912-2007)، بريطانية من أصول أسترالية، حصلت على تعليم دولي إذ تنقلت بين المدارس الفرنسية والسويسرية، وسافرت مع أهلها في كل أنحاء أوروبا. أَسَرَتها منذ أن كانت طفلة الشخصية التاريخية ليوليوس سيزار- Julius Caesar، كانت معلمة للغة اللاتينية وشاركت في العديد من المؤتمرات الدولية حول الدراسات الكلاسيكية. كما نشطت في الحركة السوريالية الأوروبية وكتبت للعديد من المجلات الإنكليزية. لأكثر من 15 سنة حررت مجلة Classics Chronicles، وهي مجلة نصف سنوية متخصصة باللاتينية وتاريخ روما. في باريس الـ 1930ات التقت بالشاعر السوريالي الكوبي خوان بريا- Juan Breá، والتي تشاركت معه الحياة والنضال وسط الطليعة الأدبية والثورية، أي، السوريالية والتروتسكية. غادرا باريس في شهر آب/أغسطس 1936 للقتال في الحرب الإسبانية. وبعد تهديدهما بالقتل من الستالينيين، هربا إلى فرنسا يوم 28 كانون الأول/ديسمبر 1936.

عام 1937 نشرا الدفاتر الإسبانية الحمراء Red Spanish Notebooks في لندن، والتي هي عبارة عن شهادة على تجربتهما خلال الأشهر الستة الأولى من الثورة، عندما كان كل شيء ممكناً ولم تكن البيروقراطية وضرورات الحرب قد قتلت هذه الأوهام بعد. لبضعة أشهر، عامي 1938-1939، عاشا في براغ، وكانا على صلة وثيقة بالمجموعة السوريالية التشيكية، حيث نشرا عام 1939 كتاباً رائعاً من القصائد السوريالية موسم النايات La saison des flûtes، موقعاً منهما. في كوبا، نشرت ماري لوّ كتاباً يضم مقالات كتبتها مع بريا، الحقيقة المعاصرة- La Verdad Contemporánea عام (1943)، وقد قدمه بنجامين بيريه. ألهمت وفاة خوان بريا، في نيسان/أبريل 1941، قصائد ماري لوّ في كتاب خيمياء الذاكرة Alchemy of Memory، والمنشور في هافانا عام 1946، الذي تضمن رسوماً حصرية لصديقها، الرسام السوريالي ويفريدو لام- Wifredo Lam. الكتب الشعرية الأخرى لماري لوّ هي ثلاثة أصوات (1957) Three Voices؛ في ظلال سيزار (1975) In Caesar’s Shadow؛ وحيّة على الرغم من (1981) Alive in Spite Of، صدرت بثلاث لغات هي: الإنكليزية والاسبانية والفرنسية؛ أما صوت في المرايا (1984) A voice in The Mirrors والذي تضمن كولاجاً من إعدادها، إضافة إلى مجموعة قصائدها الأخيرة: حيث تغني الذئاب (1994) Where the Wolf Sings.

كاتبة مرموقة ومصممة كولاجات، التي كانت تبيعها بنجاح كبير، ولاتينية تعشق يوليوس سيزار، ومسافرة دائمة من دون ندم منذ طفولتها، كل سنة، حاملة أمتعة قليلة مناسبة لثمانين عاماً، تسافر إلى أوروبا انطلاقاً من ميامي، لإبقاء النار مشتعلة، صداقات قديمة، وبدء صداقات جديدة، وحضور مؤتمرات الدراسات الكلاسيكية وزيارة المدن والأماكن نفسها في قارتها المحبوبة أوروبا.

ولد خوان رامون بريا لانديستوي (1905-1941)- Juan Ramón Breá Landestoy في سانتياغو دو كوبا يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1905. والده، من أصول فرنسية، كان نقيباً تحت قيادة الجنرال أنطونيو ماسيو- Antonio Maceo في حرب الاستقلال الكوبية. والدته، أصغر من والده بـ 25 سنة، من جمهورية الدومينيكان، من أصول سيبونية هندية وفرنسية. وقد ثقف نفسه بنفسه، بعيداً عن الانضباط المدرسي وضده، بحيث انتفض عليه. عام 1927، في سانتياغو دو كوبا، شكل مجموعة هـ. Grupo H، المجموعة السوريالية الوحيدة الموجودة في الجزيرة خلال الـ 1920ات. عام 1928، في هافانا، أصبح على اتصال مع الجناح الطلابي اليساري (AIE)، وهو مجموعة طلابية مناهضة للحكومة الديكتاتورية للجنرال جيراردو ماتشادو- Gerardo Machado، وعلى خلاف مع الحزب الشيوعي الكوبي، الذي طرد الكثيرين من أعضائه. وقد اعتقل، إلى جانب مناضلي الجناح الطلابي اليساري، وبعد عدة أشهر سجنية في معتقل جزيرة بينوس- Pinos ذهب إلى المنفى في المكسيك، حيث التقى بخوليو أنطونيو ميلا- Julio Antonio Mella (مؤسس الحزب الشيوعي الكوبي، والذي اغتيل يوم 16 كانون الثاني/يناير عام 1929 لتأييده المعارضة الكوبية). سافر إلى إسبانيا، حيث سجن بسبب نضاله الشيوعي. في كانون الثاني/يناير عام 1931 التقى بأندرو نين في سجن برشلونة النموذجي، والذي استطاع إقناعه بأطروحات المعارضة التروتسكية. في كانون الثاني/يناير 1932، نشرت المجلة البرشلونية “أغورا- Agora” قصيدة لبريا بعنوان “الثورة- La Revolución”. تضمن العدد الأخير من المجلة، والذي صدر بشهر نيسان/أبريل عام 1932، قصة طرده من برشلونة، ووداع أصدقائه له عند مرفأ برشلونة. سهّل بريا صلات التروتسكيين الإسبان بكوبا، فضلاً عن إرسال الأدب السياسي إلى الجزيرة، خاصة المجلة الاسبانية “شيوعية Comunismo”. عند عودته إلى كوبا، شارك في آب/أغسطس عام 1932، بتأسيس المعارضة الشيوعية الكوبية (التروتسكية)، إلى جانب ماركوس غارسيا فياريال- Marcos García Villarreal وسانداليو جونكو- Sandalio Junco، وبدرو فاريلا- Pedro Varela، وكارلوس غونزاليس بالاسيوس- Carlos González Palacios، وكالوس سيميون- Carlos Simeón، ولويس م. بوسكيت- Luís M. Busquet، وروبرتو فونتانيلاس- Roberto Fontanillas، وأرماند ماتشادو (شريك ماري لوّ بعد وفاة خوان بريا) وكارلوس بادرون، إلى جانب آخرين. وكان نشطاً للغاية في النضال السياسي والإضرابات ضد نظام ماتشادو، وقد اضطر إلى الفرار إلى أوروبا لتفادي القمع. عند وصوله إلى باريس تفاجأ بخبر سقوط نظام الجنرال ماتشادو. في تشرين الأول/أكتوبر، في كوبول بباريس، التقى بماري لوّ، التي ستكون شريكة حياته حتى وفاته.

من عام 1933 وحتى وصولهما إلى إسبانيا، في آب/أغسطس 1936، لم يتوقف الثنائي لوّ-بريا عن زيارة المدن الأوروبية: براغ- فيينا، بلغراد، اسطنبول، بوخاريست، بروكسيل، لندن، مع التوقف دوماً في باريس، وإقامة قصيرة المدة في كوبا. التقت ماري الأعضاء السابقين في مجموعة هـ. في سانتياغو دو كوبا، وتعلمت الإسبانية. عُيّن خوان بريا ملحقاً ثقافياً، الأمر الذي سمح لهما بإقامة طويلة في فيينا، حتى تواجَهَ بريا مع بعض الطلاب من اليمين المتطرف، الذين سببوا له جروحاً بليغة. في أيار/مايو 1935، سافرا إلى بوخارست، حيث صادقا أعضاء المجموعة السوريالية الرومانية: الإخوة برونر Brauner brothers، [غيراسيم] لوكا- Luca و[جول] بيراحيم- Perahim. في باريس ترددا على بنجامين بيريه والشاعر السوريالي والمناضل التروتسكي، أندريه بروتون- André Breton، وفيكتور برونر- Víctor Brauner، ودومينغيز- Domínguez، وإيف تانغي- Yves Tanguy. في بروكسل، حيث كانت المعيشة أرخص، التقيا ماغريت- Magritte وميسينز- Mesens. في بلجيكا وصلتهما أخبار اندلاع الثورة الإسبانية، فقررا فوراً الذهاب إلى إسبانيا.

وصل خوان بريا إلى برشلونة يوم 9 آب/أغسطس 1936 وماري لوّ بعد أسبوع. لم يخفيا نضالهما التروتسكي في أي وقت. لم يشكل ذلك عقبة لهما داخل الحزب العمالي الماركسي الوحدوي- POUM خلال الأشهر الأولى من الثورة. فقد أخبرتنا ماري لوّ بنفسها عن المناقشات الودية بينها وبيريه، إلى جانب نين، خلال سيرهم في منطقة رمبلاس- Ramblas، حول المخاطر التي تنطوي عليها مشاركة الحزب العمالي الماركسي في الحكومة.

كان خوان بريا جزءاً من كتيبة لينين الأممية التابعة للحزب الماركسي العمالي، التي تشكلت أواسط شهر آب/أغسطس عام 1936، بفضل تعاون التروتسكي الفرنسي روبير دو فوكونيه- Robert de Fauconnet والبورديغي الإيطالي [نسبة إلى أماديو بورديغا]، قائد الكتيبة، إنريكو روسو- Enrico Russo. كان نيكولا دي بارتولوميو (فوسكو)- Nicola Di Bartolomeo منظم الكتيبة وصلة الثوريين الأجانب مع الحزب الماركسي العمالي. تألفت الكتيبة من حوالي 30 تروتسكياً و20 بورديغياً. وأكثر من 10 مستقلين أو من أحزاب أخرى. هكذا كانت الكتيبة، وعلى الرغم من اسمها الطنان، مجموعة أممية من حوالي 60 مقاتلاً أجنبياً. سارت الكتيبة، مندمجة مع حزب الماركسي العمالي، نحو جبهة أراغون- Aragon يوم 28 آب/أغسطس، وعند بداية شهر أيلول/سبتمبر سقط التروتسكي الفرنسي الشاب روبير دو فوكونيه، وخلال تشييعه اندلع خلاف مع مقاتلي الحزب الماركسي العمالي، بسبب وضع علم الأممية الرابعة على التابوت. رافق خوان بريا جثمان روبير إلى برشلونة. وجرى حل كتيبة لينين الأممية، على الرغم من استمرار اسمها، عندما رفضت أغلبية أعضائها، في تشرين الأول/أكتوبر عام 1936، مرسوم عسكرة الميليشيات الشعبية. كتب خوان بريا العديد من المقالات حول جبهتي أراغون ومدريد لصحافة الحزب الماركسي العمالي، والتي جرى تحديثها وأدخلت إليها القليل من التعديلات، وترجمتها إلى الإنكليزية ماري لوّ، لتشكّل لاحقاً فصول كتاب دفتر الملاحظات الإسباني الأحمر- Red Spanish Notebook.

ذهبت ماري لوّ إلى برشلونة بعد أسبوع من خوان بريا. قبل عبور الحدود، كان محظوظاً بربح الجائزة الكبرى في لعبة الروليت في كازينو موناكو. في برشلونة، أدارت ماري لوّ تمويل، مع دعم البريطاني جون ماكنير- John McNair وبوب سميلي- Bob Smilie، نشرة الحزب الماركسي العمالي باللغة الإنكليزية “الثورة الإسبانية”، حيث كانت مسؤولة عن قسم “أخبار وملاحظات”، وعن الترجمة إلى الإنكليزية مقالات منشورة في لا باتالا- La Batalla. عند مغادرتها إسبانيا، استُبدلت بالثنائي الأميركي لويس (كوسيك) أور- Lois (Cusick) Orr وشارلز أور- Charles Orr. كانت ماري لوّ كذلك مذيعة باللغة الانكليزية في إذاعة الحزب الماركسي العمالي في برشلونة؛ في حين كان بنجامين بيريه مذيعاً باللغة البرتغالية وفرجينيا جيرفازيني- Virginia Gervasini (شريكة فوسكو- Fosco) مذيعة باللغتين الإيطالية والفرنسية. كما عملت ماري لوّ كممثلة عن الحزب الماركسي العمالي في قسم البروباغندا في الحكومة، بقيادة جومي ميرافيتليس- Jaume Miravitlles. وبفضل صفتها هذه كعضوة في قسم البروباغندا استطاعت كتابة الفصل الرائع عن الموظف البرجوازي الكاتالوني في مكاتب الحكومة، والذي يصف على نحو دقيق المخاطر التي هددت الثورة في برشلونة.


كان خوان بريا وماري لوّ ناشطين جداً في التحضير لمؤتمرات ونشاطات ثقافية في معهد الثقافة الماركسية، والذي أقامه الحزب الماركسي العمالي في بالاسيو دو لا فيرينا- Palacio de la Virreina. الندوات التي قدمها خوان بريا وماري لوّ في المعهد سيعاد تحريرها ونشرها في كتاب بعنوان الحقيقة المعاصرة- La Verdad Contemporánea. عكست عناوين بعض الفصول طابع هذه المؤتمرات: “النساء والحب من خلال الملكية الخاصة”، “تفسير ماركسي للثقافة”، “تفسير مادي للفن”، “الأسباب الاقتصادية للسريالية”… وخوان بريا الذي كان الستالينيون قد اعتقلوه مرتين تعرض لاعتداء في كانون الأول/ديسمبر بعد اجتماع سياسي لمجموعة بلشفية-لينينية. حيث هاجمته سيارة في طريق ضيقة، وبفضل ردة فعله السريعة خلع باباً بكل قوته الأمر الذي أنقذه من الموت. شرح ماري لوّ وخوان بريا الظروف الصعبة التي مرا فيها إلى [جوليان] غوركين- Gorkin، الذي أجابهما بازدراء بأن الحزب العمالي الماركسي ليس تروتسكياً ولا يمكنه تكريس نفسه لحماية التروتسكيين. أمام التهديدات بالقتل التي واجهها بريا، قرر الثنائي مغادرة إسبانيا يوم 28 كانون الأول/سبتمبر.

في العدد الصادر يوم 6 كانون الثاني/يناير عام 1937 من مجلة “الثورة الإسبانية”، نشر مقال تقديري ووداعي لماري لوّ. تزامن رحيلهما مع وصول جورج أورويل إلى برشلونة، الذي قدم بالفعل لمحة عامة عن برشلونة خلال الخسارة السريعة للثورة. الفارق الكبير بين سردية لوّ وأورويل بالتحديد أن ماري لوّ تحدثت إلينا عن برشلونة التي كانت ما زالت تحمل الأمل والوهم بأن الثورة لم تكن ممكنة فقط، إنما كانت جارية، في حين رفع أورويل راية هزيمة الثورة النهائية في أيار/مايو عام 1937، مع هروبه السريع من إسبانيا حتى لا يقع بيد آلة الإجرام الستالينية. أعطى ماري لوّ وخوان بريا شهادتين عن انتصار الثورة، على الرغم من ظهور الأعراض الأولى لهزيمتها المحتملة.

كان الثنائي ماري لوّ وخوان بريا مثلاً لظاهرة تكررت في صفوف الحزب الماركسي العمالي: أي ظاهرة الأزواج الأجانب الثوريين. تلك كانت حالة كورت- Kurt وكاتيا لانداو- Katia Landau، وهيبوليتو- Hipólito وميكا إيتشيبيهيري- Mika Etchébèhere، وشارلز أور- Charles Orr ولويز كوسيك- Lois Cusick (أور)، وبابيل تالمان- Pabel Thalman وكلارا (إيزنير) تالمان- Clara (Ensner) Thalmann، ونيكولا دي باتولوميو- Nicola Di Bartolomeo وفيرجينيا جيرفازيني- Virginia Gervasini. كما أنهم، في كل الحالات، تركوا لنا شهادة مكتوبة حول تجاربهم في إسبانيا، أو تحليل سياسي عن الوضع الإسباني في ذلك الوقت.

بعد عودتهما إلى فرنسا، وخسارة بريا لمنصبه كملحق ثقافي الذي كان يتولاه، عانى الثنائي من مشاكل اقتصادية كبيرة، في وقت شهدا التراجع السريع للثورة في إسبانيا، والذي أدى إلى خسارة الحرب، وانتصار الفاشية. وسط هذه الظروف الصعبة، كتبا خلال أربعة أو خمسة أسابيع كتاب دفتر الملاحظات الإسباني الأحمر. تجدر الملاحظة أن كل فصل من فصول الكتاب كان موقعاً من كاتبه، ولا يوجد أي فصل موقع عليه بشكل مشترك. كتبت ماري لوّ فصولها وترجمت تلك التي كتبها بريا إلى الانكليزية. رغم ذلك، فإن ترجمة ماري لوّ لفصوله، وبالتشاور الدائم مع خوان بريا، لم تكن أمينة وشبيهة بتلك المنشورة في صحافة الحزب الماركسي العمالي. فإذا قارنا يوميات بريا على جبهة سيغوينزا- Sigüenza، والمنشورة في العدد 10 من مجلة الحزب الماركسي العمالي (27 تشرين الأول/أكتوبر 1936)، التابعة للقسم المدريدي من الحزب الماركسي العمالي، مع الفصل حول سيغوينزا المنشور في كتاب دفتر الملاحظات الإسباني الأحمر، نلاحظ، إلى جانب التعديلات الطفيفة المتعلقة بتغيير أسلوب الكتابة من صحافي إلى أدبي، كما أضافت إلى يوميات الحرب، إشارة إلى إقامة ميكا إيتشيبيهيري ببرشلونة، فارتكبت خطأ كبيراً حين أوردت واقعة وفاة ميكا، علماً بأن الواقعة حصلت لاحقاً بعد سنوات عديدة في عيادة بباريس في تموز/يوليو 1992.



تألف كتاب دفتر الملاحظات الإسباني الأحمر من 18 فصلاً، 11 من توقيع ماري لوّ كتبتها في برشلونة، و7 موقعة من خوان بريا، 6 منها يوميات الجبهة في أراغون، وتوليدو وسيغوينزا، والفصل الأخير للاستنتاجات.

نشر الكتاب في لندن نهاية العام 1937 بواسطة دار نشر مارتين سيكر وواربورغ ليمتيد- Martin Secker and Warburg-limit-ed، بفضل التروتسكي س.ل.ر. جايمز- CLR James، القارئ في دار النشر، والذي كتب مقدمة الكتاب. أعادت نشره نورث أميركان- North American عام 1979، وقد كتب مقدمته هناك الرسام السوريالي المشهور أوجينيو فرنانديز غرانيل- Eugenio Fernández Granell. عام 2001، أصدر دار النشر أليكورنيو- Alikornio ترجمة جزئية منه إلى الإسبانية، بعنوان مفكرة برشلونة الحمراء Cuaderno Rojo de Barcelona.

يضم الكتاب الأخير الترجمة الإسبانية التي كتبتها ماري لوّ في كتاب دفتر الملاحظات الإسباني الأحمر، وهو يضم شهادات لأول 6 أشهر من الثورة في إسبانيا عام 1936، مستبعدة فصول زوجها، خوان بريا. ملأت دار نشر أليكورنيو فراغاً كبيراً ومؤسفاً في تأريخ الحرب الإسبانية باللغة الإسبانية، ليس فقط بسبب قيمة الذكريات الموجودة في السير الذاتية، ولكن كذلك بسبب الروح المنعشة المتوفرة في تلك الطبعات الملونة، والتي كتبتها ماري لوّ لنا. فقد شاركتنا بتلك الفرحة الحيوية والمعدية للناس العاديين خلال الأيام التي اعتقدوا فيها أنهم قادرين على تغيير العالم، وتحويل الحياة اليومية.

تزوج الثنائي في إنكلترا يوم 24 أيلول/سبتمبر عام 1937. وبدءاً من تشرين الأول/أكتوبر عام 1937 أقاما بضعة أشهر في كوبا، حيث تابعا نشاطهما الأدبي والسياسي. وعادا مجدداً إلى أوروبا. في باريس التقيا بـ ويفريدو لام- Wifredo Lam، وكذلك بنجامين بيريه وشريكته، الرسامة السوريالية ريميديوس فارو Remedios Varo، بعد أن غادرا اسبانيا في نيسان/أبريل عام 1937. من كانون الثاني/يناير 1938 وتموز/يوليو 1939 أقاما في براغ لفترة طويلة، حيث تواصلا مع المجموعة السوريالية التشيكية: توين- Toyen، بروك- Brouk، هيسلر- Heisler. في براغ نشرا بالفرنسية كتاباً شعرياً بعنوان موسم النايات La saison des flûtes. وقد شهدا بعجز الاحتلال النازي للمدينة. وبفضل الصلة الأدبية غير الرسمية مع الملحق الثقافي الألماني، والمنتمي إلى طبقة النبلاء، حصلا على إذن مرور، الذي سمح لهما بالوصول إلى الحدود الفرنسية. في شباط/فبراير عام 1940 تمكنا من الوصول إلى ليفربول من أجل السفر إلى هافانا. كان بريا مريضاً للغاية وتوفي يوم 17 نيسان/أبريل عام 1941.

عام 1944، تزوجت ماري لوّ من المناضل الكوبي التروتسكي البارز أرماندو ماتشادو (1911- 1982)- Armando Machado وأنجبت منه 3 فتيات. كان أرماندو صديقاً قديماً ومقرباً من ويفريدو لام. ساهمت ماري، والتي كانت ناشطة بشكل دائم ومناصرة للمناضلين التروتسكيين، بتواضع في إسقاط نظام باتيستا، مساعدة ومخبّئة في منزلها للمناضلين التروتسكيين المناهضين للنظام الديكتاتوري، على الرغم من العمل المنزلي الشاق المخصص لتربية بناتها. حافظت على صداقة وثيقة وحميمية مع ويفريدو لام، الذي رسم لوحات خيمياء الذاكرة- Alchemy of Memory، والمنشور في هافانا عام 1946. عام 1954 فازت بجائزة روبين مارتينيز فيلينا- Rubén Martínez Villena. عام 1957، نشرت كتابها الشعري بثلاث لغات “ثلاثة أصوات”. وترجمت بعض قصائد [خوسيه] مارتي Martí إلى الإنكليزية.

فتح انتصار فيديل كاسترو ومقاتليه، في كانون الثاني/يناير 1959، حقبة جديدة من الأمل. ماري لوّ مع لاتينيتها المتميزة إلى جانب إتقانها للفرنسية والإنكليزية، عُيِّنت أستاذة في جامعة هافانا، في حين عُيِّنَ زوجها موظفاً حكومياً. ولكن سرعان ما انعكس استيلاء الستالينيين على جهاز الدولة على التروتسكيين الكوبيين. اعتقل أرماندو ماتشادو، إلا أن تدخل تشي [غيفارا] أدى إلى إطلاق سراحه بسرعة. أصبح المناخ السياسي لا يطاق. وعلى الرغم من جنسيتها البريطانية، أجبرت ماري لوّ من جديد على الهروب من الاضطهاد السياسي. تركت ماري محبوبتها كوبا عام 1964، وبعد إقامة لمدة بضعة أشهر في أستراليا، في منزل شقيقتها، تمكنت من الالتقاء بزوجها أرماندو في فلوريدا. بعد استجوابات ضاغطة خضعت لها من قبل الأف.بي.أي. وسي.أي.إي. استمرت لعدة أيام. وبسبب ماضيها الثوري، منعت ماري لوّ من التدريس في المدارس العامة، لكنها نالت وظيفة كمدرسة للتاريخ واللاتينية في أكثر المدارس الخاصة نخبويةً في ميامي: أكاديمية غاليفير وهولي كروس- Gulliver Academy and Holy Cross.

كنت محظوظاً للغاية لتمكني من لقاء ماري لوّ في برشلونة، صيف العام 1998. كانت قد هربت من ميامي غير الإنسانية وغير الصالحة للسكن، حيث عاشت مع واحدة من بناتها، وعادت إلى أوروبا. لم تمل أبداً من تكرار القصص القديمة ومدى حبها لالتقاء أصدقاء جدد. تحمل فقط ما يلزمها من أمتعتها، التي بالكاد تملأ نصف عربة متحركة، والمتناسبة مع قواها الحالية، وغير الكافية لإقامة طويلة لعدة أشهر في أوروبا، يتخللها زيارات إجبارية إلى باريس وأليسيا- Alesia وإيطاليا. كانت تقرأ رواية، ومع تقدم قراءتها، مزقت الصفحات التي أنهتها على أرض الغرفة بالفندق، هكذا كانت قراءتها خريفية تسقط الثقل غير الضروري مع تقدمها بالقراءة. مجرية المقارنة الحتمية بين برشلونة الحالية وتلك التي عرفتها عام 1936، فاجأها أمرين قبل كل شيء: الأول، كارثة إعادة البناء المتوحشة والكارثية للكنائس، حيث تذكرت بكل فرح وجمال يوم أحرقت و/أو دمرت. الثاني، العدد الكبير من فروع البنوك، مع أو بدون شعار السوريالي خوان ميرو- Miró “العاهر”.

ذكرى فرحها، عند مشاركة مع العديد من أصدقائها الأحاديث و[نبيذ] الريوخا- Rioja، في منطقة رامبلاس- Ramblas، القريبة جدا من محبوبتها فالكون- Falcón، تضيء ليالي برشلونة بحبها للحياة، وسعادتها بخدمة الآخرين كخيط متين لا تدمره معارك التاريخ، حتى اليوم ما زالت تريحنا وتشجعنا.

أن تكون شاعراً وثورياً في الـ 1930ات، بالنسبة للكثيرين، يعني أن تكون سوريالياً وتروتسكياً، كما هو الحال مع خوان بريا وبنجامين بيريه. عند قراءة الفصل بعنوان “النساء” يمكن للمرء أن يمنح لماري لوّ صفة “النسوية”. في العديد من الحالات، تعكس بعض نصوصها في دفتر الملاحظات الأحمر التمييز الجنسي في إسبانيا خلال الثورة، كذلك الفكاهة، والفرادة، والمشاكل الجديدة التي طرحتها الثورة في الحياة اليومية. المقاطع التي تصف فيها ماري لوّ التناقض الذي واجهه الأناركيون الشباب حيال العمل الجنسي كانت مضحكة، لكنها في الوقت عينه رقيقة للغاية. يتألف دفتر الملاحظات الأحمر من سلسلة من النصوص الحية تجعلنا على صلة بالحياة اليومية للناس العاديين، و/أو الميليشياويين أو بعض قادة الحزب الماركسي العمالي، ولكن قبل كل شيء الأوهام التي أشعلتها الثورة في الحياة اليومية. عَكَسَ ماري لوّ وخوان بريا القمة التي وصلت الثورة إليها: غادرا بمجرد وصول جورج أورويل. عندما وصل الأخير إلى اسبانيا كان يفتقر إلى التوجه السياسي المتين؛ في حين كان لوّ وبريا، مناضلَين تروتسكيين انتقدا بكل صراحة بعض تكتيكات الحزب الماركسي العمالي، والتي وصفاها بالأخطاء الخطيرة. ضمن وصف ماري لوّ للمسؤولين البرجوازيين في الحكومة يمكننا رؤية الصدام الآتي (الذي سيحصل في أيار/مايو عام 1937) بين اليوتوبيا الثورية للعمال ومقاومة البرجوازية المناهضة للثورة.


كانت ماري لوّ كاتبة ممتازة، ولكنها في الوقت عينه متكلمة رائعة. إن الاستماع من شفتيها إلى آلاف الطرائف عن حياة يملأها النشاط والحيوية كان شيئاً لا يقدر بثمن. إنها طرائف، تكررها مرة تلو المرة، ربما أخضعتها لتعديلات مع مرور الوقت، بفعل تقلبات الذاكرة وتجديد التكرارات المتعددة التي لا يمكن لأي مزاج فني رفضها. ولكن مع ذلك، إن السخط الذي ظهر على وجهها عندما تذكرت رد غوركين المزعج لطلبها المساعدة، في كانون الأول/ديسمبر عام 1936، والذي بدافع الولاء للحزب الماركسي العمالي حرّفتها في دفتر الملاحظات الإسباني الأحمر، يظهر [سخطها]، على نحو أفضل من كتب التاريخ، الغموض والتناقضات في هذا الحزب.

عندما تذكرت ماري موقف بريا الخيالي تجاه الضابط النازي، حين أعطت سيدة يهودية كرسيها، لأن بحضورها لن تبقى أي امرأة واقفة؛ أو غطرسة بريا نفسه، متفاخراً بأصله السيبوني أمام الضباط النازيين الأغبياء، أو عندما ردّ على العبارة المعتادة “هيل هتلر” بـ”فليمت هتلر”؛ تمكنت ماري من التحرك والتعبير عن إعجابها بشجاعة بريا الجامحة وعدم وعيه بالخطر الذي واجههما. على كل، كانت الذكرى المهيمنة حول تجربة فرارهما من براغ تدل على الرعب الشديد. بدأ الرعب مع احتلال القوات الألمانية لشوارع براغ، وقد تزايد مع الاقتحامات التي نفذتها القوات للحي الذي عاشا فيه، والتي أصبحت خانقة أثناء اعتقالهما واستجوابهما من قبل الضباط النازيين، والذين لم يتركوهما حتى وصولهما إلى الحدود، بفضل جهود ملحق ثقافي، وكاتب مزعوم التقيا بهما من حين لآخر، مستفيداً من نفوذه بين النازيين بسبب انتمائه إلى طبقة النبلاء.

ماري لوّ، التي التقطت لها صورة جماعية مع خوان بريا في ثكنة شارع تاراغوانا- Tarragona، قبل انطلاق كتيبة لينين الأممية التابعة للحزب الماركسي العمالي إلى جبهة أراغون- Aragon، حملت السلاح فقط خلال التدريبات. وما زالت تشك، على الرغم من مرور أكثر من 60 عاماً، بما إذا كان بريا (بهدف حمايتها) قد عمل على تأجيل ذهابها إلى الجبهة، كما كانت تتمنى، حتى بات انضمام النساء إلى الميليشيات أمراً غير ممكن.

تذكرت ماري لوّ، بسهولة وحيوية وكل حنيّة، في محادثاتها الكثير من الأصدقاء والمعارف في اسبانيا خلال الحرب: الصديق السوريالي الفرنسي بيريه وشريكته ريميديوس، وصديقتها أولغا لوييه Olga Loeillet، الطبيبة اليهودية التي تحمل الجنسية البولندية، والكندي ويليام كريم- William Krhem، المتأنق دوماً، والشمال-أميركي روزاليو نيغريتي- Rosalio Negrete، وبالطبع الثنائي أور، اللذين تعاونت معهما في الثورة الإسبانية؛ والقسم الإنكليزي من الحزب الماركسي العمالي، والممول من التبرعات التي جمعها في إنكلترا جون ماكنير- John McNair وبوب سميلي- Bob Smilie.

في تموز/يوليو 1999 وقّعت ماري لوّ، التي كانت مازالت ناشطة ومناضلة، على المانيفستو “معركة من أجل التاريخ“، الذي أدان التلاعب والإنكار الذي يحصل على يد التأريخ البرجوازي والستاليني للثورة التي عاشتها إسبانيا عام 1936.

عاشت ماري لوّ، المرأة والشاعرة والثورية، حياة مغامِرة مكرسة للإبداع والحرية. كما أعطتنا شعرها، والمنشورات بدءا من دفاتر الملاحظات الإسباني الأحمر ومقالاتها في الحقيقة المعاصرة- La Verdad Contemporánea. وفوق كل شيء، أورثتنا نضالها وشغفها بحياة سعيدة، مليئة بالسفر والأصدقاء، بعيداً عن أمراض وطغيان العمر المتقدم.