أولغا روزانوفا: الرسامة الثورية (1886- 1918)



م. ن. يابولنسكايا
2022 / 6 / 8

الكاتبة: م. ن. يابولنسكايا (M.N. Yablonskaya) نشر النص في الفصل الثاني من كتاب “فنانات العصر الجديد في روسيا 1910-1935” – الصادر عن تايمز وهدسون ليمتد، لندن، 1990

مقدمة المترجم:

رافقت رسمات الثورية أولغا روزانوفا فصول كتاب جودي كوكس “ثورة النساء: روسيا 1905- 1917” والتي نشرت ترجمته في هذه المدونة طوال الأشهر المنصرمة. أولغا رحلت مبكراً جداً، لكن الإيجابية الوحيدة لوفاتها هي أنها لم تشهد على تصدعات وانهيارات ودمار ما طمحت إليه، سواء على يد الامبرياليات والثورة المضادة أو على يد قيادات الثورة نفسها، لكنها تركت لنا في الوقت عينه، وغيرها، لوحات معبّرة ومتوهجة لتخيّل المستقبل الآتي.



مع تنامي الوضع الثوري للفنون، ازداد البحث عن أشكال جديدة للتعبير. فالتطور السريع للفن الروسي من الانطباعية إلى التكعيبية هو بحد ذاته تجسيد لواقع أن “الفنانين الروس، كروح شعبهم الذي يمجدونه، لم يَظهر عندهم أي حذر… بالنسبة لهم وللشعب، وفي أعماق أحلامهم، [أرادوا تحقيق] كل شيء أو لا شيء” (1) ملاحظة الشاعر ألكسندر بلوك تصف بشكل جيد الفنانات الروسيات الطليعيات، ومَن هي أفضل مِن أولغا روزانوفا، التي رددت في مقالها الأول مقولة بلوك حين أعلنت: “لا يوجد ما هو أسوأ في هذا العالم من وجه فنان لا يتغيّر”. (2)

وكما كتب المؤرخ فاسيلي راكيتين عنها، أنها كانت “مستقلة فنياً لدرجة الجرأة. لقد اتّبعت الأفكار السائدة في عصرها، إلا أنها تحدّت تماسك عصبوية شلل المبتكرين. استوعبت روزانوفا كل شيء ولم تعتمد تقريباً على أي أحد. أحبّت أن تتعارض مع نفسها، وأن تدخل القلب والروح عبر أعمال جديدة. وحده موتها المبكر هو الذي أوقف روزانوفا من المضي قدماً”. (3)


ولدت أولغا فلاديميروفنا روزانوفا عام 1886 في بلدة ميلينسكي في مقاطعة فلاديمير في روسيا الوسطى. بدءاً من عمر الـ 18 سنة درست الرسم في استوديو/مدرسة بولشاكوف، كما عملت لوقت قصير في معهد ستروغانوف في موسكو. عام 1911، انتقلت إلى سان بطرسبرغ حيث تعلمت في المدرسة الفنية المعروفة، زفانتسيفا، وهناك، ضمن تلك الحلقة الجديدة بدأت حياتها الإبداعية بالازدهار. حيث تعرفت إلى ميخائيل ماتيوشين، فنان تميز بميول إبداعية قوية، إضافة إلى رسامي “اتحاد الشباب” (1910-1914)، وهو اتحاد من الشباب الفنانين الطليعيين الذين تميزوا بأيديولوجيا جمالية حرة على نقيض التيار المحافظ للمعارض المهيمنة في ذلك الوقت. باتت روزانوفا عضوة ناشطة في هذا الاتحاد، ووجدت نفسها في صحبة فنانين متميزين مثل بافيل فيلونوف، والفنان اللاتفي والقارئ النهم والكثير الأسفار، فالديمار ماتفيجس (ماركوف)، الذي أصبح منظّرها الملهم.

نظم اتحاد الشباب معارض الرسم والعروض المسرحية، ونشر ثلاثة كتب ساهمت فيها روزانوفا، كما نشرت رسومها في العديد من الكتب الشعرية بالشراكة مع الطليعة الأدبية. كما عززت المجموعة صلاتها مع الطليعة الموسكوفية، وبذلك جرى تقديم روزانوفا إلى أحدث تجارب ناتاليا غونشاروفا وميخائيل لاريونوف وإيليا ماشكوف ودافيد بورليوك. تميّز النشاط الإبداعي الذي نفذه اتحاد الشباب بالتحدي والكثافة في الوقت عينه، وبالنسبة لروزانوفا، أزال عنها أي حاجة للبحث عن أي تدريب تقليدي خارج هذه الدائرة. وقد أصبحت مساهِمة ناشطة في أوساط الطليعة الروسية، إلا أنها لم تغادر على الإطلاق أراضي بلدها.

في تلك السنوات، كانت روزانوفا قريبة من جمالية التيار المستقبليّ الروسي، ووجدت طاقاتها التعبيرية الفنية ليس فقط في الرسم والغرافيك إنما أيضاً في دورها في البروباغندا. ففي كتابها المانيفستو “أسس الخَلق الجديد وأسباب سوء فهمه”، ذكرت وحددت على نحو دقيق مهامها كفنانة (ص. 97)، وانخرطت في محاضرات ومناقشات حول موضوعة الفن المعاصر، وساهمت في أعمال غرافيكية لصالح نشرات اتحاد الشباب، وعملت بنشاط على تنظيم العديد من المعارض.

وعلى نقيض من [ماريا] ياكونشيكوفا وحتى [ناتاليا] غونشاروفا، التي تضمنت نشاطاتهما نبرة شخصية، كانت أولغا روزانوفا مناضلة اجتماعية رائدة. تذكّر الشاعر بنديكت ليفشيتس في مذكراته أن “روزانوفا قد احتلت مركزاً أساسياً داخل اتحاد الشباب. كانت مميزة. وكانت امرأة تعرف فعلاً ما تريده من الفن، وقد تقدمت نحو هدفها متبعة خطى مختلفة عن أي شخص آخر. وعلى الرغم من الاختلافات في وجهة النظر، فقد أخذتها الفنانتان غونشاروفا و[ألكسندرا] إيكستر، اللتان كانتا غير مساومتين في ذائقتيهما، على محمل الجد”.(6)

بحسب معاصريها، لم تبدُ روزانوفا كمستقبليّة “خالصة”. فمعاصِرتها وزميلتها فرفارا ستيفانوفا قالت عنها: “على الرغم من مرورها في تجربتين مستقبلية وتكعيبية، إلا أن روزانوفا لم تأخذ الجوهر من هذين التيارين، إنما فقط وسيلة التعبير، وبالتالي ذلك لم يجعل منها تكعيبية أو مستقبلية”.(7) أكثر من ذلك، أحد أكبر النقاد في تلك الفترة، أبراهام إيفروس، لاحظ الصفات الحدسية والغنائية في أعمال روزناوفا وقتها. تتضح هذه المميزات على نحو خاص عندما نقارن عملها مع أعمال غونشاروفا. وعلى الرغم من أن نماذج روزانوفا كانت إلى حد ما قريبة من أعمال غونشاروفا الإبداعية إضافة إلى دورهما الفني والبروباغندي المتشابهين، إلا أن إيفروس لاحظ “أن روزانوفا تشبه الجانب العكسي من غونشاروفا”. وقد أجرى مقارنة بين الصخب و”الطبيعة المتقلبة” لمستقبليّة غونشاروفا مقارنة مع الموهبة “الهادئة للغاية” للرسامة المستقبليّة الحميمية روزانوفا.



تتمظهر مقاربة روزانوفا من خلال أعمالها المبكرة مثل الشاعر (The Poet) أو (The Oil Stove) (عام 1912). أعمالها الأخرى، مع ذلك كانت مستقبلية على نحو أوضح. وتميز عملَيها المصنع والجسر(Factory and Bridge) (1913) ورجل في الشارع (Man in the Street) عام 1913 بإيقاعات مهتزة للصور المكسورة المنشورة على سطح الصورة، والتي تعكس دينامية الحياة الحديثة. أحد أكثر أعمالها تقدماً في تلك السنوات كانت اللوحة القماشية (تنافر Dissonance) عام 1913، العمل التجريدي الملون بألوان زاهية بحيث تتحطم مكوناته إلى أجزاء بواسطة خطوط قطرية تُذكر بالخطوط المستقبلية الإيطالية (خطوط القوة- lines of force) والتعبيرات الشكلية لرسمات غونشاروفا و[ميخائيل] لاريونوف الشعاعية. (8) وللتأكيد على مدى قرب روزانوفا من الجمالية المستقبلية من المهم التذكير بأن رسماتها: المصنع والجسر، ورجل في الشارع، وتنافر ورسمة أخرى اسمها المرفأ- (1913) (The Port)، قد عرضت في المعرض المستقبلي الحر الأول في روما عام 1914 وقد تملّكها في وقت سابق، قائد المستقبليين الإيطاليين، [فيليبو توماسو] مارينيتي.

وباعتبارها عضوة نشطة في اتحاد الشباب، أصبحت روزانوفا كذلك على اتصال وثيق بـ كازيمير ماليفيتش، الذي عرض أعمالاً له في العديد من معارضها. خلال عام 1913 شعر ماليفيتش بتأثير التكعيبية الفرنسية، وفي السنة التالية بدأ بتجربة تقنية الكولاج التي كان من روادها بيكاسو و[جورج] براك خاصة في أعمالهما التركيبية والأوراق الملصقة (papier collé) التكعيبية. تحاكي لوحات ماليفيتش مثل (Woman at a Poster Column) عام 1914 هذه الجوانب التكعيبية الفرنسية، حيث يدمج كازيمير قصاصات الصحف القماشية والصور والطائرات المسطحة التي تتساقط الواحدة فوق الأخرى للإيحاء بتأثير كولاجيّ. ولأن هذا العمل كان من بين أكثر الأعمال إثارة التي نُفِذَت في روسيا عام 1914، كان من الطبيعي أن تبدأ روزانوفا باستكشاف هذا المسار.

تميّز الانتقال من المستقبلية إلى التكعيبية بسلسلة من اللوحات التي تضمنت (Metronome)، عامي 1913- 1914، واللوحة الأكثر تحليلية “الخزانة والصحون” (Sideboard with Dishes) عام 1914. وأحد أكثر أعمالها تميزاً في تلك الفترة كان مكتب الكتابة (Writing Desk) عام 1914. من خلال تأمل هذه اللوحة والأعمال المشابهة، يبدو واضحاً أن البنية الفنية تتكون من نظام الكولاج. كان عمل مكتب الكتابة بشكل واضح ضمن هذا السياق. لوحتا عدة العمل (Workbox) ومزين الشعر (Hairdresser)، المنجزتان عام 1915، هما مثلان إضافيان على أعمال روزانوفا في هذه الفترة والمستندة إلى فن الكولاج. استحوذت روزانوفا على هذه الفكرة وطورتها أكثر، ووصلت بها إلى الذروة مع سلسلة الأعمال الكولاجية التي كان موضوعها الحرب العالمية.

سيشكل التوليف الميكانيكي لمستويات اللون الكامن في التركيب التصويري الكامل لروزانوفا الأساس لمزيد من التجارب التجريدية التي رسمتها هي وزملاؤها. خلال عام 1915، أزال ماليفيتش بشكل منهجي أي صور رمزية من لوحاته وكشف عن أسلوب صوفي، غير موضوعي (Non objective) للرسم سماه التفوقية (Suprematism). اتبعت روزانوفا خطى ماليفيتش في هذا المجال، وخلال العامين 1915 و1916 أنتجت أول رسمة غير موضوعية. كما لعبت دوراً نشطاً في منظمة سوبريموس (Supremus) التي تشكلت حول ماليفيتش. كان هدف المنظمة، والتي ضمّت [ليوبوف] بوبوفا، [ألكسندرا] إيكستر و[نادزيدة] أودالتسوفا، [إيفان] كليون وآخرين، هو نشر التفوقية في العديد من الفنون، ولذلك جرى تعيين ماليفيتش وروزانوفا محررَين للمجلة المقترحة.


مع ذلك، وعلى الرغم من قربها من ماليفيتش والفنانين الآخرين في مجموعته، وواقع أن بعض أعمالها مثل لوحة التفوقية (Suprematism) عام 1916 قد سميت باسم أسلوبه المبتكر، إلا أن روزانوفا بقيت مستقلة بالكامل، وعناوين أعمالها مثل تركيب غير موضوعي (Non objective Composition) عام 1916 جعلت من الفروق جلية. بات الضوء في عملها مهماً على نحو خاص. وأصبح الشكل ناقلاً للطاقة.

كانت [فارفارا] ستيبانوفا هي التي أوضحت الفرق بين أعمال ماليفيتش التفوقية وأعمال روزانوفا. بحسب رأيها خلال تقديمها لمعرض روزانوفا بعد وفاتها، حيث أشارت ستيبانوفا إلى أن “ماليفيتش بنى أعماله انطلاقا من المساحة في حين بنت روزانوفا أعمالها انطلاقا من اللون” (9). اعتمدت في العديد من أعمالها على تعديل على اللون الأسود ومزيج من الأصفر والأزرق الفاتح أو الغامق. خلق نظام توزيع اللون على مساحة لوحتها تأثيراً لم يمكن دينامياً فحسب إنما أيضاً زخرفياً. ولكن هذا لم يكن تطور روزانوفا الأخير، فقبل موتها المفاجئ عام 1918، بدأت الفنانة باعتماد أسلوب جديد بشكل لافت. في الشريط الأخضر الرائع (Green Stripe) عام 1917 قسمت روزانوفا اللوحة إلى قسمين المطلية باللون الأبيض الكريمي مع شريط أخضر بضربة واحدة في وسطها مستبقة تيار رسم مجال اللون الأميركي خلال الـ1950ات والـ 1960ات. في عملها هذا تميزت روزانوفا بشكل واضح عن التجارب التي حصلت سواء في فرنسا أو إيطاليا في تلك الفترة.

كان أسلوب روزانوفا الإبداعي أيضاً مبتكراً في تصميم ورسم الكتب المستقبلية الروسية. فقد تميزت المستقبلية الروسية على نحو خاص بالترابط العميق والإبداعي بين الشعراء والرسامين. من ناحية، رسم الفنانون الروس الطليعيون العديد من الكتب الشعرية لـ[ألكسي] كروتشينيخ و[فليمير] خليبنيكوف، ومن ناحية ثانية، ساهمت النظريات اللغوية التي طورها الشعراء في تطوير ممارسة الرسم. وهكذا فإن نظريات وتقنيات كروتشينيخ “المابعدعقلانية” (transrationalism) التي أعلنت تحرير الكلمات من معانيها التقليدية وأسفرت عن نوع من الصوت/الشعر المجرد، وجدت ما يعادلها في التفوقية لماليفيتش حيث جرى تحرير اللون والشكل من وظائفهما الوصفية.

تماما كما كان تعايش ناتاليا غونشاروفا مع ميخائيل لاريونوف شراكة من “التفاهم المتبادل”، كذلك كان عمل روزانوفا مع زوجها المستقبلي ألكسي كروتشينيخ. خلال الـ 1920ات، تعاونا في سلسلة كاملة من الكتب المابعدعقلانية (transrational)، مؤسسَين مرحلة جديدة في تطوير تصميم الكتب التي شكلت جسراً بين الطبعات الفاخرة التي نشرتها عالم الفن والبنائية وبين التصميم السوفياتي للكتب خلال الـ 1920ات وبداية 1930ات.

بدأت روزانوفا حياتها المهنية كفنانة غرافيك عام 1913 عندما رسمت التقرير الثالث والأخير لاتحاد الشباب، وفي السنة نفسها ما لا يقل عن 6 مجلدات أعمال شعرية ونظرية لـ كروتشينخ وخليبنيكوف، التي تضمنت المانيفستو المهم “الكلمة كما هي”، والكتب الغريبة التالية: A Forestly Rapid, Explodity, Let’s Grumble, The Devil and the Wordmakers and A Duck’s Nest of Bad Words. في البداية، كانت مقاربة روزانوفا في أعمالها الغرافيكية ضمن هذه الكتب مفعمة بالروح المستقبلية. تميزت مطبوعاتها الحجرية (lithographs) في كتاب (Explodity) بخطوط جريئة تكسر الصفحة. في حين تكاملت المطبوعات الحجرية الملونة بيدها في كتاب A Duck’s Nest of Bad Words مع نص القصيدة بشكل تام، وكشفت عن حس فائق للألوان والخطوط.

عام 1914، وضعت روزانوفا رسوم عملين آخرين لكروتشينيخ وخليبنيكوف. وتضمنت الطبعة الثانية من قصيدتهم النيو-بدائية (Neoprimitive) لعبة في الجحيم (A Game in Hell)، التي كانت قد وضعت رسومها غونشاروفا، وكتابا مابعدعقلانياً بعنوان (Te li Le)، وقد عرضت صفحات منه في المعرض المستقبلي الحر الأول في روما. مع ذلك، كما تطورت روزانوفا بعيداً عن خطاب المستقبلية باتجاه اعتماد لغة تكعيبية في أعمالها، لذلك نقلت اهتمامها هذا إلى التقنيات الكولاجية التي اعتمدتها في تصميم الكتب. عام 1915، عملت روزانوفا على كتابين نشرهما خروتشينيخ، ضمّنتهما عناصر كولاجية. كان غلاف الكتاب المشهور المابعدعقلاني مزيناً بقلب من ورق أحمر خُيّط إليه زر أبيض. وعلى الرغم من أن التصاميم لم تكن كولاجات إنما “غرافيكس ملونة” تصور الإمكانات المجردة لصور أوراق اللعب. إلا أن روزانوفا كانت قد عالجت فعلياً هذه الموضوعة في سلسلة من الكولاجات الأولية مثل لوحة (The Four Aces).

يمكن اعتبار المجلد الثاني، بعنوان: الحرب، الأكثر أهمية في تطورها الفني، وقد أفاد خاردزييف أن “روزانوفا قد اعتبرت هذا العمل هو أعظم إنجاز لها في فن الطباعة”. (10)

تألف كتاب الحرب من أربع أوراق لنصوص لينوكوتية وسلسلة من الرسوم اللينوكوتية بحيث تظهر الأشكال التصويرية والتجريدية الفظائع التي كانت تحصل على الجبهة. وكما هو الحال مع الطباعة الشعبية الروسية (لوبوك- lubok)، جرى استعمال نص وصفي في بعض الأوقات كعنصر تركيبي بحد ذاته. كما صممت روزانوفا مجموعتين من الكولاجات الملونة، الواحدة تستعمل كتصميم، والثانية لتزيين الغلاف. وقد جرى دمج الأشكال الهندسية المجردة، في محاكاة لتفوقية ماليفيتش التي كانت روزانوفا على أُلفة معها.

في رسائل روزانوفا إلى أ.أ. شيمشورين، الذي تبرع لتمويل نشر كتاب الحرب، وصفت مقاربتها الغرافيكية. بحيث لاحظت أن تقنية اللينو النقشية مستوحاة من عملها كتاب مابعدعقلاني.، حيث طبعت الصور ولونتها يدوياً الأمر الذي أدى إلى انتاج نسيج غني وفريد. على الرغم من أن بعض النسخ المعاد طبعها من كتاب الحرب كانت غير مرتبة، لكن روزانوفا وجدت أنه من الجيد “توزيع وسيلة طباعة مقتضبة وغير مبتذلة”. كما واصلت الاعتراف بمدى وعيها الشديد للنواقص الموجودة في هذه الكتب، ولكنها أدركت “أنها أفضل تقنيات الطباعة التي قمت بها حتى اليوم. هي ليست فقط أقوى من الناحية الفنية من أي عمل قمت به من قبل ولكن أيضاً تتضمن الكثير من المحتوى وهي على قدر كبير من الفرادة”. (11)

أنتجت روزانوفا تصاميم لينوكوت في كتاب الحرب بعد سنة من نشر كتاب غونشاروفا (Mystical Images of War)، والذي من دون شك كان حافزاً فريداً في تفكير روزانوفا. من المفيد مقارنة لينوكوتية روزانوفا مع المطبوعات الحجرية (lithographs) لغونشاروفا. وعلى الرغم من وجود بعض الميول المشتركة، مثل اعتمادهما الواضح على تقليد المطبوعات الشعبية، إلا أن أعمال روزانوفا وغونشاروفا كانت متميزة حقاً: كل فنانة تعالج تقليد الصور الشعبية بطريقة مختلفة. فغونشاروفا ترسم مباشرة على الأيقونة والمطبوعات التقليدية الشعبية، في حين أن الصور التي تبتكرها روزانوفا كانت أقل تقليدية. كانتا خاضعتين لإدراك أكثر ذاتية. كما أشار يفغيني كوفتون: “في هذا الكتاب لا يوجد أي شيء من الأسلوب الذي طبع مجموعة غونشاروفا”.



إن الإدراك الشعري لروزانوفا (الذي حقق تعبيراً غير موضوعي في كولاجَين لكتاب الحرب) هو بالمقارنة مع أدبية غونشاروفا علامة على “مرحلة ثانية” من تطور الحركة الطليعية. اندماج المساهمات الوطنية والأوروبية جعلت من الفن الروسي الطليعي عند نقطة تكافؤ مع الفن الأوروبي.

رغم ذلك، يمكن ملاحظة مساهمة روزانوفا الفريدة في تصميم الكتب عند دراسة كولاجاتها غير الموضوعية التي أنجزتها عام 1916 والتي رافقت قصائد كروشينيخ حول موضوعة الحرب العالمية. هنا، ركزت روزانوفا كل تجربتها على تصميم ورسم الكتب المابعدعقلانية، وسلسلة من الكولاجات حول الأوراق الملونة والتي حققت توليفة جديدة بين الرسم والشعر، بين الكلمة والصورة. تألفت مجموعة كروشينيخ من 12 قصيدة من أعمدة مكونة من كلمات وأحرف تتوافق كل منها مع إحدى كولاجات روزانوفا غير الموضوعية. بالنسبة للرسامة والشاعر كان ذلك قمة العمل المشترك الإبداعي: روزانوفا “ابتكرت الكلمات” تماماً كما ساهم كروشينيخ بالعديد من الكولاجات، المعبرة عن مدى عمق تعاونهما.

اعتمد نجاح روزانوفا في نقل الصفات المجردة لقصائد كروتشينيخ إلى الكولاج كوسيط انطلاقاً من قبولها بنظريات كروتشينيخ. في تحطيمه الجمل واستخدامه لأجزاء كلمات وأحرف، دمر كروتشينيخ المعنى الحرفي في قصائده ووجد نفسه حراً في تجربة مجموعة واسعة من الارتباطات التي أثارتها صوت قصيدته وصورتها على الورق. في نظريات كروتشينيخ المابعدعقلانية يكون لأحرف الأبجدية معناها الدلالي. وبذلك أكد كروتشينيخ على أن “الحروف الساكنة تعني الحياة اليومية، والجنسية، والوزن. أما أحرف العلة فهي عكسها تماما- هي لغة الكون. الأحرف الساكنة هي الألوان، أما أحرف العلة فهي الخطوط… كلمة مرئية. أول شيء هو صورتها وليس معناها الدلالي. غير مقروءة، كما لو أن معناها غير مفهوم. يعجز الفكر والكلام عن الاختبار، لذلك يتمتع الفنانون بحرية تامة بالتعبير عن أنفسهم ليس فقط بلغة عامة للأفكار، إنما أيضاً بلغة شخصية من دون أي أهمية لتشتيت الانتباه، وهي لا تخلو من المعنى إنما هي مابعدعقلانية”. (12) كذلك في كتابه حول الروحانية في الفن (On the Spiritual in Art)، كتب كاندينسكي أنه “تماماً كما تنطق كل كلمة (شجرة، جنة، إنسان) مؤدية إلى اهتزاز داخلي، كذلك الأمر حين يتم تجسيد كل كائن فنياً. إن إزالة إمكانية إثارة مثل هذه الاهتزازات سيؤدي إلى إفقار ترسانة وسائل التعبير”. (13)

في الحرب العالمية تخلصت روزانوفا من أي ميل نحو المحتوى الرمزي. وجرى تحويل المعاناة إلى رفض واعٍ وشامل للحرب- إلى جانب التبنؤ الحتمي بمستقبلها.

في مقدمة الكتاب يعلن خروتشينيخ بكل فخر: “هذه الرسمات الملونة مشتقة من نفس مصدر اللغة المابعدعقلانية- تحرير الإبداع من الراحة غير الضرورية من اللغة المابعدعقلانية إلى الرسم المابعدعقلاني”.

مجموعة الحرب العالمية كانت عملاً يدوياً بالكامل. كانت الكولاجات من القماش والورق شبه الشفاف، ما عدا مجموعة واحدة صممت على خلفية زرقاء. مثلت مجموعة الحرب العالمية ذروة المستقبلية الروسية. “في كل ما أقيم وقتها”، كتبت الفنانة، “في كل ما تم القيام بعد ذلك، كانت كل أعمالنا وأبحاثنا شديدة… لقد تعبنا بشدة من التقليد التقريبي للجمالية وليس أقل تعباً من السباقات المتعبة للديربي المستقبلي (Futurist Derby)… لوقت طويل كنا على دراية بأزمة آتية وعشنا فيها، سواء عن عمى أو شوق شديد، عن غير قصد أو نفاذ صبر. نعيد ضبط الصفحات، والأيام، والأشهر مع نفس التسلسل الذي سارت به حياة المدن أو مصير الحرب التي كانت تجري خارج نوافذنا… نعتقد أن فننا كان بسيطاً، مفهوماً وضرورياً، لقد كانت نتيجة الحرب واضحة فينا: لقد مزقت قطع الماضي فينا، ما كان ينبغي أن يكون لنا، كما قصرت شيئاً، وأطالت أشياء… وغيرت العالم بسرعة جديدة، وأعطت خلفية خبيثة لحياتنا، والتي تجاهها بدا كل شيء مأساوياً أو لا معنى له”.(14)

نتيجة لذلك رحبت روزانوفا بالثورة عندما اندلعت عام 1917. واندفعت فوراً في النشاط الاجتماعي-الفني الذي أعقبها، وأصبحت عضوة في قسم الفنون في مفوضية الشعب للتنوير (ايزو ناركومبروس- IZO Narkompros) وفي بروليكولت (Proletkult) [التي حلها لينين، أو “دمجها” بالأولى، بموجب قرار أرعن]. مع [ألكسندر] رودتشينكو، ترأست القسم الفرعي الذي يتعاطى بالانتاج الفني. كما شاركت في إنشاء استوديوات الدولة الحرة (Svomas) التي كانت مؤسسات تدريبية للفنون في العديد من المدن الروسية. عام 1918، زارت مراكز الفنون التطبيقية كعضوة في مفوضية الشعب للتنوير، وأعادت تنظيم ورشات العمل في بوغورودسك (الألعاب الخشبية) وإيفانوفو (المنسوجات).

عام 1918، ماتت روزانوفا بسبب الخناق (الديفتيريا- diphtheria).

أقامت مفوضية الشعب للتنوير أول معرض فردي صغير لها في السنة نفسها، إيفان كليون (Ivan Klyun)، الذي قدّم المعرض، كتب أن روزانوفا: “درست الحياة باهتمام، يمكنها أن تشعر بالعصب الذي سيُعلمنا غداً بروح العصر الآتي”. روزانوفا نفسها قالت عام 1913: “كل لحظة من الحاضر تختلف عن عالم الماضي، ومفاتيح المستقبل تحمل احتمالات لا تنضب من أجل اكتشافات جديدة”.(15)

الهوامش:

1. A. Blok, Collected Works {Sobranie sochinenii). Vol. 2, Moscow Leningrad 1962, p. 308.

2. O. Rozanova, ‘The Bases of the New Creation and the Reasons Why It is Misunderstood’ (‘Osnovy novogo tvorchestva i prichiny ego neponimaniya’). -union- of Youth {Soyuz molodezhi) 5, St Petersburg, March 191 3, p. 12. Trans. J. Bowlt in Russian Art of the Avant Garde, Theory and Criticism, London, New York, rev. edn. 1988.

3. V. Rakitin, ‘Illusionism is the Apotheosis of Alexandra Exier Vulgarity’ in the catalogue Women Artists of the Russian Avant garde, Galerie Gmurzynska, Cologne 1979-80, p. 254.

4. Some Western scholars, such as M. Calvesi below, believe that Rozanova visited Paris and Rome in 1914 but as yet there is no evidence to substantiate this claim.

5. A. Benois, ‘Cubism´-or-Ridiculism’ (‘Kubizm ili kukishizm’). Discourse (Rech), 23 November 1912.



6. B. Livshits, The One-and’A’Half’Eyed Archer {Polw loraglazy strelets), Leningrad 1933. Trans. J. Bowlt, Oriental Research Partners, Newtonville, Mass., 1977, p. 128.

7. Varst (V. Sicpanova), ‘Posthumous Exhibition of Olga Rozanova’, in Art (Iskusstvo), 1919. No. i, p. 8.

8. Dissonance is reproduced in colour in M. Calvezi, ‘II Futurismo Russo’ in L’Arte Moderna, 1967, Vol. 5, No. 44. P- 304.

9. Varst, op. cit., p. 2.

10. N. Khardzhiev, The Russian Avant Garde, Stock’ holm 1976, p. 61.

11. O. Rozanova to A. Shemshurin, Manuscripts Dept., State Lenin Library, Shemshurin fond 5/14.

12. A. Kruchenykh, Declaration of the Word as Such, Moscow 1913, pp. 5-8.

13. V. Kandinsky, Concerning the Spiritual in Art, Moscow 1915, p. II.

14. Cited in N. Punin: ‘Flat No.5’, Manuscripts Department, State Tretyakov Gallery, fond 4/1568.

15. O. Rozanova: ‘The Bases of the New Creation’, op. cit. Trans. Bowlt, Russian Art of the Avant’ Garde, op. cit., p. 109


Dmitry Shostakovich, Largo/Largo, String Quartet No. 8, Olga Rozanova