المنهج القرآني وتأطيره لعلاقة الزواج عند المفكر السوداني – أبو القاسم حاج حمد-



ميلود كاس
2022 / 6 / 15

تناول أبو القاسم حاج حمد علاقة الزواج من منظور المنهج القرآني في كليته أولا، ثم من منظور الحكمة الإلهية في حركة الواقع ثانيا. فحاول أن يجمع بين القراءتين في تدبر مسألتي: (زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة)، و(قصة الإفك)؛ فليست أمور التشريع في الزواج وغيره خاضعة للتنصيص الإلهي عليها تحليلا أو تحريما فقط. يقول : "وليس كل أمر لا يرغبه الله يأتي في باب التحريم"( ). بل إن القرآن الكريم يعالج بعض القضايا "من زاوية أخرى في حركة الواقع نفسه، ليثير في المؤمنين قدرات التفكير والتدبر"( ). وهذا ما حصل في (قصة الإفك)، التي يغفل الكثير من العلماء –حسبه- عن جوانب الحكمة فيها. وهو ما أشار له القرآن في قوله تعالى : { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [النور : 11]. فكان يمكن لله أن يطوق هذه الشائعة، كما طوق هزيمة حتمية للمسلمين في بدر. لكنه أرسلها ، ليثبت عندنا معنى الحكمة فيها( ).
جوهر هذه الحكمة عند أبي القاسم، هو إشارة القرآن المكنونة بداخله، إلى قضية اجتماعية مهمة في علاقة الزواج وهي : (التكافؤ)؛ " فقد أراد الله لمحمد أن يتزوج بعائشة في تلك السن المبكرة ضمن الشرعية الأخلاقية الواقعية، وإذا بالأيام تمضي، فيكتشف محمد نفسه وسط دائرة من الشائعات التي تنال سمعة عائشة دون سائر زوجاته من اللواتي يناسبنه في السن"( ). إلا أن الذي يعاب على أبي القاسم، هو أنه عكس ما نادى به من مبدأ الارتقاء بالواقع إلى النص، فقد صادر في هذا التأويل (مجموعة القيم الاجتماعية التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم)، طبعا إن صح أن سن عائشة حين زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان سبع سنوات. صادر هذه القيم بالاحتكام إلى قيم راهنة. يقول : "ونحن ننظر الآن من منطلق قيم مختلفة، وكم يود بعضنا ألا يكون الرسول قد فعل ذلك.."( ).
فأبو القاسم وإن حاول أن يعطي مبررات لزواج النبي من عائشة حين قال : "فمحمد في زواجه من عائشة، كان يصدر من شرعية اجتماعية، ذات بعد أخلاقي معين، متعارف عليه في واقعه. غير أن محمد لم يكن مِلْكا لذلك الواقع فقط..وإنما هو ملك لتجربة عالمية مستمرة فصحح الله به وفي حياته ما يحفظ للتجربة دلالاتها في المستقبل، أي منع الزواج الغير متكافئ"( ). إلا أن حاج حمد –هنا- وضع نفسه في مأزق منهجي خطير، أفضى به إلى القدح الغير مقصود في (العصمة النبوية)، فأن (يصحح الله بمحمد) أوضاعا اجتماعية خاطئة عبر ارتكابها، فالأمر يبدو غير منطقي، ومتعارض مع الحكمة الإلهية. فالحكمة اقتضت –دائما- تبرأته وتطهيره من كل شائبة نفسية أو خلقية، أو سلوكية. ثم إن منظومة القيم الأخلاقية ثابتة، فلا معنى أن يقال : أنه كان يصدر عن شرعية اجتماعية. بل العكس هو الثابت. أي مفارقته صلى الله عليه وسلم حتى قبل بعثته للقيم الجاهلية. فمنهج القرآن في الزواج وتنظيمه واضح مسطر، إذ نص القرآن على تحريم كل الزيجات المتعارضة مع القيم الأخلاقية، وشرط البلوغ عند المرأة والرجل شرط أساسي في الزواج، فلماذا لم يتناول أبو القاسم المسألة كما فعل غيره من الحداثيين من جهة : نفي أن تكون عائشة قاصرا حين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي نفسه متعلقات هذا التأويل الخطيرة.
أما عدم التناسب في السن، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله فقط. بل كان أيضا مع خديجة؛ فالزواج وإن كان علاقة اجتماعية، فإنه قبل ذلك علاقة نفسية مبنية على غاية تحقيق السكينة والمودة والرحمة، فمتى وجدت المحبة وجد التكافؤ. ولا يشك واحد من المسلمين في ما كان بين عائشة رضي الله عنها والنبي صلى الله عليه وسلم من محبة. ولعل قصة الإفك نفسها كانت اختبارا وإبرازا لهذه المحبة، وتقوية لها.
وإلى جانب تناول أبي القاسم لمسألة: (الزواج من القاصرات) التي لم يوفق فيها من جهة اختيار المدخل القرآني المناسب لها. تناول أيضا مسألة: (تعدد الزوجات) تناولا سياقيا محكما وفَّى فيه بوعوده النظرية المتعلقة ب: (الوحدة الناظمة)، فتناول الآية : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء : 3] بمحددات سياقية، تربطها بالتدرج الفكري المتسلسل والمتماسك من بداية السورة إلى منتهاها، فقرأها قراءة موضوعية منسجمة ومتماسكة. إذ قرر أنها تبدأ بنداء الناس إلى التقوى بموجب الاعتراف بالربوبية. فمَنَّ عليهم بأن خلقهم من نفس واحدة، ثم جعل من هذه النفس (ثنائية): (زوج و زوجة).
وهذا الانقسام إلى ذكر وأنثى هو باتجاه التكامل، لتاتي بعدها من هذه (الوحدة الثنائية) الكثرة التي تتواصل زمانيا. ثم يتكرر النداء بالتقوى بموجب (المعرفة بالأرحام) التي مصدرها التكاثر عن رحم وحدة، ثم ياتي الله لذكر (ظاهرة اليتم)، لا بوصفه ظاهرة عامة في المجتمع. بل بوصفه ظاهرة ضمن إطار (الأرحام). إلى أن يأتي إلى تشريع وإباحة تعدد الزوجات، الذي لا يمكن أن نفهمه خارج هذا الإطار والمسوغ التشريعي : (اليتم، الأرحام)( ).
قد نظر حاج حمد إلى التعدد في آية سورة النساء ضمن محددات موضوعية " فظاهرة الأيتام مقيدة إلى الأرحام، حيث يتم في إطارها الوصاية عليهم. وظاهرة النساء مقيدة إلى الأيتام، وليس (كل) النساء. فدرءا للخوف من عدم العدول في اليتامى يُجوِّز الله ضمهم إلى العائلة (بزواج أمهم)، وهنا لا يصبح الأمر (تبنيا)"( ). فنظر إلى مسألة إباحة تعدد الزوجات ضمن أطر قرآنية عامة؛ فالحكمة من التعدد هي الحد من ظاهرة (الاختلاط)، يقول: "فالوصي على الأيتام حين لا يكون زوجا لأمهم، يجد نفسه معها بحكم السقف في جو عائلي واحد –كموقف يوسف- وجعل التصرف في مال الأيتام ينطلق من أبوة حقيقية عبر الزواج من أمهم فيختفي عنصر التبني"( )، فمن هذه الرؤيا الاجتماعية للقرآن الكريم يمكن فهم التعدد على أنه جاء ليؤطر وضعا اجتماعيا استثنائيا. فالأمر "لا يتعلق برغبة التزاوج المجردة كما ذهب المفسرون، وإنما بالعناية بالأيتام"( ). وهذا الذي توصل إليه لم يقف عنده المفسرون القدامى، لأن منهجهم يقوم على (التجزيء) "فالقرآن بالنسبة لنا ليس فرقانا يتجمع (كميا) في قرآن واحد، وإنما هو فرقان يتجمع (كيفيا) في قرآن واحد تحكمه وحدة منهجية ناظمة"( ).