صراخ الطابق السفلي: الحريم السياسي أو عندما يختنق الحب في أروقة الجحيم



محمد الخمليشي
2022 / 7 / 2

رواية صراخ الطابق السفلي ، هي صفحات عريضة من قصص متشابكة، تتقاطع فيها قصص الحب واللهفة المتوهجة مع سرديات السياسة والمشانق والحروب والإبادة إبان الاحتلال الإيطالي، وقصص الرحيل والهجرة عبر المجهول والهجرة إلى الشمال بحثاً عن الحرية. تتجاور السرود، متشابكة، لتشهد ليس فقط على النوايا وإنما كذلك على الوقـع الذي تحدثه.
في ومضات إشراقية ساحرة تستكشف الروائية د. فاطمة الحاجي عبر طبقات الاسم العربي الجريح وجعَ الصُّراخ، وتحديداً في الطبقات السفلى للدولة والمجتمع في ليبيا الحديثة. تلتقي شخوص الرواية على مشانق العتمة، تسبح في دوائر التيه، عبر دروب أمكنة وأزمنة وسيعة، بحجم كل الوجود. تتقاطع فيها أزمنة الحاضر السياسي في ليبيا الحديثة بماض يتمدَّدُ حتى الأساطير القديمة والحديثة، فتُشرَع الآمال والأسئلة الأبدية الحارقة في السياسة والثورة والألوهية، حيث يمتزج فيها الخوف والتوجس والقلق بالعشق والهيام في آن واحد.
إنها حكايات نساء من ليبيا، يلتهب لديهن الحب في دهاليز أروقة النظام، غير أنهن جميعها، ينتهين بعويل فاجع مُرٍّ وعزاء كربلائي حزين.
بمثل تلك الحكايات تُشرَعُ دروب الأسئلة عن اختناقات الحب في أزمنة القبح: فهل سيمضي زمن القبح...ويأتي الشعراء؟ وهل يبدأ تاريخ جديد للنساء؟ من سيدري؟

مفتتح الرواية هي صورة الغلاف، رسم تعبيري يَبْرُز حدَّ التطابق بين العنوان: «صراخ الطابق السفلي»، وهو موشوم بخط عربي جميل، مع صورة امرأة في وضع صراخ من وجع الخنق: ثلاث أياد ذكورية الملمح تُمعن في إحكام القبض على الوجه، لكنها تُبقي على عينين صارختين من هول الفجيعة وهي على عتبة الموت.

أما أولى عتبات النص، فهي رسالة قصيرة موجهة من الروائية فاطمة الحاجي إلى الناشر والقارئ معاً، تنبه فيها الجميع، وكل من عايش أو سمع عن صفحات من تلك الأحداث في أزمنة متوالية، وبالتحديد لكل من تعرض لغبرة شبيهة بغبار أشد احمراراً، كما حدث ذات يوم شنق باسم الثورة في ليبيا الحديثة وكما يَحدُث، حتى الآن، في بلدان منهوكة، من المحيط إلى الخليج. تقول سعاد: «أنا سعاد، صوت من أصوات هذه الرواية قبل أن أرحل أردت أن أسطر شهادتي على ما عايشته وأزيح الستار عن أسرار لم تُكْشف لأحد من قبل، أسرار تعود إلى فترة مجهولة من تاريخ ليبيا المتواري في ركن خفي من الوجود. أكتشف مع غيري طاهر وعائشة وآدم وحازم ووالدي المجاهد وكريستينا وغيرهم خفايا أحداث تحسبها أسطورية وهي في أغلبها العلة الأولى لما يحدث الآن وما يدور في بلادي من صدام تراجيدي...». (ص ٥)
تنبه الكاتبة، في ذات الرسالة، قائلة: ”ويبقى طلبي لك: إذا وافقت على النشر أرجو إعلامي وإذا لم توافق فأرجو الاحتفاظ بالنص في أدراجك وفي أدراج الذاكرة لعل أحدهم يعثر عليه ويقدمه للضوء في زمن آخر”. لعل أدراج الناشر يمكنها أن تحتفظ بالنص المكتوب على الورق، أما أدراج الذاكرة فقد تكون فضاءً غير معلوم أو حتى مستحيل، قد يعثر عليه أحدهم ويقدمه للضوء في زمن آخر، فلا حرج من التأجيل أو الإلغاء أو حتى النسيان، فإذا كانت السلط المُتَنَفِّذةُ (السياسية والأبوية)، قد دأبت على الاحتفال بذاتها والتهميش لمن سواها، فقد اعتادت الاستفراد بالسلطة وتأبيد الجنوح الجامح نحو التسلط. إذ، يمكن القول أنه على أساس هذا الجنوح تأسست الأديان والإيديولوجيات والخطابات اليقينية ـ الدغمائية، تماماً كما حدث في ليبيا الكتاب الأخضر، حيث تصدر «الأحكام» جاهزة ومتسرعة قبل «الفهم» لتدبير الشأن العام، ديموقراطياً.

«أنا» المُتلَقِّي

لعل الرسالة هي موجهة كذلك، لمن هم مثلي من القراء. فأنا من اللذين التقوا فاطمة الحاجي شخصياً، ذات انتظار قلِقٍ في مطار قرطاج التونسي، بغية التوجه إلى بنغازي للمساهمة في تنشيط لقاء ثقافي وحقوقي حول مسائل الثقافة والسلم والوجع الذي أصاب أوطاننا. طيلة ليلة الانتظار ٢٩و٣٠ ماي ٢٠١٩، تحدثنا عن وجع الفقدان، هي فقدت ابنها، وأنا فقدت ابنتي. امتدت بنا شجون الذاكرة بعيداً، فحدثتني رفيقتي عن حكايات نساء ونساء في بلادها، تبيَّن لي أن مَسَارَهُنَّ ارتبط بمصِير ووجع كل الوطن. بدوري، حدَّثتُها بما يحمل صدري من مواجع، حدثتها عن أن هنالك جرح آخر في الذاكرة الجمعية المغربية: جرح الاعتقال السياسي بصيغة المؤنث. أخبرتها عن صوت رفيقتي فاطنة البويه وحكاياتها عن أنين نساء من بلادي، لا زالت أصداء ذاكرتهن تقبع في عتمة النسيان. فكم نحتاج من الآذان لسماع تلك الأصوات... تفاءلنا، لعله بحر واسع لا حدَّ له ولا قياس. تماماً، كما هي قدرة النساء على التحمل والمواجهة. استمر الحديث بيننا مُشرَعاً حول الأسئلة الحارقة، الراهنة والأبدية... بدءً من الجروح العميقة التي وشمت ذاكراتنا الجماعية، إلى آخر أحوال وأهوال ذلك الجسد العربي المسمى ب «الربيع العربي»، الذي بلغ فيه الانهاك أقصى حدود العبث والتفاهة. بالرغم من ذلك، بتنا نحلم بسكنى العالم شاعرياً ...
وصلنا مطار بنينا الدولي لمدينة بنغازي، في الصباح الباكر. كان مرافق المطار تبدوا وكأنها تنفض غبار دمار شامل عم المكان. المطار كان في استقبالنا رجال بزي مدني، حملونا في سيارة مرسيدس إلى المدينة. من المطار وعبر كل المسافة الفاصلة، كانت البنايات المتناثرة تشي بمخلفات مواجهات مسلحة عنيفة: دمار وخراب وآثار قصف على الجدران لكن الخراب كان بارزاً أكثر عند مرورنا بحي، يبدو من خلال عمارته الفسيحة بأنه كان راقياً. لكن مظاهر الخراب التي تكسوه الآن، تبعث على كثير من الأسى والحسرة على الفقدان لحَيَوَاتِ نساءٍ وأطفال ورجال كانت تسكن هنا، تُحبُّ وتحيا. لم تكن صور المشاهد، أشباحا، مخطوفة سريعاً، كما تعكسها شاشات التلفزيونات، بل كانت صوراً وتُخفي رائحة الموت، وتجعلك تَلْمَسُ نتوءات الجراح البارزة في خراب العمران.
تبادلنا مع مرافقينا أطراف الحديث والسؤال: لماذا كل هذا الخراب؟ من المسؤول؟ أهي الثورة تأكل أبناءها؟ أم هو النظام السابق؟ أم هي مؤامرة دشَّنها القصف الأطلسي (الناتو) واستكملتها الفصائل الأصولية المستحدثة، حمايةً للمدنيين و«ثورة الربيع العربي» من بطش «الديكتاتور»؟
أمضينا ما يقارب الخمسة أيام في ليبيا، ما بين مدينتي بنغازي ودرنة: على طول الطريق الساحل المتوسطي، مررنا ذهباً وإياباً بالجبل الأخضر، وقفنا عند مواقع أثرية رومانية قديمة، حواضر واستراحات. عقدنا اللقاء في مدينة درنه، كما كان متوقعاً. ذات الأسئلة والهواجس: السلم، الأدب، العدالة، الكرامة الإنسانية. أدركنا الرحيل، والقلب يغمره الوجع. نزلنا مطار قرطاج، هنالك أودعتني نسخة من الرواية وكأنها توصيني بضرورة الانصات لحكاياتها، والبوح بها في الآفاق.
النص الروائي، كان امتداداً كان امتداداً لما شاهدته وسمعته في رحلتي. ظللت ألهث وراء مسار شخوص الرواية وأحداثها بشغف كبير. فالنص ظل يشدني، تشويقاً وقولاً وسؤالا، من بدايته إلى آخر كلماته، حيث تمكن بنجاح من أن يصيبني بعدوى الافتتان بحكاياته وبأحداثه الغُفل، بقصها البليغ على مستوى التركيب والدلالة، بصوره وسلاسة تعبيره، بجميل الرؤية وشغف الكشف والمعرفة. أما الروائية فاطمة الحاجي فقد تمكنت، بفنها وقدرتها على طرح الكثير من الأسئلة، بعيداً عن سلطة المشافهة والإسناد والأسانيد، تمكنت من تحرير فعل السرد من ذاكرته المقدسة. جعلتني ـ كقارئ ـ أقترب من النص الذي لا يَروِي إلا قصته الخاصة، وهي مجردة عن أي إسناد أو اتكاء أو محطات موثوقة، ضعيفة، أو قوية، وكأن النص أضحى يستلذُّ حكايته الخاصة، التي صار لها تاريخها الخاص، مجانباً تفاصيل حركة التاريخ العام. أما اللغة، فقد ظلت الفضاء الفسيح واللامحدود للإنجاز، تقول ما لم يُقَل وما لم يَكُن. فهي تنساب (اللغة) وكأن كلماتها كانت مطروحة على قارعة الطريق، لم تكن الكاتبة في حاجة للبحث عن كلمات جديدة لتبدع سرداً روائياً، بل، عثرت على نسق درامي وشاعري، يعيد للكلمات حيويتها وفعلها في ضميري، أظنه كذلك في ضمير كل قارئ. بكل ذلك، كانت للنص إشراقته الإبداعية المتميزة.

قصص حب تنموا في دهاليز جحيم

إنها قصص حب تشتعل، تلتهب وتنموا في ظل لمشنقة. من مشاهد احتفالية بالشنق العلني في ساحة الجامعة وفي دهاليز أروقة جحيم السلطة.. غير أنها تنتهي بعويل فاجع مُرٍّ وعزاء كربلائي حزين.
في ساحة جامعة طرابلس، تحكي سعاد مشهداً: فاجأتنا سيارة عسكرية ريحاً في سرعتها، وقفت فجأة، نزل منها رجال طوال القامة يجرون شخصاً هزيلاً وهو يصرخ: أنا برئ أنا بريء...رفعت نظري من وسط الزحام فلم أرَ إلا ساقين ترتجفان معلقتين في الهواء، توقفت الساقان عن الحركة ثم صراخ وعويل فاجع...
في هكذا مشهد احتفالي بالشنق العلني يولد حبٌّ بين سعاد وطاهر” لم أكن أبحث عن الحبّ في هذه الأجواء الغائمة داخل مسارب المشانق التي تُقام علناً حتى التقيت به (طاهر) بلا موعد ولا ترتيب...سبى فؤادي وأحسست أنني مرتبطة به منذ الأزل”. (ص ٦)” لكن علاقته بجريمة الشنق تثير مخاوفي”. (ص 15)
في مناخ تسوده رياح الوحشة التي تعصف بكل قوة على طرابلس وشوارعها ومبانيها ويغطى الغبار الأحمر المدينة البائسة، لم تعد المدينة تعرف للبهجة مكاناً، فكل من حكمها امتص رحيقها دون أن يمنحها قُبلة. (ص335) و حتى ”في نيسان الذي عادة ما يهل علينا بنسائم بهية منعشة، ورغم حلول مواسم الربيع، فالفضاء يعلوه غبار أحمر يحجب الرؤيا وترتفع الحرارة ويبدو الجو غائماً.. كيف لا نجد مكانا نجلس فيه كبقية شعوب الأرض لماذا تحاصرنا الرياح والغبار والذباب ولماذا شمسنا دائما غاضبة” (ص262) مما سعاد تتساءل، هل يمكن للأحداث التي يصنعها البشر أن تؤثر في تغيير المناخ؟ ربما؟

عندما يختنق الحب في أروقة الجحيم: المرأة/ السلطة؛ التاريخ/ الذاكرة

في هكذا مناخ، نُسجت قصص الحب من أنَّات العشاق وتَنْهِيداتهم وصرخاتهم وتشابكت مشاعر الشك والريبة والقلق والصرخات المكتومة، تحولت صرخات النساء المكتومة إلى حكاية وطن. في دهاليز الطوابق السفلية للنظام الاجتماعي والسياسي تنجذب حكايات نساء، بشكل جذري، بين حدَّي التضاد بين: البداوة / المدنية، الثورة / التسلط، الخنوع / الحرية... فكانت سعاد وأخواتها ـ في الرواية ـ عنوان حقبة عويصة من تاريخ ليبيا (الجماهيرية) والمحاصَرة من قبل أمريكا. فهن ترفضن النظام وتعملن معه في نفس الوقت. فسعاد هي الأنثى الثائرة والعاشقة والمثقفة والشاعرة، تماماً كما هي الفتاة المتصالحة مع السلطة الذكورية، من الرفيق أو العشيق إلى الزعيم في كافة أطيافه وظلاله. فلا مناص من أن تختار حبيبها وحلمها من ذات الوسط، فتبدأ معه رحلة شك وشوق ومسار محفوف بالعشب اليابس والورود.
صراخ الطابق السفلي كتابة الزمن الراهن، فهو الحاضر الموازي لحاضر السلطة والنظام، التي أضحت قبائل متشظيه حد الانفجار والاقتتال... هاذي الكتابة مختلفة إذ تَصُوغُها لغة جديدة وبضمائر نسائية، تسمح بخلق مناخات للحوار والتعدد اللغوي، وتخبر عن هذه المجتمعات المتشظية التي تنتمي إليها. فليس محض صدفة أن تتشابه الأسماء في الرواية، لكن دون أن تحاكي واقع تاريخ عام أو خاص. تتجنب الرواية تطرفين، الأول هو إغراء سماع صوت تلك الشخصيات على نحو ما هي عليه، وإغراء السعي إلى أن تختفي، تماماً.
فالنص يتقدم إلى قارئه المفترض ليس من خلال مضمونه بالدرجة الأولى، بقدر ما يفترض الإمتاع والمؤانسة في متابعة أسلوب سردياته الخاصة. كما أنه (النص الروائي) لا يقرُّ حقائقَ ولا يعتمد خطة للاحتفاظ بنص قديم من أجل تأويله أو ترقيعه بشعارات راهنة، بقدر ما يُورط القارئ في رهانات قلق السؤال تجاه المَا ـ يَحْدُثُ الآن، في ليبيا من ارتجاجات ونكبات وانسدادات، تنسحب على كل أرجاء الاسم العربي الجريح، من المحيط إلى الخليج، ومن نكبة فلسطين إلى التداعيات الكارثية لما يسمى بالربيع العربي. ففي كل منعطف تجنح بك الأحداث والكلمات إلى اقتراف عدوى السؤال عن الما ـ حدث وعن الما ـ يحدث، شمال وجنوباً، شرقاً وغرباً، فلا مستقر له فيها للزمن وللمكان. كما تصادفك مسارات ومصائر نساء ونساء... في أزمنة القبح، تارة بالإشارة صراحة إلى عائشة أو سعاد... وتارة أخرى بالتلميح خلسة كما للملكة بلقيس، في مواجهتها النبي سليمان، حتى صرخة نزار قباني، ذات قتل:
.....
يا بلقيس، لؤلؤة كريمة
فكرت: هل قتل النساء هوايةٌ عربيةٌ،
أم أننا في الأصل، محترفو جريمة؟
.......

صراخ الطابق السفلي والتاريخ

بالرغم من أن النص الروائي” صراخ الطابق السفلي” يستعمل التاريخ لتأثيث أحداثه، فهي ليست رواية تاريخية، ولا تسجل لحظة أو مساراً تاريخيا ما، بقدر ما تجنح نحو استكشاف خطاب سلطة النظام من خلال تفكيكه وتعرية علاماته الرمزية، المتسترة خلف مظاهر أطياف السلطة في علاقاتها مع مكونات المجتمع، بما فيها المرأة. بذلك نستشف أن الرواية ظلت مجاورة، فقط، للتاريخ الذي عادة ما يكتبه المنتصرون. واعتباراً للهوة السحيقة، التي تمتد جذورها بعيداً في التاريخ الانساني، بين المهيمِن والمهيمَن عليه، فإن الأنظمة السلطوية دأبت على التماهي مع أيقونة (الله) الواحد الأوحد في الديانات التوحيدية، وفي الإيديولوجيات الكليانية والإطلاقية. بذلك، تحديداً، بوعي أو بدونه، على استدامة التفاوت في ميزان القوى بين المرأة والرجل، وعلى تأبيد التهميش والاخفاء القسري للمعنى القيمي والأخلاقي لتفرد الكائن الإنساني العاقل.
إن التاريخ، إذن، بانحيازه إلى الأنظمة السلطوية استوفى أغراضه الإيديولوجية، وباستعماله جهازاً مفاهيمياً (عَالِماً) تمكن من ترتيب وتصنيف وتفسير أسباب ومنطق الأحداث البارزة (موضوعياً)، جعله يركن إلى منطقة الراحة والاطمئنان، معتقداً أنه استوفى موضوعَهُ وأنهاهُ درساً. وبالتالي كان التاريخ سنداً ومرتكزاً لكل قوة أو سلطة متوحد في ـ ذاتها.
فحتى الدورة الخلدونية كانت تنظيراً لتاريخ البشرية، وكأنه كتاب مُنتهٍ ونص متكامل، ما دام ابن خلدون قد قرأ كلَّ مستوياته وحَلَّله وشرحه حتى مَتَمِّه.

أما الرواية (صراخ الطابق السفلي) فإنها لا تحاكي الوقائع السياسية والاجتماعية في ليبيا، بقدر ما تؤكد فقط، ما قيل سابقاً أو ما يجب قوله أو حتى ما لم يُقَل. فقد تكون الرواية تشخيصاً مُحَايثاً لبعض الوقائع التاريخية الحاصلة في مسار تكَوُّنِ الدولة القومية في ليبيا الحديثة، لكن المنطق الروائي الجامعَ هو بيان لما هو لا مرئي من دلالات الظاهرة السياسية في ليبيا (الجماهيرية...)، حيث اشتبكت وتنافست وتحاربت فيه أصناف من الزعامات البدوية المحاربة والإرادات المدنية والعسكرية (الثورية) والبيروقراطية، في سياق الصراع الجيوستراتيجي بين القوى الدولية الكبرى. بهذا المعنى تصرفت الكاتبة، في النص الروائي، تجاه ذلك التاريخ والأوضاع الإنسانية المنبثقة عنه، مثل السينوغرافي الذي يرتب مشهداً تجريدياً بواسطة بضعة أشياء ضرورية للحدث. وتعاملت مع الوضع التاريخي أو المجتمعي أو السيكولوجي، ليس كمجرد ديكور أو خلفية أمامه أو خلفه، حيث تقع الحالات الإنسانية، بل هو في ذاته حالة إنسانية، أو حالة وجودية تم تكبيرها. فليس من الضروري أن تعرف تاريخ ليبيا، حتى تتمكن من تتبع الحالة الوجودية أو الإنسانية التي تحكيها الرواية.
لقد ارتدت الروائية فاطمة الحاجي، ثوب كاهنة تعجن التاريخ لتصنع منه أسطورة ولتبدع من ثناياه أحداثاً وفضاءات في لغة (القول) غير المكتمل واللامتناهي الدلالة، حيث تتفاعل حيوات، هي في الغالب شخصيات تحتل الطوابق السفلى من المجتمع ومن الجغرافيا السياسية الذي أحاط بليبيا: طرابلس والشنق في ساحة الجامعة والحصار والقصف الأمريكي وحرب تشاد والبحر والأفق والمجتمع الملقى مقبرة سيدي حامد والجبل، والمقاومة ومعركة قرقاش والهنود الحمر...

لقد استطاعت الروائية أن تتخذ من التاريخ ذريعة، بهدف الوصول إلى أمثولة درامية، تقول بأن ما يحدث ليس هو ما يجب أن يحدث، وما يحدث وَهْم، وأن التاريخ الرسمي لا يخبر ولا يكشف إلا ما يجب أن يُكْشَفَ للسلطة. لهذه العلة فالرواية” صراخ الطابق السفلي” إن كانت تستحضر التاريخ الليبي، فهي تقصد ذلك، لتسخر منه، كما اعتاد المبدعون أن يسخروا من كل أكذوبة. فالرواية حتى وإن تسترت بالتاريخ أو ادعت لنفسها الانتماء إلى هذا المارد المكابر، فلا يمكن أن تتنكر لطبيعتها القائلة، بأن الرواية لا شأن لها بالتاريخ.

في أركيولوجية الذاكرة

تكتب الروائية فاطمة الحاجي التاريخ الذي لا يكتب. كتبت ذاكرة الأفراد والفئات، نساء ورجال يوجدون على هامش كل دهاليز سلطة الدولة (القُوَوية)، بما تَمَثَّلَتْهُ من أسماء دينية أو قبلية أو أبوية... إنها ذاكرة الانسان المفرد، التي تندرج في مخاض معزول سلفاً، ولا يمكن وضعها في الترسيمة تأريخية معينة، فهي تمثل ذاكرة المسيرة الروحية للسلالة الإنسانية، شاملة. هي أمثولة روحية، تقوم في الأساس على (حيوية) الجسد المفرد. للذاكرة مشكلتها الخاصة مع التاريخ، لأن هذا الحقل المعرفي (التاريخ) لا يسهو، فقط عن الذاكرة، بل يُمْعِن في عملية المحو الدائمة للذاكرات، مما يعمق من التعارض الأنطولوجي بين إرادة التذكر وإرادة النسيان. إن للتاريخ في ذلك مآرب أخرى: يُمَكِّن التاريخ الرسمي السُّلَطَ المُتنفِّذة من تسهيل الانزياح بالجميع (كلّ الرعية) نحو الإيديولوجيا الكليانية والشمولية، في السياسية أو التاريخ أو الاجتماع، ويَحُول، بالتالي دون تَمَلُّكِ الأفراد لِمعنَى حاضرِهم ومصيرِهم.
في مقالة طريفة للمفكر والفيلسوف التونسي فتحي المسكيني يطرح فيها إشكالية الذاكرة / النسيان، من خلال مفهوم يسميه «إنسان ـ الذاكرة». فالمفهوم ظل حاضراً في سياق الانعطافات التاريخية الأساسية، التي حدثت في تاريخ المعرفة البشرية. فالذاكرة تشكل اليوم في اللغات الحية الكبرى فكرة الإنسانية، وتوفر لها مصادر التشخص والتَذَوُّت و«التهوِّي» الأساسية.
يحيل فتحي المسكيني على مصطلح ليثي (Léthé) في الميثولوجيا اليونانية حيث يتم الحديث عن نهر في العالم السفلي، من شرب منه فقد ذاكرته. يقابله نهر يُدعى (Mnemosyne) من شرب منه عادت إليه ذاكرته وصار عليماً بكل شيء.
بناءً على هذا التمييز يقوم دانتي (١٢٦٥ ـ ١٣٢١) في الكوميديا الإلهية برحلة شاعرية إلى الآخرة، محدداً مسار الانسان المؤمن التوال إلى نيل جنة الفردوس. وهو ذات الدور الذي يلجأ إليه الموتى، أملاً في أن تعود ذاكرتهم إلى الوراء، إلى زمن الحياة، عبر ثلاثة عناوين، تعني على التوالي: تذكر أهوال الجحيم (Memoria) وباستعمال الحاضر للتوبة. وبعدها، اكتساب الفضائل من خلال (Intelligencia). وأخيراً السعي إلى جنة الفردوس (Providencia).
إن الذاكرة، هنا، تؤدي وظيفة ملكة تحويل النفس من الغفلة إلى الصحوة. كما أن إنسان ـ الذاكرة كما تصوره دانتي، ومعه فن الذاكرة في الدين المسيحي الرسمي، كما في كل الديانات التوحيدية، ينتهي به المطاف إلى فن التوبة. فأقبح عقاب للنفس البشرية هو هلاك الذاكرة ومحو قدرتها على التذكر.
سبق لأبي العلاء المعري ، في رسالة الغفران أن قام هو الآخر بسفر أخروي متميز. بالفعل، ستمثل شخصية ابن القارح في رسالة الغفران إنسان ـ الذاكرة. لكن، بدل غاية التوبة، سيبدو ابن القارح محاوراً أهل الجحيم، ليُعِيد ذاكرتَهم إلى الوراء، بالسؤال عن الأدب والأدباء، ساخراً وداعياً إلى نسيان أهوال الجحيم، باستعمال لذة الحديث عن روائع الأدب. وكأن درس المعري يقول أن الشيء الوحيد الذي سَيَخْسره الناس يوم القيامة هو الأدب.

بالتأكيد أن وِجهةَ إنسان ـ الذاكرة كما تصوره دانتي والمعري، تحولت من الآخرة إلى التاريخ البشري، بعد أن أدخل إنسان ـ المنهج (بفعل الحداثة الغربية) تحويلاً جذرياً بأعلى جهاز التذكر. أي نَقَلهُ من صناعة التذكر الأخروي ـ باعتباره نسياناً. والنسيان هو الخطيئة الأصلية لدى التوحيديين، بعامة ـ إلى فن النسيان ـ المنهجي، أي لكل ما يتعارض استذكاره مع قدرات الانسان الأرضية على معرفة نفسه ومحيطه..

صراخ الطابق السفلي: استعادة جذرية للذاكرة

«صراخ الطابق السفلي» هي استعادة جذرية لأصداء ذاكرة نساء: سعاد ـ عائشة ـ كريستينا ـ سليمة مقوس ـ بلقيس، ملكة سبأ ـ هيام ـ الشاعرة ريتاجو وامرأة قبائل (المايا) الجميلة ـ ونساء أخريات وُجِدْنَ أو لم يُولدْنَ بعد.
بالنظر إلى ترسيمة فتحي المسكيني حول فن الذاكرة، والتي تفيد أن الانعطاف الحداثوي، قد دشن تحويلاً جذرياً بأعلى جهاز التذكر، عندما نَقَلهُ من صناعة التذكر الأخروي إلى فن النسيان ـ المنهجي، في المعارف والآداب، فيصح التساؤل: هل يجب تذكر ضحايا من النساء والرجال في ليبيا (الجماهيرية الثورية)، غمرتهم جرائم الدولة والمجتمع ضداً على إنسانيتهم وكرامتهم؟ أم يحق النسيان، من أجل المستقبل؟
ينسحب التساؤل عن واجب الذاكرة / الحق في النسيان، بخصوص الجرائم ضد الإنسانية وضحايا الاستعباد والإبادة الجماعية للشعوب الأصلية في أمريكا وفي كل الدنيا؟

تستعيدُ الكاتبة لعبةَ الذاكرة والنسيان على مدار كل فصول وأبواب الرواية، كأنها تنحاز إلى واجب الذ توحي تفاصيل الأحداث والسرود بأصداء ذاكرات نسائية منسية أو لا مرئية، وكأنها نجوم مضيئة. فبالرغم من أن مصطلح (الذاكرة) ظل مشحوناً بذاتية مفرطة، لكنها تبقى أكثر صدقاً وتعبيراً عن كينونة الانسان. كذلك كان (القول) الفردي لسعاد وعائشة وهيام وسليمة وريتاجو ونساء ونساء... قابلاً للإنجاز، المستمر واللامحدود، حيث مكَّنت لغة القَول والنطق والبوح في أحاديث وسجالات من إبداع ما لم يُقَل وما لم يَكُن ممكن البروز. أما السرد الروائي، فقد اعتمد الكلمات المطروحة على قارعة الطريق، وإنما بحثت عن نسق سردي يعيد للكلمات المتواجدة حيويتها ووقعها في ضمير القارئ ووجدانه، بالرغم من فصول الشجن والوجع وأصداء الخيبات الممتدة في المسارات.
عندما تشتد السقطات والخيبات، تُدخل الكاتبة المنهج الذاتي والاخلاقي في استكشاف قارة الذاكرة، والرواية لا تخرج عن المنهج الروائي بل تحاول ان يجعل من فصول الرواية ما يشبه القصص القصيرة التي يربطها متن حكائي واحد: هو رحلة في الذاكرة.

سعاد ...

في كل دروب ومنعطفات رواية الأحداث، تستعيد الذاكرة حيويتها وسخريتها مع سعاد، لتفتش في أركيولوجية الذاكرة عن الترسبات السفلية التي أحدثتها الأقدار. هي شبيهة بالآلهة السومرية (الأنثوية) التي كانت تسكن في الأعماق وتحت الماء. لكن، ومن سخرية الأقدار، أن يعود «الإله أريس» ـ هو إله الحرب، ابن زيوس وهيرا، يُشار إليه باعتباره إلهاً أولمبياً للحرب، والشجاعة، والوحشيَّة العمياء، والغضب، والمجازر الدمويَّة ـ ليدق طبول الحرب في هذه المدينة الغارقة في سبات عميق، فيقصف «ريغان» الأرض انتقاماً لقتلى الملهى الليلي في برلين. عشرات الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوي انفجار هائل، وساد المكان ظلام تام... ومن سخافة القدر كذلك أن يداهم الجارة خديجة المخاض في هذه الظروف الاستثنائية. (ص ٣٢٧)
قالت سعاد: «أناوله (طاهر) علبة سجائر فيسألني ما هذا؟ أجيبه: إنها مجرة هدية ستذكرني بها: كل الذي كان بيننا دخان، مجرد علبة دخان نفثتها في وجهي، كنت أسلمك آخر الهدايا وأكتم في فؤادي كل وجع الدنيا وأنت تمتص دخانك الذي تتبعني خيوطه الواهية. كنت أريد ردودك في لحظات احتضار الحب، هل ستطلب وقتاً إضافياً لمواصلة اللعب أم ستقف رافعاً راية الهزيمة وتجر خطى الخيبات إلى خارج الملعب لتنتحب على مدرج الهزيمة؟ لم أكن أعلم من منا كان يسير نحو الحبل أنا زم أنت؟ أم كلانا؟ ربما لا يموت المشنوق رغم شنقه؟ كنت غير متأكدة من الحكم هل هو شنق حتى الموت أم هو شنق فقط؟ ما أكثر وجع اللحظة حين تكون أنت الكاسب والخاسر في الوقت نفسه. نظرت لي نظرة مغطاة بدخان سجائرك، وكانت عيناي مغطتان بالدخان الكثيف المتصاعد من حرائق قلبي وأنت تطلق الحكم وتصرخ بالشنق حتى الموت إذن جاءت «حتى» لتضع الحد الفاصل بيننا. أموت بحكم منك ومن «حتى». مرعبة لحظة احتضار من نحب، افترقنا مختنقين نبحث عن مخرج من الدخان، يموت كل هذا الحب اختناقاً، ومختنقة بدخان حرائقي. أخذت سيارتي واتجهت دون إشارة أو دليل إلى وجهتي القادمة».

تتعدد الحكايات، لتلامس أسئلة الوجود والقيم والهوية الإنسانية. تحكي قصة فاترا، المرأة الإيطالية التي هربت من زوجها الذي أدمن الشراب بعد انهزام إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، وانتقم من هزيمة بلاده بضرب زوجته، التي لا زالت تردد أغنية شبابها «تي آمو» بلغتها الإيطالية... و«هيام» التي ضاعت صرخاتها في فيافي العدم ولن يثأر أحد للظلم الذي لحقها من ابن أحد المسؤولين الكبار الذي ساومها في كرامتها وجسدها، فرفضته. لا أحد يكرم المغتصبات ولا الضحايا عبر التاريخ، فالتاريخ يكرم المحاربين الرجال فقط، دون النساء. إن الحضور الباهي ل«سليمة مقوس» في «معركة قرقاش»، ألقيَ به في بحر النسيان. (ص: ٢٦٤ ـ ٢٦٥).
تفتش سعاد في ترسبات الذاكرة البعيدة، فتعثر على اسم بلقيس، ملكة سبأ ، وتقول مشاغبة طاهر:
ـ سأعينك وزيراً أولاً في وزارتي التي سأشكلها قريباً فلم تعد أحلام النساء ترفاً في الوقت الحاضر، إن لنا في تراثنا نماذج واضحة، هل تذكر شجرة الدر، ها أنا أنقب عن التراث كما تريد أنتَ، أليست بلقيس هي التي حاورت الملك النبي سليمان وأدهشته بسياستها؟
ـ قلت سعاد: أنا أعرف بلقيس أكثر، إنها أكثر مهارة في شؤون العلاقات، ألم تبعث لسليمان بهدايا وبخور وأعطت درساً في المعاملة الدبلوماسية النسائية منذ آلاف السنين؟ ها أنا أستشهد بتراثنا الجميل
ـ ولكن الهدهد وسليمان هزماها.
تدفن ألم انتظارها في القراءة وأحياناً في جلسات التسبيح مع والدها، فتنتشي روحها بأشعار محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي (ص: ١٩١)
تتوجه سعاد إلى الله، فتطوف بكل المساجد وتزور أضرحة أوليائه الله (سيدي حامد) لتطلب المدد، وكلهم أعادوها إليه (الله)، لأن علة روحها، استعصت على كراماتهم وقالوا لها لا يشفيها إلا هو. توسلت إلى الله: ابعث لي بإشارة تطهرني من براثن الشك وتغدق عليَّ اليقين. إنك أنت اليقين. آمين.

عائشة...

تلتقي سعاد بعائشة من أجل تسهيل طلب قرض لطَاهِر، حتى يتمكن من تأمين حلم الزواج بسعاد. عائشة صديقة الصبا وهي الآن تحتل مكانة مرموقة في المؤسسة البنكية المعنية: «أغلقت عائشة باب مكتبها وفتحنا قلبينا على مصراعيهما بلا حدود. امتدت جلسة البوح لساعات طوال ونحن نكتشف أسرار الواقع والكون والماضي والحاضر ...» (ص ٢٣٤) أنهت عائشة قصتها وهي مذهولة وسط دوامة عاصفة لا تتوقف ... اعتصرتها كأنها تريد أن تُخرج من جسدها كل ألم السنين الذي سكنتها.

أما عائشة، فمن حب وحلم جميل لآدم إلى أنين، أضحى ظلها الملازم، بعد أن أُلقيَ بها في دهاليز سلطان الاغتصاب اليومي من قبل رئيسها، المسؤول الرفيع في نظام الدولة، الذي لا يخفي شذوذه الجنسي المرضي.

فبينما كان آدم جريحاً ـ أسيراً، في حرب التشاد، يبكي جرحه ومهانة الوطن ويناجي حبيبته، كانت عائشة أسيرة السلطان. في عزاء كربلائي حزين. قالت عائشة وهي تغالب دمع القلب: أفقت يا سعاد على حبي لهذا الكون دون سبب رفضت لقاء المقابر ولقاء الأقارب أعطيت فسحة للرياح العليا أن تجدِّد هواء بيتنا الذي لا يشبه البيوت وتَجدُّد راكد المياه كنت أعرف أن هذه البقعة ليس لها مع الحب موعداً ولكنني كنت أبحث عن صدفة مثمرة.... بداية، كانت قصة الحب الذي جمعني بآدم مباركة، هي نيران الشوق الحارقة به. تلا عليَّ تعويذة العشق ودثرني بدثار السحر المقدس... جمعتني به نقاشات حول الهوية والدين والأخلاق والثورة والقيادة في العالم الثالث مقدمة ابن خلدون، الأمير، مكيافيلي، ثروة القرامطة، ديوان شعر الشعراء الصعاليك، مناجاة البحر والأرض...

لكن، «الإله أريس» سيظل جاثماً على القلوب. آدم يبعث برسائل العشق واللهفة إلى حبيبته عائشة، مشفوعة بأخبار عن الحرب الليبية في تشاد. تكبَّدت القوات العسكرية الليبية هزيمة نكراء، خلافاً لنشرات الأخبار الرسمية التي كانت تعلن الأخبار الكاذبة. يقول آدم: انسحبنا بكينا هزائمنا النكراء، مخلفين وراءنا العديد من القتلى الشهداء والعديد من الأسرى والجرحى المأسورين، أنا واحد منهم. بالإضافة إلى كل أسلحتنا التي تقدر بالملايين إن لم يكن أكثر. (الصفحة ٣٣٦ـ ٣٩٤)

جميعهن كنَّ يبكين: يا بلادي سال الدم العذري على الوشاح، فاعلني الحداد يا ربوعي وليصدح الجميع بالنواح، يا بلادي تمشي خرافاً إلى المذبحة.

في حضرة الهنود الحمر

في مشاهد جمعت سعاد وحازم بوفد أجنبي من الهنود الحمر، رفقة كريستينا الشقراء، تشاكلت الأحاديث حول الهوية، التراث، الشعوب الأصلية، العربية الأمازيغية والهنود الحمر... فبينما كان الهندي، المسكون بالفواجع بشعبه ووطنه، كان يسأل عن تاريخ هذا المكان والقبائل والعادات الأصلية ـ القديمة، التي كانت تسكن الجبال، هنا، في ليبيا؟

احتارت سعاد في الإجابة عن كل الأسئلة. «بحثت في خزانة ذاكرتها فلم تجد غير تلك الأطلال والمباني الرومانية القديمة، التي لا زالت آثارها شاهدة على مرور قديم، وبعض من الصوامع والمساجد التي تعني بعض عناصر الهوية المتميزة. لم تجد سعاد، وهي في حضرة الوفد الهندي، بداً من التذكير، بما تعَودَته في الكتب المدرسية، بأن أصول البربر (الأمازيغ) تعود إلى بلاد العرب، وأن الإيطاليين سرقوا أرواح أجدادنا وأسسوا أول المعتقلات في العالم. أما حازم، الصوت الأمازيغي الذي كان قلبه شغوفاً بالهجرة إلى الشمال بحثاً عن حريَّته، فكان يسترق النظر إلي أسرار الجمال الجالس على كرسي قبالته (كريستينا) الشقراء. لكنه لم يتمالك نفسه وهو يسترق السمع إلى قول سعاد بأن أصول البربر (الأمازيغ) تعود إلى بلاد العرب، بأن تغير وجهه، فجأة، لتعلوه حمرة واضحة، وهو يصرخ في وجهها: كيف تزيفون التاريخ بكل بساطة؟ وتمسحون جذورنا لتضعوا الجذور التي تناسب السلطة، إنه منتهى القمع والظلم!؟ «احتد النقاش بيننا باللغة العربية فخيم الصمت على ضيوفنا. ولتلطيف حدة النقاش، نزع الجميع إلى خلاصة دبلوماسية: أن المال هو سيد الكون. فالرأسمالية المتوحشة هي الإله الأخير. مالت سعاد على حازم فقالت: إننا جئنا لنُعَرِّف الضيوف إنجازات بلادنا ومنجزات الثورة، فانحرفنا بالحديث إلى مواضع قد تدخلنا السجن. (ص ٨٢ـ٨٣)

امتدت إيحاءات الذاكرة إذن، لتلامس، كذلك، أسئلة الوجود والقيم والهوية الإنسانية، كما في المديات التاريخية الواسعة، منذ «اكتشاف أمريكا» سنة ١٤٩٢، مروراً بفظاعة الإبادة الجماعية ل«الهنود الحمر»، وتهجير الأفارقة عبيداً، للعمل في الحقول الشاسعة.. مروراً بكل أشكال المقاومة للاستعمار والاستيطان، حتى الدمار الشامل الذي شمل الغرب ذاته في الحرب العالميتين وبعده الخراب المُعَمَّمِ، بدءً من البوابة العربية، العراق. حتى، فواجع «الخريف العربي» .

تحيلنا الحكايات إلى واجب الذاكرة، وإن بعُدَت في الزمان أو المكان. فهي ليست خاضعة لترسيمة تاريخية معينة، بقدر ما تخاطب الضمير الإنساني، من خلال إحداثيات سؤال البدايات... فالذاكرة تشكل اليوم فكرة الإنسانية وتوفر لها مصادر التشخص والتَّذَوُت و«التَّهَوِي» الأساسية للأنا البشري الحالي في كل ثقافة، وذلك مهما كان موقفنا الثقافي من هذه الواقعة اللغوية الكوكبية . تمتد الذاكرة إذن في كل الآفاق. تجعلنا ذاكرة نساء صرخات الطابق السفلي، نعانق حكايات كريستيا وريتاجو وسيدة قبائل المايا:

تحكي كريستينا عن رحلتها المقدسة رفقة وليم بحثاً عن الإله الأخير، فتستعيد ذاكرة قصص البدايات من آدم وحواء ونوح ...فتنشد قصيدة الشاعرة الهندية الأمريكية «ريتا جو» على إيقاع ناي:
...
ما الذي ستتكلمين عنه، نسج السلال أم ماذا؟
رجل هزيل، عالم هزيل، أنا هندية بإصرار.
...

ويحكي تزفيان تودوروف حكاية سيدة جميلة، فاتنة، من قبائل (المايا). أهداها كتابه «فتح أمريكا». حكايتها التي لا تتجاوز بضعة أسطر: «خلال الحرب، أسر القائد العسكري الاسباني (ألونسو لوبيث ذي أبيلا) امرأة هندية شابة، حسناء وفاتنة. وكانت قد وعدت زوجها، الخائف من أن يُقتلَ في الحرب، بأنها لن تكون لأحد سواه. وهكذا فإن أية محاولة للإقناع ما كان لها أن تنجح في ثنيها عن الرحيل عن الحياة بدلاً من أن تسمح لنفسها بأن يُدنِّس جسدها رجل آخر. ولهذا السبب ألقوا بها إلى الكلاب لتلتهمها» .
يعتبر تودوروف أن القصة هي أمثولة تُكثف أحد الأشكال المتطرفة للعلاقة مع الآخر: الغرب الأطلسي/ العالم الجديد (أمريكا)، الرجل/ المرأة. فزوجها، التي هي «آخرَه الداخلي» لا يدع لها بالفعل أية إمكانية لتأكيد نفسها كذات حرة. فالزوج لخوفه من أن يُقتل في الحرب، يريد تحاشي الخطر بحرمان الزوجة (آخَرَهُ) من إرادتها. فحتى بعد موته، يجب على زوجته أن تظل منتمية إليه. فالحرب لن تكون غير حكاية الرجال. فحتى عندما يظهر الفاتح الاسباني، فإن هذه المرأة لا تكون أكثر من موقع صدام رغبات وإرادات رجلين: قتل الرجال واغتصاب النساء. فقتل الرجال واغتصاب النساء يجسدان برهان امساك «الرجل» بزمام السلطة. وما على الزوجة إلا أن تختار طاعة زوجها وأعراف مجتمعها الخاص. وهي تكرس كل ما تبقى لها من إرادة شخصية للدفاع عن العنف الذي كانت هدفاً له...إنها لا تُغتصب، كما يحدث لامرأة اسبانية في زمن الحرب.
فكم هي متشابهة مصائر عائشة وهيام وسليمة وسعاد و ريتاجو وسيدة قبائل المايا ونساء ونساء...
إنها المفارقات القصوى، حيث تتشابك دلالات كل المقولات الوجودية: الذاكرة / النسيان؛ الرجل/ المرأة؛ الأنا / الآخر؛ الحرية / الاستبداد؛ الثورة / الاستكانة؛ الضحية / الجلاد... هي ليست مناقضة سياسية وأخلاقية وحسب، بل هي مناقَضَة أنطولوجية عارية، مثلما هي عارية في روايات كافكا. والدلالة شديدة التعقيد والتركيب. إنه اللامعقول الخالص، الذي لا حصر لأسمائه وصفاته، تماماً، كما يتجلى في الما ـ يحدث الآن، في ليبيا الحديثة، حيث غياب أي منظومة قيم مستقرة ومتعارف عليها، قادرة للتصدي لذلك اللامعقول.
استطاعت الروائية فاطمة الحاجي، من خلال رواية صراخ الطابق السفلي أن تتسلل، عبر مسمات الوجود الإنساني، لتقول قولاً نسائياً وتطرح أفقاً لاستكشاف واسماع جزء من الذات العربية، التي طالها التغييب والنفي القسري... ولعلها بذلك، تمكنت، أيضاً، أن تبلورَ وعيَ الاختلاف الذي يُغني الرواية العربية والعالمية، عن طريق تأصيل الحوارية وتعددية أصوات الذوات.