مجتمعات تذبح الإناث



حسين علي
2022 / 7 / 2

ليس بعيدًا صوت عميد الأدب العربي طه حسين حين وصف على لسان «آمنة» بطلة روايته «دعاء الكروان» مصرع شقيقتها «هنادي» على يد خالها:
«إنما هى صيحة منكرة مروعة تنبعث في الجو، وجسم ثقيل متهالك يسقط على الأرض، وإذا أختي قد صُرِعَت، وإذا خالنا هو الذي صرعها لأنه أغمد خنجره في صدرها. ونحن عاكفتان [أنا وأمي] على هذا الجسم الصريع يضطرب ويتخبط ويتفجر منه الدم في قوة، كما يتفجر الماء من الينبوع. ونحن عاكفتان في ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئًا ولم نقدر شيئًا ولم ننتظر شيئًا، وإنما أُخِذَّنا على غُرة أخذًا، واختطفت هنادي من بيننا اختطافًا، وجسمها يضطرب ويتخبط ودمها يتفجر ولسانها يضطرب ببعض الحديث في فمها، ثم يهدأ الجسم المضطرب، ويسكن اللسان المتحرك، ويخف تفجر الدم، ويمتلئ الجو حولنا بهذا السكون الأليم سكون الموت» (طه حسين، دعاء الكروان، دار المعارف، الطبعة الخامسة عشرة، القاهرة 1976، ص ص 64 – 65).

ألا يُذَّكِرك – عزيزي القارئ – هذا الوصف لوقائع هذه الجريمة البشعة بوقائع مثيلتها التي لا تقل عنها بشاعة وراحت ضحيتها منذ أيام قليلة فتاة المنصورة «نيرة أشرف» التي ذُبِحَت في وضح النهار على يد صديق لها؟! وهل غاب عن بالنا لحظة وأد البنات في العصر الجاهلي؟ وإذا كان الإسلام استنكر تلك العادات والتقاليد الجاهلية وحرَّمها؛ إلا أن الفكر الديني المتحجر الذي مازال يروج له رجال الدين الكسبة قد رسخ مقولة: «النساء ناقصات عقل ودين»، كما راج في مجتمعاتنا التي يسودها الفكر المعتم والنظر إلى المرأة لا بوصفها إنسانًا مثلها مثل الرجل؛ بل بوصفها مصدرًا للغواية والفتنة، وأنها هى التي أخرجت آدم من الجنة بغوايته الأكل من الشجرة الحرام.

إن المرأة في رأى «عباس محمود العقاد» مثلاً ما هى إلا «حيوان» مثير لغرائز الرجل (هذا أعظم ما تمتلكه المرأة في نظره من مواهب وملكات) مثلها مثل أنثى أى قط أو كلب. إذا نزلت أنثى الكلب الشارع التف حولها عدد كبير من ذكور الكلاب يرغب كل واحد منهم في مضاجعتها، ويفوز بها الكلب الأقوى والأشرس. منظر مألوف نشاهده في شوارعنا وحاراتنا!! لكن المرأة ليست حيوانًا أيها الكاتب الكبير!!.

إن كراهية «العقاد» للمرأة تفوق الوصف. ولو أن هذه الكراهية جاءت من رجل من عامة الناس لهان الأمر إلى حد ما. أما أن تأتى هذه الكراهية وتلك الاتهامات للمرأة من جانب شخصية بحجم «العقاد»، فإن الأمر يستأهل أن نقف عنده متأملين فاحصين وناقدين أيضًا. إن «العقاد» ليس نكرة بين الناس، بل هو «الكاتب الإسلامى الكبير»، صاحب القلم الحر، إنه مؤلف «العبقريات»، وصاحب كتاب «التفكير فريضة إسلامية». المرأة ليست حيوانًا يا سادة!! المرأة ليست كتلة من الجنس مثيرة لشهوة الرجل، وبالتالى؛ فإن مرضى العقول- ومنهم «العقاد» بطبيعة الحال- أولئك الذين لا يرون في المرأة سوى أنها كتلة من الجنس مثيرة لشهوة الرجل، ينادون ليل نهار بضرورة إخفاء كل معالم جسد المرأة وتحويلها إلى شبح أو مجرد مسخ. ولا بأس من ذبحها إذا خرجت عن الدور المرسوم لها!! إن تصور المرأة على هذا النحو لا ينطوى على إهانة لها وحدها، بل يحمل هذا التصور إهانة للرجل واحتقارًا له بوصفه حيوانًا يثار لمجرد رؤية المرأة، دون رادع من عقل أو قيم أو مبادئ يلجم شهوته!

إن مَنْ ينادى بأنَّ «البيت» هو المكان الذى خُلِقَت من أجله المرأة، إنما يطالب بأن يقتصر دور المرأة في هذه الحياة على الدور البيولوجى الشهوي، ويصبح محور حياتها علاقتها بجسمها من حيث هو موضوع رغبة الرجل، في الوقت الذى يصبح محور حياة الرجل علاقته بعمله، وبالتالى يتحول اهتمامه بجسمه إلى النظر إليه من حيث هو وسيلته للقيام بدور إنتاجي، لذلك لا يتسم جسم الرجل بذلك القدر من الشهوية الذى يتسم به جسم المرأة، بعبارة أخرى يحقق الرجل شعوره بذاته من خلال عمله، وتحقق المرأة شعورها بذاتها من خلال جسدها، وبخاصةٍ مفاتن هذا الجسد. وفى واقع الأمر، يرجع هذا الفارق إلى عزلة المرأة عن مجال العمل طوال حقب تاريخية كاملة. حرص أصحاب الفكر الديني إلى ترسيخ الدور القديم للمرأة من حيث هى دمية تتزين لتأسر الرجل وتخلب عقله بمفاتنها الجسمية.

نحن من جانبنا نرفض النظر إلى المرأة بوصفها مجرد جسد أو دمية، تتزين لإرضاء الرجل، وإشباع غرائزه. فالمرأة إنسان- مثلها مثل الرجل- لها كلُّ الاحترام، لها عقلٌ وفكرٌ ومشاعر، لها مقدرة وإرادة، يجب أن نحترم فيها هذه السمات والخصال كما نحترمها ونقدرها في الرجل. إنَّ المرأة ليست مجرد كائن جنسي، بل هى كائن إنسانى كامل له مطالبه الإنسانية الاجتماعية والذهنية، بجانب مطالبه الجنسية المشروعة، إنَّ المجتمعات السليمة تضع الجنس في موضعه الصحيح من حياة المرأة، بحيث لا يطغى على بقية جوانب حياتها، ودون أن يبتلع حياتها كلها. ولا بدَّ من أنْ نشير إلى حرص أصحاب التيار الدينى على استغلال ظاهرة تحجب المرأة استغلالًا سياسيًا، بوصف هذه الظاهرة معيارًا لقوة هذا التيار وتغلغله في المجتمع، ومن ثمَّ حرص أصحاب هذا التيار على استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتضخيم هذه الظاهرة، والعمل على استفحالها في المجتمع.

نعتقد أنَّه إذا كانت المجتمعات المنغلقة والمتخلفة التى تتسربل برداء الدين - والدين منها براء - تجرد المرأة من إنسانيتها، وتردها إلى مستوى بيولوجى بدائي، مستخدمة في تحقيق ذلك مختلف أشكال القهر والتخويف والوعيد والتهديد بحيث يستقر في وجدان المرأة أنها مجرد جسد يجب إحكام الرقابة وفرض القيود عليه.
بقى أن نقول إننا في حاجة إلى نشر الثقافة الجنسية بين أبنائنا (ذكورًا وإناثًا)، على أن يبدأ هذا التثقيف من عمر مبكر وقبل بلوغ سن العاشرة، فالملاحظ أن الأطفال اليوم يدخلون مرحلة البلوغ الجسدى منذ عمر مبكر، ولكن هذا البلوغ لا يصاحبه بلوغ عاطفي. إن التوعية الجنسية يجب أن تبدأ على يد العائلة والمدرسة، من خلال حديث صريح وعلمى مع الأطفال عن أمور تتعلق بالجنس، وتنبيههم إلى ظاهرة الاعتداء الجنسي. الأهم من ذلك كله يجب على الأب والأم ومؤسسات المجتمع كافة مساندة الطفل والوقوف بجانبه دون تردد حال تعرضه لأى اعتداء جنسي. إن الحرية المفرطة مثلها مثل الكبت الشديد، كلاهما يؤدى إلى شرور كثيرة، أبرزها اضطراب الإنسان وشذوذ مسلكه. الوسطية والاعتدال هما السبيل الأقوم.