(البغاء السري في بغداد)



نساء الانتفاضة
2022 / 7 / 13

(البغاء هو حدوث عملية جنسية بين رجل وامرأة لتلبية حاجة الرجل الجنسية، ولتلبية حاجة المرأة الاقتصادية) نوال السعداوي.

هو عنوان عمل أكاديمي صدر عام 1974 والذي طبع ككتاب لمؤلفه أستاذ علم الاجتماع الراحل الدكتور "كريم محمد حمزة" 1943-2016، وهو بحث مطول ومفصل تجاوزت صفحاته الخمسمئة، لم يغفل مؤلفه شيئا حول موضوعه، ففهرست محتويات الكتاب تشير بوضوح كبير الى الجهد الذي بذله من اجل توضيح الصورة وبكل ابعادها حول ظاهرة البغاء في بغداد.

يوضح المؤلف من خلال مقدمته من ان "العلاقات الجنسية في مجتمعنا محاطة بستار كثيف من السرية، تقف حائلا دون جعلها حقلا للاستقصاء العلمي المنظم"، وهو ما يصعب ويعقد عملية البحث في هذا الموضوع؛ وللتاريخ فأن دور البغاء في بغداد كانت معروفة، فعند احتلال بريطانيا العراق أصبحت هذه الدور علنية، وقد زود جميع من يمارسها ب "هوية"، أي ان هناك "إجازة" عمل، وكان يجري لهن الفحص الطبي في مواعيد محددة، وكانت محلتي "كوك نزر والكلچية" المقابلة لساحة الميدان، هي المحلات الوحيدة التي تتواجد بها هذه الدور، حتى ان هناك احصائيات لعدد زوار هذه الدور والأجور وساعات العمل وغيرها من الاحصائيات؛ يشير المؤلف ان عملية الغاء دور البغاء وتهديم المبغى العام في منتصف الخمسينات "قد أدى الى تشتت جغرافي لمناطق الاتصال والممارسة معا".

يذكر المؤلف ما واجهه من صعوبات كثيرة عند بحثه في موضوع كهذا، خصوصا وانه استخدم منهج اخذ العينات والمقابلة، وهو ما يعني وبالضرورة ان يذهب الى الأماكن التي تنتشر بها دور البغاء، واختيار عينات محددة واجراء المقابلات مع ذوي الشأن، وهذا يشكل مخاطرة كبيرة، ف"الشرطة كانت تشن بين آونة وأخرى حملات على هذه الدور"؛ والصعوبة الأخرى تأتي كما يشير المؤلف من "ان أجهزة الإحصاء الجنائي في العراق قاصرة الى حد كبير بحيث ان الأرقام التي توفرها لا تصور درجة انتشار الفعل بدرجة موثوق بها"، مما يترك خللا واضحا على مسار البحث.

قسم المؤلف بحثه الى ثلاثة اقسام بأربعة عشر فصلا، يبدأ القسم الأول منه بتعريف مفهوم البغاء، ثم الى الدراسات السابقة في هذا الموضوع ومنهجية وأدوات البحث؛ اما القسم الثاني فيذكر فيه اعمار الممارسات لهذه المهنة والمستوى التعليمي وواقع الحياة الاسرية "الاجتماعية والاقتصادية"؛ اما في القسم الثالث فيذكر المؤلف مناطق دور البغاء، وطريقة الاتصال بالعملاء.

انتقل البغاء في بغداد من الدور العلني الى الدور السري ثم انتقل الى الدور القسري، فأيام محلتي "كوك نزر والكلچية" العلنيتين والمراقبتين من قبل السلطة انتهت بمجيء الجمهورية، لينتقل البغاء الى الدور السري، ولتنتشر دور البغاء في أماكن عديدة، يصعب السيطرة عليها، كانت تدار وبشكل سري من قبل أجهزة النظام السابق؛ ثم لينتقل بعد احداث 2003 الى الدور القسري، فعمليات الاتجار بالمرأة أضحت شائعة جدا، وهناك أماكن معروفة في بغداد تعد بؤرة لتنظيم عمليات الاتجار هذه، تشرف عليها الميليشيات والعصابات والمافيات.

في قصيدة المبغى للشاعر بدر شاكر السياب يذكر "بغداد مبغى كبير" ثم يقول في شطر آخر "بغداد كابوس"، فالمبغى هو كابوس، ففيه تدار أقذر عمليات المتاجرة بالنساء، هناك تجري عملية اقتصادية تامة "عرض-طلب"، يفقد فيها الانسان انسانيته، ويعامل على انه أداة جنس فقط.

تذكر احدى الانثربولوجيات ان " تسويق الجنس وتسليعه والاشكال المختلفة لتمثيله لا قوته الشرائية فحسب، يمثل أحد الجوانب المميزة لعملية تحويله الى نشاط تجاري"، وهذا ما كان غائبا في بحث الدكتور "كريم محمد حمزة"، فهو لم ينظر الى دور البغاء على انها أحد أنشطة القوى المسيطرة، فهي تدر أرباحا كبيرة؛ تشير تقارير عديدة الى ان العبودية الجنسية هي الأكثر ربحا، اذ انها تدر 36 ألف دولار سنويا عن كل مستعبد-ة، وأن النساء تمثل 66% من ضحايا الاتجار بالبشر؛ يكتب الاقتصادي الإنكليزي ادم سميث "ان اعلى الأجور تكون في المهن الأقل استحسانا".

ذهبت مناطق ""كوك نزر والكلچية" وظهرت مناطق "البتاوين والطوايل"، الى جانبها ظهرت الفنادق والملاهي والمواخير ودور المساج والكافيهات والبيوت السرية المنتشرة في انحاء بغداد، توسع عمل المافيات وتجار هذه المهنة، وازدهرت أعمالهم، في عصر اللا قانون واللا سلطة، في عصر حكم العصابات والميليشيات والمافيات.

تبقى مؤسسة "الدعارة" وبغض النظر عن كل تعريفاتها هي المؤسسة التي لا يمكن لأي نمط اجتماعي وجد ان يتخلص منها او يفكر بإلغائها او نفيها، لأن ذلك من شأنه ان يقوض ذلك النظام، على اعتبار ان "الدعارة" هي واحدة من مقومات او أسس وجود وبقاء وديمومة هذه الأنظمة، والتي دائما ما تجد تشريعات وتسن قوانين تضفي صبغة شرعية على اعمال "الدعارة".

ان عمل الدكتور الراحل "كريم محمد حمزة" من الاعمال الرصينة والغنية في مادتها، فقد بحث الظاهرة من اغلب وجوهها، دخل ازقة و"داربين" تلك المناطق، والتقى بالنساء والسماسرة، والتقى أيضا بزوار تلك الاماكن، وبحث عن واقعهم المعيشي والاسري، لقد بذل جهدا استثنائيا وشاقا، فعملية البحث في موضوع يعده القانون "جريمة" هو مخاطرة، الا انه استطاع وبشكل جدي من اكمال بحثه، والذي خرج الينا ككتاب متفرد في موضوعه، فللراحل الدكتور "كريم محمد حمزة" خلود الذكر على بحثه القيم هذا.
#طارق_فتحي