أمي، الأم المقدسة، الأرض و الهوية



نائل الطوخي
2006 / 9 / 24

1

في عام ألفين توفت والدتي، انتحرت بإلقاء نفسها من الطابق الخامس، هي المرأة الصالحة، الحاجة المحجبة التي لم ترتكب في حياتها مخالفة لأوامر الله. في أوائل عام ألفين وخمسة، أي منذ أشهر، قابلتني في المصعد جارتنا في العمارة التي تملك شقة في السطوح بخلاف شقتها في الدور الرابع. قالت لي جارتنا هذه، وهي المحجبة أيضاً، أنها صاعدة إلى السطوح وأضافت: عند ربنا. ثم أردفت أن أمي كانت أكثر من صديقة بالنسبة لها.

2

كان في انتحار أمي نزولا من عند الله، من أعلى إلى أسفل، من الطابق الخامس إلى اسفلت الرصيف من ناحية، ومن رحمة الله الواسعة، هي الحاجة المحجبة، إلى مرتبة الكافرين الذين يقتلون أنفسهم، وجارتي كانت تصعد إلى الله بمعناه الحرفي، إلى رحمة الله، هي التي تحجبت حديثاً، وبالمعنى المجازي، صعودها فوق، إلى السطوح حيث الله يسكن عالياً. الآن أعرف لماذا تذكرت تلك المرأة أمي، وقد مر على انتحارها خمس سنوات، بعد أن قالت أنها صاعدة إلى الله.



3

أمكنني في الشهور التي سبقت وفاة أمي مشاهدة هبوط كامل لها، من العقل إلى الجنون، من الإيمان المطلق إلى فقد الإيمان، الخوف على إيمانها، مراقبته، التوقع المحموم والمرعوب بأنها ستموت منتحرة، أي كافرة، والخوف من هذا التوقع، الهوس به، ثم الموت، فعلا، منتحرة. نمّت أمي الاثنين في قلبها، التوقع والخوف منه، حتى انتهى كل شيء، في صباح الجمعة الخامس من مايو. عندما استيقظت على صوت شيء يقع في الشارع وصراخ ناس أسفل بيتنا.



4

كنت متعلقا بأمي تعلقاً عظيماً، ولأيام طويلة عرفت أن بيتنا سينهار فور موتها، إذا حدث وماتت، فلم يكن احتمال موتها مطروحا إلا في نوع من الفانتازيا وممارسة لعبة :ماذا لو. كانت هي من تسند بيتنا، تصلبه كي لا يقع، ولكنه وقع، كما وقعت هي، وتفتت إلى شظايا، كل في ناحية. ترافق هذا مع سقوط مماثل من رحمة الله، الله المسلم طبعاً، تحولت أنا إلى العلمانية ثم إلى الالتزام باليسار، خلعت أختي النقاب الذي كانت ترتديه، بدأ الشك، انفراط العقد، التفكك، يغزونا. انهار بيتنا تماما من الداخل. كنت فيما مضى أحسب أن مداواة انتحار كهذا لن تتم إلا بانتحار مماثل، أي: كنت أتمنى موتي مع موت أمي. في نفس التوقيت، ولكن موتها هو ما سيتسبب في موتي. أنا لا شيء بدونها. ربما بسبب أنها لاحت لي صمام أمان، جداراً يمنع من الانهيار، الآن أدرك كيف كان مجاز كهذا مسيطرا ليس علي أنا فقط، بل على كثيرين للغاية غيري، وأكثر من هذا، كيف كان المجاز عاملاً منذ فجر التاريخ وحتى الآن.



5

مبكراً جدا، اقترنت الأم بالتحديد، وليس الأنثى فقط، بالطبيعة. لم تكن الأم موطن المتعة وإنما موطن التناسل، موطن الخلق، هي الإلهة، وعلى قدر ما يحاولون إقناعنا بأن الإله لا يمكن أن يكون لا ذكرا ولا أنثى فإن الأم تبعد عن كونها المرأة المشتهاة لتكون الأم الأزلية كلية المقدرة المسؤولة عن وجود البشر، هي النقيض من حواء التي خرجت من ضلع مكسور لآدم، وإنما إيزيس التي أحيت أوزوريس بعد موته، هي أم كلثوم ذات الهيبة الرهيبة والثدي الشبيه بضرع حتحور الإلهة القديمة، لا فيروز الهشة والراقصة. هكذا يعمل مجاز الأم: الأم طبيعة، كيان يتجاوزك وقادر على توفير الخلفية لك، يحفظك من التيه، من أن تكون منفردا في اللوحة، بلا خلفية، هي الأصل والمآل. سنعود لنلاقي أمهاتنا في الجنة مثلما سنعود إلى الأرض التي منها خلقنا. هذه المرحلة البينية، مرحلة العيش على الأرض، هي ما يجب أن يجتازها الإنسان لخدمة رحمه، المكان الذي منه خرج وإليه سيعود، الماضي المقدس والذي هو في ذات الوقت المآل الحتمي للبشرية، تقريبا لم تفلت عقيدة من هذه الأسطرة الأنيقة (حتى ماركس في وصفه لحالة المشاع الأولى وللاشتراكية الأخيرة، انطباق الأصل على المآل). حتى وإن تم التدرج نحو الذكورة شيئا فشيئاً إلى صورة الأب، فإن الأرض هي ما تستحوذ على مجاز الأم بهيمنة لا ينازعها فيها أحد. لا عبور هنا، أو بالأصح، لا إقامة في العبور، وإنما كل شيء ينبغي أن يكون مهيئاً للمصير الذي كلنا ذاهبون إليه، وهو المشابه تماما للأصل الذي جئنا منه، كأنهما وجها مرآة ونحن الحد الفاصل بينهما. هذا الحد، ما بين وجهي المرآة أو الأمين، الرحمين، الرحم الذي خرجنا منه والأرض التي سنعود إليها، هذا الحد هو المسكوت عنه، هو المهدد الأكبر بالانهيار، وبينما يتم الاقتراب منه شيئا فشيئاً تنمو كذلك حركات مراجعة شديدة العنف لكي تؤكد، وتعيد التأكيد، أننا بعيدون عنه، وإننا لازلنا نعمل على تطابق الأمين على بعضهما البعض. وأننا لازلنا نتذكر. هنا يمكننا الانتقال إلى الحديث عن موضوع مختلف بعض الشيء.



6

ما استثارني لفترة، أثناء نمو كل هذا الخضم من الروايات البديلة التي تسرد تاريخ الشعوب الأصلية، في حقبة ما بعد الاستعمار، هو ازدياد قوة حراس الذاكرة الرسمية. الذاكرة الرسمية هي الذاكرة الرحمية، التي نشأنا عليها والتي احتفظنا بها واستوعبناها وشعرنا بداخلها بالدفء، هي كل الروايات الوطنية والقومية. التي "تحتفظ" لنا بالشعور بالمهانة، بكوننا ضحايا، أو الشعور بالفخار، بكوننا منتصرين. أي أنها لا تفكك، وإنما تحافظ، وتعيد الإنتاج، من هنا ينبع الشعور بالأمان معها. في نفس الوقت، مع نمو الروايات البديلة للرواية الصهيونية عن النكبة العربية و"الاستقلال" الصهيوني، يزداد التيار الديني والقومي قوة في إسرائيل، لأجل توكيد أننا بعيدون عن تفكيك الرواية الرسمية لحرب الاستقلال، هل يمكننا في داخل تلك الشراسة أن نلمح نظرة قلقة يوجهها التيار الديني والقومي إلى نفسه، هل يمكننا أن نلمح نحن أيضا في هذا التيار الرعب من انفراط العقد، الرعب من الجنون والكفر (النزول من الله إلى الرصيف في الشارع) والذي داهم أمي قبل ست سنوات، والذي انتهى بكل ما ارتعبت منه، الكفر والجنون ثم انفراط العقد، بإرادتها الذاتية تماماً، بانتحارها وبسقوطها من عند الله. دعونا لا ننسى الخدمة التي تقدمها لنا اللغة العبرية هنا، فبهجرة اليهود إلى فلسطين، قد صعدوا، علوا إلى أرض إسرائيل، هي "العلياه" باللغة العبرية، وصعدوا صعودا مماثلاً إلى الله، الله الذي نزلت من عنده أمي، حاولوا إطباق الأصل على المآل (الأصل: الألف الأول قبل الميلاد، سيطرة داود، ومن ثم الإسرائيليين، على فلسطين، والمآل: هذا ما يتحقق الآن، مع بذور تكون الدولة اليهودية الحديثة على ارض فلسطين)، لصالح مزيد من الإحكام للأسطورة الشائعة حول اليهودية ومزيد من الإخفاء الواقع الذي يحدث أمام أعينهم، ولصالح التقسيم الصارم إلى عربي ويهودي. هل يمكن قول نفس الشيء عن قوانين منع الهجرة إلى أوروبا، حراسة الأرض، رحم الأم، من أي انفراط للعقد، من أي خلخلة في الهويات التي ظلت (أو ظُن أنها) مستقرة حتى لذلك الحين وفي مأمن من التفكيك.



7

أو هل يمكن قول نفس الشيء عن رفض أمي البات للذهاب إلى طبيب نفسي لكي يفحصها، أي خوفها المطبق من التصديق على تفكك العقل، ثم ذهابها متوجسة ومرعوبة، ثم انتحارها بعد ساعات قليلة، في صباح اليوم التالي.



8

لسبب ما أو لآخر، حاول الإنسان دوما استرجاع ذاكرة جنينته، كونه جنينا في بطن أمه، أو افترض أنه حدث هناك ما يستحق التدوين، قدس الأصل لا بوصفه خطوطا عريضة لما سيحدث فيما بعد، وإنما بوصفه هو الحقيقة، بمعناها الأكثر خفاء، والحقيقة تحتويه، هو طفلها، والاحتواء هنا يتم من جانبيه، من ناحية ماضيه ومستقبله، أصله ومآله، بالضبط كما يفعل حضن الأم، كتلة ضخمة تحتوي طفلها بداخل ذراعيها، هو قطرة الآن في سديم الكون الذي هو الحقيقة. هذا ما يميز تراثا طويلا من اللاهوت السياسي، من الانشغال بالرمز وإهمال الإنسان، الانشغال بالفكرة وإهمال الإنسان، الانشغال بدرامية المشهد وإهمال الإنسان. وإذا انهار الرمز فسيسقط الإنسان معه، أو لن يكون لقيامه معنى وسيكون الأفضل سقوطه. عندما ماتت أمي انهار بيتنا تماما من الداخل. كنت فيما مضى أحسب أن مداواة انتحار كهذا لن تتم إلا بانتحار مماثل، أي: كنت أتمنى موتي مع موت أمي. في نفس التوقيت، ولكن موتها هو ما سيتسبب في موتي. أنا لا شيء بدونها. ولأجل مواجهة رعبي من موتها، حلمت بموتها كثيراً، ظننت أنني هكذا فقط سأتقوى عليه، وقيل لي يومها أن الحلم بموت شخص يعني حياته لفترة طويلة، هل كانت هذه حيلة لجأ إليها لاوعيي لمحالة توقع الموت المستقبلي لأمي، وبالتالي محاولة طمس أي صدمة لدى حدوثه. لم تعش أمي طويلا بعد هذا. وكما أسلف، لم يكن بيتنا محصنا ضد التفكك، لم تنفع تقنية الحلم بالموت في إيقاف خطوات الموت. هنا بالتحديد، عملت سيرتي الذاتية على النقيض من السيرة الذاتية لحراس الهوية، فبينما كانت بشائر الموت واضحة على أمي وكان كل شيء ينذر بالانهيار، وحلمت أنا بموتها، وبينما كان كل شيء ينذر بانتحار أمي وتوقعته هي بقلق عظيم، فإن شيئا من التفكك لا يلوح في المؤسسة الحاكمة في الغرب، والتهديد الآتي بطوفان الهويات يأتي من مكان آخر، من الدراسات الأكاديمية ومن المثقفين لا من السياسة، أي انه تهديد ثقافي لا تهديد فعلي، وبرغم عدم واقعيته هذه حتى الآن، وبرغم أن السلطة العنصرية تبدو في أوج قوتها، فالحلم بالتفكك قائم. يمكن للمرء أن يتابع آلاف التعبيرات المتصلة بالخطر الإسلامي، وبالعرب البربر الذين يهاجمون الحضارة الغربية من داخلها وبحصان طروادة، وليس المؤرخ الإسرائيلي بني موريس وحيدا في هذا، وإن كان الأكثر درامية. أي أن الحلم بالتفكك قائم من قبل حراس المحافظة، حراس معبد الإلهة الأم، ليس لدرء التفكك القائم كاحتمالية في اللا وعي، وإنما لتبرير السلطوية الرهيبة للهوية الواحدة، للرواية الواحدة السائدة والمهيمنة، لوجود الأم، الرحم الدافئ والآخذ في التحول إلى الدفء أكثر وأكثر، في مقابل وجود اليتم بكل هذه الشناعة في العالم: استيعاب رواية الضعيف في رواية القوي، تجريده من روايته الخاصة، أو في أحسن الأحوال التشكيك في روايته دائما عبر رواية القوي، هذه العملية المؤسية والتي تحدث دائما وأبدا، في اتجاه واحد، من أعلى لأسفل. هذه المرة الأعلى والأسفل ذاتان منفصلان، وليس هناك ذات واحدة تتحرك بينهما. لا حركة فردية واختيارية هنا كالتي قامت بها امرأة بقفزها من الطابق الخامس إلى الشارع. ليس هنا إلا القامع والمقموع، مع الحدود الصارمة بينهما.



9

تزوج أبي مرتين، مرة أنجب منها أخوي الكبيران، والثانية والتي تزوج فيها أمي أنجبني أنا وأخي الأصغر. لسبب ما لم أتخيل أبداً أنه كان يمكن لي أن يكون لي أخوان من أب ثان تتزوجه أمي، هذا ليس متصلا فقط بما يحدث وما كان ينبغي أن يحدث وإنما بالنظرة إلى الأم وكأنها هي المكرسة دائما وأبداً، في انتظار دائم ووحيد ممتد كالزمن، ولذا فالتغير لا ينالها، كأنها إله بالضبط. لا ينظر إلى الأم باعتبارها امرأة كما أشرت وإنما باعتبارها شيئاً ما متجاوزاً، لذا فهي لا تخضع للتصنيف إلى ذكر وأنثى، ونحن قد جئنا هنا بناء على حمل منها وهذا الحمل قد حدث هكذا، بمعجزة مريمية ربما، وتعمل قوى عديدة لإخفاء التفكير في لحظة نيك الأم، ولأجل التأكيد على الهوية المتجاوزة لها، ومن هنا فإن مجيئنا إلى العالم كان محض معجزة تتميز بفرادتها، ولا يمكن أن تتكرر ثانية مع أب ثان ولأجل الإتيان بإخوة آخرين. من المثير التفكير في كم التعبيرات والدراسات التي أكدت على حقيقة كون فلسطين هي وطن اليهود، وليست ملجأ اضطرارياً لهم من النازية أو الهولوكست، أي التأكيد على البنوة الحقيقية لهذه الأرض الأم، أما من يدعون بأنهم أبناء للأرض، العرب الذين جاءت الصهيونية لتجدهم في فلسطين، فوجودهم عارض، مثلما كان الوجود الكنعاني والفلسطيني عارضا قبل غزو يهوشواع للبلاد، ولأن الحقيقة التاريخية ماثلة في الأذهان: المستوطنون جاءوا ليجدوا العرب يزرعون أراضيهم منذ قرون طويلة، فلقد كانت أهمية هذا التأكيد المحموم على البنوة "الحقيقية" للتغطية على البنوة "الطويلة" للأم الواحدة. ما مغزى هذه الحقيقية هنا؟ الوعد الإلهي، في خطاب، وفي خطاب آخر، نمو عواطف اليهود حول فلسطين كوطن قومي لهم، بصرف النظر عن حقيقية هذا من عدمها. اللعبة هنا ساذجة ومريرة، يتم إسباغ القيمة على الموضوع على حسب ما يعتقده الذوات فيه، أي أن حقيقة توصف بأنها موضوعية وأكيدة وواحدة لا تنبع إلا من اعتقاد البعض بها. هذا هو المنزلق الأخطر لخطاب كهذا: وماذا عن عواطف الفلسطينيين الذين طردوا من قراهم؟ هل يصبح بنفس المنطق حق العودة للفلسطينيين حقا موضوعيا وأكيدا وواحدا؟ هكذا تنجب الأم اثنين، واحد هو ابن شرعي لها وواحد هو ابن غير شرعي، كيف يحدث هذه التمييز؟ لأن واحدا منهما، يشعر بقوة، بأنه الابن الحقيقي لها، هذا الشعور غامر لدرجة أنه لا يمكن التشكيك فيه، هو شعور يخلق حقيقة. قد يكون هذا خطابا معقولاً إذا تم تغيير تفصيلة واحدة، ليس الفارق كامنا فيما يشعر به الابن أو ما لا يشعر به وإنما في إمكانية تعبيره عما يشعر. والابن الآخر، الأخرس والحساس، ماذا عنه؟ هذا الابن الذي لم يحتج يوما لأن يعبر عن بنوته للأرض، لأنها كانت حقيقة ماثلة في ذهنه تماما والحقيقة لا تحتاج للتعبير عنها، حيث لا خطر يكتنفها. لم يحدث هذا إلا عندما تم التفريق بين الابن وحضن أمه، تقول أم حسن في فيلم باب الشمس للمخرج يسري نصر الله والروائي إلياس خوري: "احنا ما عرفنا فلسطين إلا بعد ماراحت". لم تكن للفلسطيني حاجة للتغزل في واقع يحياه يوميا، في تفاصيله الصغيرة، فكما تعلمنا يوما: الأشياء الأكثر واقعية، الأكثر التصاقا بنا، هي أبعد شيء عن أعيننا، وأبعد شيء عن التقديس الإلهي لها، حيث لا يحتاج للتقديس إلا المستلب واقعياً. هكذا، وعن طريق النتيجة النهائية تحديدا، يمكننا أن نصل إلى عمق المقال: الأم، باعتبارها امرأة، تم استلابها واقعيا على مدار عصور طويلة من السيطرة الذكورية، ولذا تم تحويلها إلى أم، كيان سماوي متجاوز، شبه إلهي. أن تعبد أماً واحداً وتنتهك سائر النساء على وجه الأرض، زوجات، صديقات، عاهرات، جوار، فهذا لا يكلف شيئاً. يمكننا هنا أن نفهم لماذا تم تحويل سوزان مبارك، زوجة الرئيس الحالي لمصر، حسني مبارك، إلى رمز للأمومة والطفولة، ثم الابتعاد عن انتقادها، حتى في السنين الأخيرة والتي شهدت لأول مرة انتقادات حادة للغاية ضد الرئيس الحالي وابنه، في نفس الوقت التي كانت تنتهك فيه النساء فعلا في مظاهرات كفاية في شوارع القاهرة، تخلع عنهن بناطيلهن من قبل رجال الحزب الحاكم ويضربن في ما بين أفخاذهن، بينما المرأة الأم، السيدة الأولى في مصر، سوزان مبارك، تراقب كل شيء كما يجدر بإلهة أم، وتسكت عن اضطهاد البشر كما يجدر بإلهة أم، وتمارس هي الاضطهاد بنفسها كما يجدر بإلهة أم. في أعقاب الانتفاضة الأولى في فلسطين كتب شاعر إسرائيلي، قائلا إنه يمثل قطاعا كبيراً من الإسرائيليين، أن اليهود أحق بفلسطين/إسرائيل من العرب لأن العرب يحرقون ويدمرون الأرض، بينما اليهود يطورونها على الدوام. من المثير هنا ليس فقط كيف عملت قصة الملك سليمان والأرملتين والطفلين بشكل معكوس في ذهن الكاتب، وإنما كيف يؤدي تقديس الأم هنا، الأرض، لأجل التمويه على استلاب البشر عليها، فلم يتم الإشارة إلى تكسير عظام الأطفال من قبل رابين ولا إلى الحواجز ولا إلى شيء. هذا الرد جاء في سياق تافه حول من الأحق بامتلاك الأم، من الابن الشرعي لها، حتى وإن كانت الأم جامدة وغير موجودة إلا على مستوى المجاز، حتى وإن كان أبناؤها أجدر بالحياة، فبالتحديد لأنها مجاز، فتقديسها لن يكلف شيئاً، وسيكفر عن جحيم المهانة التي يتعرض لها الفلسطينيون. الأم هنا، تلك المرأة الميتة التي يقسم الجميع بروحها، يتم باسمها تبرير السيادة، تبرير محق الأخ "غير الشرعي"، الفلسطيني، أو المرأة المعارضة لسياسات مبارك، باسم الوطن في الحالتين، الأم، الحضن الأكثر مجازية.



10

أنا الآن لا أكره أمي، ولكنني بالتأكيد لن أكون سعيداً إذا عادت حية أمامي، إذا عادت فجأة إلى طابقها الخامس.