حديث عن أم ريفيّة



علي فضيل العربي
2022 / 9 / 27

قال لي صديقي – و هو رجل ولد في الريف و ترعرع في أحضانه ، و عاش شبابه و كهولته ، حتى أناف عن العقد السادس – قال لي : سأحدثك عن والدتي المتوفاة منذ عامين - رحمها الله و طيّب ثراها – ؛ شهرزاد العائلة و العشيرة و العصر الذكوري المرّ .
و لم أمانع ، مادامت حياة والدته و يوميّاتها الريفيّة ، ليست سرّا، لا تخفى على من يعرف حالة ريفنا ، الذي كان محروما من ضرورات الحياة مدّة طويلة ، بالرغم من أنّه كان معقل الثورات الشعبيّة في كل فتراتها و مراحلها .
قال صديقي : كانت أمّي امرأة ريفيّة المولد ، لم تعش طفولتها كأطفال المدن ، فطمت قبل الأوان ، لم ترتو من الحنان ، و لم تنل نصيبها من اللعب كباقي الأحياء الراقية في المدن الكبرى و الصغرى . لم تدخل المدرسة و لا الكتّاب . فتعليم الفتاة الريفيّة في قبل ستين سنة ، كان ضربا من المجازفة ، يرقى إلى درجة الممنوعات ، بل المحرّمات و الطابوهات . وحياة الفتاة في ريفنا تبدأ من المهد ، مرورا بالبيت ، وصولا إلى اللحد . زوّجوها في سنّ الثانيّة من عمرها ، يومها كانت مازالت ترعى غنمات و معزات لأبيها .
و عندما بلغت الثالثة عشر من عمرها ، وجدت نفسها أمّا ، تربي صبيّا ، و هو اخي البكر . و عند بلوغها سنّ الخمسين ، كان عدد أبنائها ، من البنين و البنات ، دزينة كاملة ( اثنتا عشر مولودا ) ، أنا أوسطهم ، أما أصغرهم فصبيّة في شهرها العاشر ، ما تزال ترضع من ثدي أمي .
كنت أصغي لصديقي بقلبي لا بأذنيّ ، و كانت كلماته تتسلّل إلى أعماقي ، فأشعر بها كأنّها ضربات مطرقة على سندان حدّاد .
قلت بدهشة : اثنتا عشر ولدا .
- نعم ، اثنتا عشر مولودا من البنين و البنات . حُملتنا أمّنا و هنا على وهن ، و عانت من وجع الحمل ، و ألم المخاض و الوضع ، و أرضعتنا من ثديها ، و قمّطتنا ، و سهرت من أجل راحتنا . و جاعت لتشبعتنا ، و بردت لتدفئنا .
و أردف صديقي : كنّا نسكن في الريف ، و كان بيتنا عبارة عن كوخ ، جدرانه من الطين و الحجر و الجير ، و سقفه من اعمدة الصنوبر و القصب و الديس و الطين . كانت أمّي تكنس الفناء منحنيّة الظهر ، و تخبز ، و تغسل بيديها ثيابنا ، و تخيطها ، عن كانت ممزّقة ، و تجمع الحطب لإشعال الكوشة ( فرن تقليدي من الطين ) من أجل إعداد الكسرة لنا ، و تجلب الماء من البئر ، و تحضّر لنا قهوة الصباح و الغداء و العشاء ، و تفتل الكسكسي بأنواعه ، و تطعم الدجاجات ، و تجمع حبّات البيض لبيعها في السوق الأسبوعيّة ، و في فصل الخريف تجمع حبات الزيتون ، و تعصر لنا منها زيتا ، و تطحن الزرع في رحى حجريّة ، يدوية ، بعد غسله و تجفيفه و تنقيته من الشوائب . و تحلب البقرة و المعزات ، لتحضّر لنا لبنا طيّبا ، و تستخلص لنا منه زبدة لذيذة .
لقد كانت يوم أمّي يبدأ من الفجر حتى العشاء ، أي من الظلام إلى الظلام . و لم أرها – قط – إلاّ و هي منشغلة ، لا تجد للفراغ سبيلا . كان عملها لا يكاد ينتهي ، حتى يبدأ عمل جديد . لم يتسلّل الملل أو اليأس أو القنوط إلى نفسها الأكبر من جسدها النحيل من أثر العمل الدؤوب ، إلى حدّ الشقاء .
ثم أردف صديقي ، و هو يفصح عن تنهيدة ، قائلا :
- نعم كنّا اثنا عشر فما و معدة ....
و كانت امّي – رحمها الله – التي كنت أناديها – في سرّي و في غيابها – شهرزاد الأسرة و العشيرة و الدوار . تدير شؤون البيت ( الكوخ ) ، فلم أرها ، يوما ، تشتكي من تعب أو عناء أو نقص في المؤونة الغذائيّة الأسبوعية المحدودة ؛ من دقيق و زيت و قهوة و سكر و فلفل و شاي و صابون ...
كانت أحسن مدبّرة ، قانعة ، حكيمة – رغم أميّتها - تضع الأشياء في مواضعها . زينتها ، إثمد و جوز و عطر تقليدي ، يدوي ، كنّا نسميه ( بلوم بلوم ) . لم أر على وجهها بودرة ، و لا أصباغا على أظافرها و حاجبيها . كان – في عيني -أجمل النساء على كوكب الأرض ، و احبّهم إليّ ..
أما والدي ، فقد كان منحصرا في عمله اليومي ، في مزرعة التسيير الذاتي ، ورثتها الدولة المستقلّة عن ( الكولون ) ، المحتل ، الغازي . يخرج فجرا ، و يعود عصرا . أما في أيام المطر و الثلج – حين يتعطّل العمل الفلاحي ، بل يستحيل ممارسته – يلجأ لمقهى القرية القريبة من الدوار ، ليميت ساعات من عمره في لعبة الدومينو ( النرد ) .
- أجل كنّا اثني عشر فما و معدة ...
و لولا فضل الله و رحمته ، و حكمة أمي ، لكانت حياتنا جحيما ..
و أردف صديقي الريفي ، قائلا ، بنبرة غاضبة :
- و يخرج علينا اليوم ذكور( شهرياريّون ) من أشباه الرجال - لا محلّ لهم من الرجولة ، سوى شعيرات نبتت على ذقونهم و لحاهم و أدنى أرنبات أنوفهم – ليقولوا لنا أنّ المرأة ناقصة عقل و دين . ليهضموا حقوقها ، و يهينوها في عقلها و مشاعرها ، و يحطّون من قيمتها و مكانتها ، و ينزلوها منزلة النقصان في كلّ شيء . ألا ، ما أغرب هؤلاء القوم ، و ما أسفه سلوكهم تجاه أمّي ، التي حملت و وضعت و أرضعت و ربّت دزينة من الأبناء (اثنا عشر فما و معدة ) ، و أخرجتهم إلى ميدان الحياة سالمين ..
و يختتم صديقي الريفيّ كلامه ، بصرخة من الأعماق :
لا ، و ألف لا ، لم تكن أمّي ناقصة عقل و دين ، بل كانت كاملة ، حكيمة ، قويّة ، نشيطة كنحلة في خليّتها ، أو نملة في قريتها .
أيّها العقلاء ، إنّ ما قامت به أمي ، يعجز عن القيام به ألف من الذكور .. و كانت أمّي امرأة خير من ألف رجل .