ناصيف نصّار «مهموماً» بالجسد العاري



ريتا فرج
2022 / 10 / 15


طبعت ثلاثة مسارات مؤلفات الفيلسوف اللبناني ناصيف نصّار (1940) الجامع بين الفلسفة وعلم الاجتماع؛ المسار الأول: مقاربة الإشكاليات الاجتماعية والسياسية من زاوية البناء الفلسفي، خصوصاً في كتاباته عن ابن خلدون والنقد السوسيولوجي للمجتمع الطائفي في «نحو مجتمع جديد» و«منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر» و«باب الحرية: انبثاق الوجود بالفعل» و«مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ». أسّس في المسار الثاني شروط الاستقلال الفلسفي والنهضة العربية الثانية، فحرص على «الوعي بدور الفعل الفلسفي» من خلال: رفض الانتماء إلى أي مذهب فلسفي؛ وتعيين المشكلة الرئيسة وتحديد طريقة معالجتها مع مشكلات رئيسة أخرى ومع المشكلات الفرعية الواقعة تحتها؛ ونقد النظريات الفلسفية. ينهض المسار الثالث على «فلسفة الوجود التاريخي وفلسفة المعنى» كما نظَّر لها في «الذات والحضور: بحث في مبادئ الوجود التاريخي»، و«النور والمعنى تأملات على ضفاف الأمل». فاجأنا نصّار بإصداره الجديد «كتاب عشتار في اللباس والجسد» (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـــــ الطبعة الأولى، 2022)؛ تضمّن تنظيرات فلسفية عميقة وغير مألوفة في حقل اشتغاله الفلسفي، فكتب عن الجسد ودلالاته في المجالين الخاص والعام؛ باعتباره كائناً حياً عاقلاً يبني حضوره في العالم ويتـأثر به وبسرديّاته وضوابطه، كبحاً وإطلاقاً.

لم يتناول صاحب «مُطارحات للعقل الملتزم» الجسد الأنثوي فحسب، كما يخال بعضٌ، وإن تطرّق في لقاءات عدة من الكتاب، إلى تفاعله مع عوالمه وأخلاقيات اللباس وحدود العري؛ فهو ينظر إلى الإنسان في فضاءات وجوده الاجتماعي والثقافي والفكري، وانعكاس روحه في القضايا الكبرى مثل: السعادة والحب والتضامن والكرامة والموت والشيخوخة. الجسد هنا ممتلئ بالمعنى وتطوره التاريخي، بدءاً من الإشكالية الفلسفية الافتتاحية التي قدمها نصّار في اللقاء الأول «لماذا لسنا عراة؟» وصولاً إلى «الاستئناف الفلسفي» في اللقاء التاسع والأخير «في الإنسان العاري»، مناقشاً أسئلة الفلسفة عن «مسرح الذوات المتشابكة في الذات/ والأنا؛ أي الذات الشهوانية والذات الانفعالية والذات العاطفية والذات الإرادية والذات الذهنية والذات الأخلاقية والذات العاقلة». اعتمد نصّار على التقليد الأفلاطوني في القرن الرابع قبل الميلاد، من الجدل السقراطي القائم على الحوار والسؤال والجواب، فعشتار في الكتاب «آخر متخيل» أو «عقل موازٍ» لعقل الفيلسوف النبيل اليقظ الذي لا يستكين عن التفكير وطرح النظريات الكبرى عن الإنسان وتحققها.
جاء الكتاب في تسعة لقاءات (فصول): «لماذا لسنا عراة»؛ «في اللباس ووظائفه»؛ «في الحشمة والمجال الاجتماعي»، «جسدي يخصني: وماذا بعد؟»؛ «حول التفكير في الجسد»؛ و«استطراداً في المساواة بين الجنسين»؛ و«اللباس والجسد والنظرة الرأسمالية»؛ و«روح الرأسمالية ومسألة السعادة»، و«في الإنسان العاري».
حرص نصّار على إعلاء «الوظيفة الأخلاقية» لــ«اللباس» انطلاقاً من إيمانه بكرامة الإنسان ودوره في محيطه، ناقداً بذلك «الوظيفة الدينية» لطغيان «أخلاقية الستار» الذي يقمع الأجساد لا سيما وجه المرأة فيخفيه مانعاً عنه ملاقاة العالم بندّية.


يرى نصّار «أن الوظيفة الأخلاقية لعملية ارتداء الملابس» تتحدد «بمقدار ما تسهم به في الحفاظ على كرامة الشخص وخصوصيته، بوصفه ذاتاً متجسدة في مواجهة غيرها من الذوات المتجسدة»، رافضاً «الليبرالية المتطرفة التي ينتهي بها تطرفها إلى إلغاء فكرة الواجب من أخلاقية الحرية». يتخذ بهذا المعنى موقفاً فلسفياً أخلاقياً يصون به كرامة الفرد الاجتماعي وينبّهنا إلى مخاطر الانفتاح الليبرالي الراديكالي الساعي إلى كسر الحدود والضوابط المدنية للمجتمعات، خصوصاً مع الثورة الهائلة التي يشهدها فوران الجسد وتمثلاته على وسائل التواصل الاجتماعي والاقتصاد الرأسمالي، الراغب دائماً في تشييئه وتسليعه وكسر إنسانيته.
لا تغيب عن تنظيرات نصّار الفلسفية في اللباس والجسد «النزعة العقلانية المحافظة». يبدو مهموماً بشدة بالموجات الهائلة من ميوعة الأفكار والأشياء والسلع وتأثيرها في ذات الإنسان وجسده وكينونته وكرامته وصورته أمام نفسه. تذكرنا مواقفه بأطروحات الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيغمونت بومان (1925-2007) صاحب سلسلة السيولة: «الحب السائل»، و«الحداثة السائلة» و«الأزمنة السائلة» و«الثقافة السائلة».
يعيدنا نصّار إلى الظواهر الخطرة المنبثقة عن حقبة ما بعد الحداثة التي تزدري الذاكرات التاريخية والتراثات، وتحطُّ من حضور الهويات الوطنية والعديد من القيم الأخلاقية في الوعي الجمعي. لقد كان تأثير العولمة وثقافة السوق و«مجتمع الاستعراض» (La Société du spectacle)، كما درسه الفيلسوف الفرنسي غي ديبور (1931-1994) على القيم البشرية هائلاً.
بات من الواجب أمام هذا التحول، كما يلفت نظرنا الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، المعارض لأوامر ونواهي اليسار الليبرالية التقدمية، «على مستوى بعض الصعد، إيقاف التقدم والالتزام ربما بخط محافظ، يحافظ على مكاسب البشر حتى اليوم ولا يَعمِد، هكذا بإطلاق، إلى قبول ودعم أي صيرورة تحدٍّ أو ازدراء للتقاليد أو الأخلاق أو الحدود أو غيرها».


تقوم النزعة الفلسفية المحافظة عند نصّار من العري واللباس [الحشمة] على فكرتين: حفظ الكرامة الإنسانية؛ وتعدد معاني الجسد وفضاءاته بين الخاص والعام. دفعه هذا في اللقاء الرابع «جسدي يخصني: وماذا بعد؟» إلى اتخاذ مواقف واضحة ومركبة من العري، قد تبدو لعدد من النسويات الباحثات عن الحرية المطلقة للجسد الأنثوي المحتج والمعارض للمجتمع البطريركي، دون المأمول.
تعدّ ظاهرة التعري الأنثوي الاحتجاجي، شكلاً من أشكال الاعتراض على القمع السلطوي السياسي والديني والاجتماعي، وهي تشهد حضوراً نادراً في الفضاء العام الواقعي، ولافتاً في الفضاء الافتراضي الذي ينزع بشدة إلى تسليع جسد المرأة وتحويلها إلى خريطة للمتعة، متعة العين الناظرة والمشتهية.
يشدد نصّار على أن الجسد ليس بالمطلق سيداً على نفسه «فالكرامة التي له مستمدة من كرامة الأنا التي تمتلكه كجزء لا يتجزأ منها، والتي تمارس الاستقلالية والسيادة على نفسها بإرادتها الحرة، ولا خشية من القول بإرادتها العاقلة. فهل نظلم الجسد إذا اعتبرنا أن الاعتراف بكرامته يتبع الاعتراف بكرامة الذات التي تسوده؟».
أمام هذا السؤال الفلسفي الإشكالي، تبدو الذات سيدة الجسد، أي هي التي تديره وتفكر به وتعقله؛ فالذي يعني نصّار على وجه الدقة ممارسة النقد على الليبرالية المتفلتة: «حتى يتبين أن حرية الأنا في تعاطيها مع جسدها، سواء أكانت رجلاً أم امرأة، لا تعنيها هي وحدها فقط، إلا في الحالات التي لا يكون لها أي تأثير في غيرها من الأنوات. وهي حالات قليلة نسبياً، ومتفاوتة الأهمية لأن الليبرالية، مهما بلغت من التطرف في الفردانية، فإنها لا تستطيع إخراج الأنوات المتجسدة من الاجتماعية، والتأثيرات الممكنة في حالات الجسد وتحولاته، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر. ترمي الليبرالية المتطرفة إلى حصر ملكية الجسد، في دائرة الأنا الفردية وحدها، لكي تطلق استخدامه بحرية تامة وفقاً لرغبات الفرد وأهوائه».


أدخل نصّار مفاهيم جديدة على معجم اشتغاله الفلسفي في فضاء الجسد نذكر منها: «ثقافة اللباس»، «أخلاقية الدين»، «الجسد هو أنا متجسدة»، «الأنا الفردية»، «سياسة الجسد»، «التشاركية الوالدية»، «إرادة الإنجاب»، «العري الأصلي»، و«أخلاقية الستار».... ليست هذه الابتكارات نهجاً جديداً عليه، ففي كتابه «الذات والحضور»، اجترح مفهوم «الكائن الذاتي»، وفي «النور والمعنى» أشار إلى «الكائن المهموم» أي الكائن الذي يسكنه الهمّ في يومياته ويدفعه دوماً إلى خارج ذاته، و«الكائن المتناهي»، و«الكائن الزمني»، أي المحكوم بالتزمّن والاشتراط التاريخي.
ما نريد التوقف عنده، وعلى عجالة، حديث نصّار عن «أخلاقية الستار»، إذ إنه لا يفصح بكل ما في عقله، صحيح أنه يرفض بشكل صارم تغطية الوجه، لأنه في رأينا علامة الأنا الحرة وينتهك كرامة المرأة؛ لكنه لا يوضح رأيه من «الحجاب التقليدي» الإسلامي، والمقصود به تغطية الرأس، فهل صمته هنا مرده التوجس من إثارة ردة فعل سلبية في مجتمعات عربية يغلب عليها، تضخم التدين، ويشكل جسد المرأة فيها أكبر فضاء لرمزية الجماعة والسلطة الدينية والسياسية؟ وإذا افترضنا أن الحجاب يعكس قمع «إسلام الفقهاء» والتقاليد، فهل يقابله تسليع الرأسمالية لأجساد النساء المستباحة مادياً؟
يدافع عن مبدأ «التكامل» وليس «المساواة» بين الجنسين


يدافع نصّار عن مبدأ «التكامل» وليس «المساواة» بين الجنسين على أساس أربعة مبادئ: الحرية لجميع الناس، والمساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة، والعيش المشترك، والتفاوت المشروع. وعلى أهمية ما تضمنه اللقاء السادس من أفكار مدفوعة بحماية «التشاركية الوالدية» من مخاطر مكتسبات الحداثة، لكن لا يمكن التغافل عن طبقة النص المحافظة فيه، خصوصاً الإشكاليات المعلقة التي أثارها صاحب «الفلسفة في معركة الأيديولوجية» من قبيل: هل من المعقول أن نفرض، باسم المساواة، أن يكون عمر الوالد وعمر الوالدة متساويين، وأن يكونا متساويين في القدرة وأساليب تعاملهما مع أولادهما في الرعاية والتربية والحماية والتوجيه وما شابه؟ هل من المعقول أن نفرض، باسم المساواة، أن يكون مدخول الرجل ومدخول المرأة متساويين، أو أن تكون حصة المرأة مساوية لحصة الرجل في الإنفاق على أولادهما؟
يحدّد نصّار بشكل واضح قوله في الأم العزباء لصالح العائلة، محذراً من تأثير التقنية الكبير في سياسات الإنجاب والخصوبة ولا سيما في المجتمعات الغربية. لكن في مقابل هذا العالم شديد النزوع نحو الفردانية واقتصاد السوق والمتعة والرغبة والصورة والاستهلاك والإلمام الرقمي (Digital literacy)، تسود في أجزاء أخرى واسعة المنظومات الأبوية المتسلطة، كما يعاني كثيرون من الأمية الرقمية والتكنولوجية، على اعتبار أن الوصول السريع إلى الإنترنت وشبكاته، يلعب دوراً كبيراً في حياة الفرد وقيمه ورغباته ومن ضمنها «سياسة المتعة الافتراضية».


يمثل «اللقاء التاسع» المعنون «في الإنسان العاري» جوهرة الكتاب، نظراً إلى مستوى التعقيد والتشابك والتداخل فيه، فهو ليس طرحاً أو تنظيراً فلسفياً في العري فحسب، بل يقدم قراءة فلسفية للذات المتجسدة وفضاءاتها ومعاناتها وأحوالها وتاريخها الكفاحي.
لم يبح نصّار في الكتاب بكل ما لديه، كان من المهم تحديد قوله الفلسفي في العري والرسم والموسيقى والسينما. ثمة أفكار وإشكاليات معلقة لم يجب عنها، تجعل القارئ حائراً بين اليقين والشك فيقف على حدود التردد بين التقليد والتحرر.
يبقى أن الكتاب من الكتب الفلسفية القليلة والجديدة في موضوعها على لغتنا، ويُعد إضافة نوعية للمكتبة العربية، يُخرج الفلسفة من مباحثها الكلاسيكية ويضعها في «همّ الجسد» وحضوره في العالم.