حديث عن أم ريفيّة ( 5 )



علي فضيل العربي
2022 / 10 / 15

قال لي صديقي الريفيّ :
- لو كنت ريفيّ المولد و الترعرع مثلي ، لاستوعبت فلسفة الحياة عند الريفيّين . و أدركت - بيسر – الحكمة في مواقفهم و سلوكهم اليوميّ . إذ ، لا يستطيع فهم المغزى من تصرّفاتهم ، سوى من يعاشرهم أو يصاهرهم أو يصادقهم .
قلت ، و أنا لا أملك حجة أنقض بها ( ادّعاءه ) :
- صدقت . أهل الريف أدرى بشعابه . أهل المدينة ، لا يعرفون الريف ، إلاّ في فصل الربيع ، حين يقبلون عليه لأجل التنزّه فقط .
أمّا في فصل الصيف ، فصل القيظ ، فوجهتهم المفضّلة ، شواطيء البحر ، أو السفر إلى بلاد أخرى أقلّ جمالا من بلادهم .
- أجل ، هم يجهلون جمال الريف في فصل الخريف ، حين ينضج التين و العنب و اللوز و الرمان و العسل الأصيل ..
و أردف صديقي الريف في حديثه عن أمّه الريفيّة ( الشهرزاديّة ) :
كانت أمّي لا ترى أيّ معنى لحياتها بعيدا عن الريف . و كانت كلّما زارتني في المدينة ، أو زارت إخوتي و أخواتي ، شعرت بضيق في رئتيها ، وأصابها نوع من القلق و الأرق ، فلا يهدأ لها بال ، و لا يهنأ لها مقام و لا يرسو . كانت تقول لنا ، مازحة ، مستغربة :
- هذه ليست بيوتا للعيش . هذه أقفاص لا تليق ، حتى بدجاجاتي ..
قال صديقي الريفيّ :
- كانت أمّي صادقة في ملاحظاتها و مشاعرها . فقد كانت بيتي معلّقا في الطابق السادس من عمارة بلا مصعد . ممّا جعلها تمتنع – مكرهة - عن زيارتي ، إلا نادرا .
و قد قالت لي ذات يوم ، و بصريح العبارة :
- بيتك لا يصلح إلاّ عشّا للبلارج ( طائر للقلق ) . ثم أردفت :
- لا أدري لماذا علّقوا الناس بهذا الشكل ، بعضهم فوق بعض ، كدجاج في السجنة ( خم الدجاج ) . بينا أرض الله واسعة ، أغلبها فارغة و مهملة .

من الأعياد الدينيّة ، التي مازالت أمّي الريفيّة ، تحتفظ بها ، و لا تفوتها فرصة الاحتفال بها ، و إحياء طقوسها في كل سنة ، عيد المولد النبوي الشريف .
أذكر أنّ أمّي - عندما كنّا صغارا - تصنع لنا فوانيس من القصب . حيث تأتي بأعود القصب الأخضر ، و تقوم بتلميع كلّ قصبة على حدة ، ثم تقوم شقّها بسكين ، ثم تغلّفها بورق ملوّن و شفّاف ، و تلصق أجزاءه بعجين الكسرة ، و تضع لنا داخل الفانوس شمعة المولد ، و عند المغرب ، نخرج إلى الطريق المتربة ، و نحن نردّد :
- ميلود يا ميلود
ميلود النبيّ
لاله يمينة ( آمنة ) ربّات ( ربّت ) الصبيّ .
و كم غضبت أمّي الريفيّة ، لمّا سمعت أناسا ( يدّعون التقوى ) ، أنّ الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف بدعة ، و ازداد عجبها و حنقها ، لمّا رأت أهل المدن ، يحتفلون بالمولد النبوي ، باستعمال مختلف أنواع المفرقعات والألعاب النارية الخطيرة من شماريخ و سينيال ، و غيرها .
كما ، كانت أمّي الريفيّة ، تحضّر لنا في ليلة المولد النبوي الشريف . أكلة البركوكس ( أكلة من العجائن ) ، بلحم دجاج العرب و مرقه ( دجاج الريف ) ، و تخضّب أكفنا بالحناء . و تبخّر الكوخ بعود الطيب .
و كانت أمّي الريفيّة تحتفل أيضا برأس السنة الميلاديّة و رأس السنة الهجريّة و رأس السنة الأمازيغيّة ، رغم أميّتها ، إذ ، كما أسلفت لم تدخل المدرسة ، بسبب الاحتلال الفرنسي ، و عائق العرف ، في عشيرتها ، و الذي يحرّم تعليم الفتاة ، و لم تر في ذلك بدعة .
واصل صديقي الريفيّ حديثه قائلا :
كانت أمّي الريفيّة ، تحتفل في كل سنة برأس السنة الميلاديّة و عندما نسألها عن علّة ذلك ، تقول لنا ، أنّ النبيّ عيسى ، ، عليه السلام ، نبيّنا - نحن المسلمين - و نحن أحقّ الناس بالاحتفال بمولده . فكانت أمّي تذبح لنا سردوكا روميّا ( ديكا روميّا ) ، و تصنع لنا به عشاء بالمردود ( نوع من العجائن التقليديّة ) ، و تتصدّق منه على الجيران ، فترسلنا ، نحن الأبناء ، إليهم حاملين صدقة المولد ، و كذلك يفعل الجيران ، فنقصدهم ثقالا و نعود نقالا . و كانت أمي ، تخرج من المزود ( كيس جلدي ) حفنات من التين التي جفّفتها في فصل الخريف ، و حبات الرمّان و كم كنّا نتمنّى ، في تلك الليلة ، أن تطول بنا ، و تتكرّر كلّ أسبوع ، لنأكل ما لذّ و طاب من يديّ أمّي الريفيّة ,
أمّا احتفالها بالناير ( رأس السنة الأمازيغيّة ) ، و يكون – عادة - ليلة الثاني عشر من شهر جانفي ( يناير ) من كل سنة فقد كان مختلفا إلى حدّ ما . فقد كانت أمّي الريفيّة تحضّر السفنج أو الخفاف ( نوع من الفطائر المقليّة ) ، و الزيتون و التين و تصنع لنا كسكسا بمرق الدجاج العربي ( التقليدي ) ، و كانت حريصة على تخصيص ، لكل واحد منّا ، دجاجة متوسطة الحجم ، محشوّة بالبهارات و الثوم و تشيشة المرمز ( دقيق من الشعير الأخضر المحمّص ) ، و لا تنسى إخراج نصيب للجيران أبدا . فهي تردّد ، دائما ، أنّ من حقّوق الجار على الجار ، إكرامه في أوقات اليسر و العسر . وكم كانت السعادة ، تغمرنا في تلك الليلة ، من كل سنة .
و كانت أمّي الريفيّة ، لا تفوت أيّة مناسبة دينيّة ، فنحتفل معها - أيضا - برأس السنة الهجريّة ، في كل عام . كنت ، و مازلت ، ألمح سعادتها الغامرة ، كلّما حلّت تلك المناسبة السعيدة ، فكانت تصنع لنا ما لذّ و طاب من الطعام . و تقيم الليل ، و تكثر من التسبيح و الاستغفار و الحمد و الصلاة و السلام على الرسول محمد ( صلى الله عليه و سلم ) و على آله ، و على إبراهيم و آل ابراهيم
و كم كانت متعجّبة أشد العجب ، من أناس ، من الجيل الجديد ، يحرّمون الاحتفال بتلك الأعياد الدينيّة و الوطنيّة الموروثة عن الآباء و الأجداد ، و يحاولون ، بكلّ الوسائل - حثّ الناس على تجاهلها . و إقناعهم على أنّها بدعة سيئة ، وجب عليهم تركها و نسيانها .