الطبقة والجندر: محاولةٌ لفض الاشتباك.



ممدوح مكرم
2022 / 10 / 27

الطبقة والجندر( محاولة لفض الاشتباك)
يبدو العنوان غريبا بعض الشيء خاصة لدى شرائح واسعة من القراء المهتمين، ما دفعني إلى ذلك: هو ذلك الاشتباك الذي نشب بين الماركسيين( أتحدث عن مصر تحديدا)، بتناول إشكالية الجندر( النوع الاجتماعي) وهل يتناقض مع الطبقة( كمفهوم سيسيولوجي[اجتماعي])؟ خاصة مع الاستقطاب بين خطابين في الرؤى النسوية: خطاب ينطلق من الجندر، وآخر ينطلق من الطبقة. سنحاول ملامسة ذلك الموضوع من خلال تتبع مفهومي الطبقة والجندر؛ كي نصل إلى صيغة تجمع ما بين الاثنين..
عن مفهومي الطبقة والجندر
الطبقة والجندر مفهومان مرتبطان بوثاق كبير بالسيسيولوجيا( الاجتماع)، وبثلة العلوم الاجتماعية الأخرى؛ ورغم قلة المقاربات التي تربط بين الاثنين، لكن ذلك لا ينفي محاولات الربط بينهما، وأهمية الربط هنا يتعلق بمجال الممارسة أساساً خاصة لدى الحركات النسوية من جهة، والحركات الاجتماعية من جهة أخرى.
من المعروف أنٍّ الطبقية، أو الشكل الهرمي/ الرأسي للمجتمع يرتبط أساساً بارتفاع منسوب اللامساواة الاجتماعية، حيث تبرز مع شدة التفاوتْ في توزيع الثروات في المجتمع. : تعريف الطبقة ينصرف إلى: أنَّ الطبقة مجموعة من الناس؛ تتحدد مراكزهم وتراتبهم الاجتماعي وفق موقعه من عملية الإنتاج، وحسب توضيح لينين فيما بعد:ارتبط ظهور الطبقات بالتنظيم الاجتماعي للعمل، فوفق تعبير لينين: " فالطبقات الاجتماعية هي جماعات تستولي إحداها على فائض أو ناتج عمل الأخرى بحكم اختلاف الموقع الذي تحتله كل منها في نظام محدد للاقتصاد الاجتماعي.
ويمكن القول أنًّ مفهوم الطبقة اتسم بالمرونة؛ بسبب التحولات التي حدثتْ في بنية المجتمعات؛ بفعل التطور التقني الهائل؛ وظهور عوامل جديدة أدتْ إلى زيادة انقسام المجتمعات رأسياً من جراء هذا التقدم الهائل في وسائل الإنتاج من ناحية، ووسائل الاتصال والتواصل من ناحية أخرى؛ مما خلق مهن جديدة كالمبرمجين مثلاً أو اليتويتوبرز، وقضى على مهن قديمة؛ بل وأنهى عصر الوظيفة كما عنون جيرمي ريفكن كتابه: نهاية عهد الوظيفة.
حتى لو نظرنا إلى بنية الطبقات البرجوازية أو البروليتاريا، سنجد أنًّ البرجوازية لم تعد هي البرجوازية المبثوثة في كتابات الماركسيين التقليديين وغير الماركسيين، ولم تعد البروليتاريا كذلك هي البروليتاريا المبثوثة أيضاً في كتابات الماركسيين وغيرهم؛ فالعامل( البروليتاري) لم يصبح فقط الذي بييع قوة عمله( المرتبطة بقوته الجسدية)؛ بل الذي يبيع قوة عمله الذهنية أيضاً – إن جاز التعبير-.
أما مفهوم الجندر من المفاهيم الحديثة نسبياً التي دخلتْ العلوم الإنسانية، وارتبط تبلور المفهوم بصعود الحركات النسوية؛ خاصةً مع موجتها الثانية في آواخر الستينيات، وبداية السبعينيات، والذي تزامن أيضاً مع نضالات أصحاب الميول الجنسية غير النمطية؛ في تلك الفترة.
دراسة إيمي.إس. وارتون: علم اجتماع النوع( مقدمة في النظرية والبحث)، من الدراسات المهمة في هذا الإطار، وقد صدرتْ طبعتها العربية في عام 2006م، عن المركز القومي للترجمة بمصر. اعتبرتْ إيمي أنَّ الجندر: نسق من الممارسات الاجتماعية، واعتبرتْ أنَّ النوع( الترجمة العربية للجندر) يخلق حالة من اللامساواة والتباينات في المجتمعات. واعتبرتْ أنَّ الأعضاء التناسلية ليستْ دليلاً قاطعاً على الذكورة والأنوثة- على حد تعبيرها-.
كيف يرتبط التفاوت الطبقي بالتفاوت النوعي؟
يمكن فهم التفاوت الطبقي من خلال فكرة الملكية( من يملك وسائل الإنتاج؟ ومن لا يملك وسائل الإنتاج؟)، وهنا كان للاقتصاد الدور الأكبر كمعيار مهم في فهم الطبقة، ومن ثم تتوالى معايير أخرى من قبيل طريقة الحصول على الدخل، والخصائص القيمية، وكذا الخصائص الأيديولوجية والنفسية للطبقة، وهي معايير بدتْ دقيقة وملهمة في عصرها.
وحسب رؤية القيادي الشيوعي السوداني: تاج السر عثمان في مقاله المعنون بــ ( المفهوم الماركسي للطبقة الاجتماعية)، فإنه يحدد المعايير التي تنطلق منها الماركسية في تحديد مفهوم الطبقة من خلال: الدور الذي يُؤدى في الإنتاج- تداول الثروة وتوزيعها- الإسهام في الصراع الطبقي- السيطرة على الدولة بوصفها أداة هيمنة وقمع من قبل الطبقات المُستغِلة.
فالمجتمع الرأسي: الذي تتراتب فيه المكانة الاجتماعية؛ يخلق حالةً من اللامساواة المرتبطة أساساً بكيفية التوزيع من ناحية في علاقتها بعملية الإنتاج وتكوين الفائض، ومن ناحية ثانية يرتبط بوجود الأقلية شديدة الثراء، وأغلبية شديدة الفقر؛ وهو ما يسميه علماء الاجتماع والاقتصاد السياسي: بسياسات الإفقار، هذه السياسات هي من السمات الأساسية لتيار الليبرالية الجديدة بشكل خاص؛ والذي شهد ازدهارا عقب أزمة التضخم الركودي في السبعينيات، والذي جاء كرد فعل على ما أسموه بدولة الرفاه الاجتماعي التي تآكلت مع الأزمة.
وعلى الضفة الأخرى فيما يتعلق بالتفاوت ليس فقط داخل الطبقات وعلاقتها ببعضهاـ بل انعكس هذا التقاوت داخل بنية النوع/ الجندر، حتى طُرح ما بات يُعرف بتأنيث الفقر( الفقر المؤنث)؛ وهذا الطرح ارتبط أكثر بأدبيات التنمية في دول العالم الثالث، وخاصة في الأرياف، والأحياء الفقيرة جداً: مثل مدن الصفيح في حواضر أمريكا اللاتينية، أو القرى في أفريقيا وآسيا، وحتى أحزمة فقر المدن في العواصم الكبيرة مثل نيودلهي في الهند، أو القاهرة في مصر العربية على سبيل المثال.
وتأنيث الفقر هنا يتطلب دراسة وضعية المرأة في هذه المجتمعات، وتم الربط بين وضعية المرأة الضعيفة في هذه المجتمعات؛ بسبب ما يكبلها من قيود اجتماعية وثقافية ودينية، وفي جانبٍ آخر نوعية الأعمال التي تمتنها المرأة؛ فكان اضطهاد المرأة مرهونٌ بوضعيتها كمرأة، وضعيتها ككأئن يمثل الحلقة الأضعف في التفاوت الطبقي الشديد الحدة، خاصة مع سياسات التكيف الهيكلي التي باتت أداةً أساسيةً في تعميق التفاوتات على مستوى القطاعات وبعضها، وعلى مستوى الطبقات وبعضها، وعلى مستوى الأقاليم داخل الدولة الواحدة.
وهذا يمكن فهمه من خلال فهمنا لمكانيزمات وديناميات حركة رأس المال؛ حيث أصبحتْ الرأسمالية نظاماً اجتماعياً واقتصادياً عالمياً، وقد ورثتْ عن النظم السابقة بنيتها الطبقية المرتبطة بالتفاوت الطبقي، وأضافتْ هي بحكم تطورها تفاوتات جديدة على كل الأصعدة كما أشرنا قبل أسطر.
وعندما نعود ثانيةً للجندر من خلال تحليل إيمي إس وارتون( علم اجتماع النوع: مقدمة في النظرية والبحث)، حيث تفند الزعم القائل: بأن الجنس يحدد الاختلاف بين فئتنين من الناس، مختلفين من الناحيتين الفسيولوجية والجينية، ومن ثم هذه الاختلافات الجنسية تخلق فئتين من البشر، و هو ما يُعتبر تمايزاً على مستوى البنية الفسيولوجية والجينية.
وفي مستوً أخر الذين نقدوا هذه الرؤية، اعتبروها تشبه أو تقترب من الحتمية البيولوجية، وقالوا بأن القوى الاجتماعية وليست البيولوجية هي التي تخلق التمايز والاختلاف بين البشر، وتجعل الرجل رجلاً، والمرأة مرأةً؛ وذلك ما التقطه الحركة النسوية في موجتها الثانية بذكاء، وعملتْ عليه ضاربةً بعرض الحائط الرؤية الحتمية لفكرة التمايز.
فض الاشتباك
بعد استعراض مكثف لكلٍ من مفهومي الطبقة والجندر، نستطيع القول: أنه لا يوجد تعارض إذا جمعنا العلاقة بين الاثنين، فالجندر يعبر عن حالة من اللامساواة النوعية بين الذكر والأنثى، والطبقة تعبر عن حالة من اللامساواة الاجتماعية؛ بسبب التفاوت في الدخول، وملكية أو عدم ملكية وسائل الإنتاج- بتعبير الاقتصاديين، وبتعبير الاجتماعيين( فكرة الملكية الخاصة كمصدر أساسي لعدم المساواة)؛ كما أن مصدر عدم المساواة في الجندر هي: التقسيمة البيولوجية المرتبطة بوظيفة كل من الرجل والمرأة في المجتمع.
قام المفكر المغربي عبد الصمد الديالمي في كتابه: سيسيولوجيا الجنسانية العربية بمقاربةٍ مفادها أن:" الذكورة والأنوثة ما هما إلا بنيتان اجتماعيتان وثقافيتان". وبالتالي في الاختلافات بين الجنسين تنبني من خلال البناء الثقافي عبر التنشئة الجنسية، وفي إطار النظام الاجتماعي السائد. هنا ربط الديالمي بين الجندر والطبقة بشكل غير مباشر، من خلال النظام الاجتماعي؛ لأنَّ الطبقة تشكل جزءً من بنية النظام الاجتماعي.
وعليه أيضاً كما ذهبتْ المفكرة اللبنانية مي غضوب في كتابها المشترك مع إيما سنكلير ويب( الرجولة المتخيلة: الهوية الذكريةوالثقافة في الشرق الأوسط الحديث) إلى أنَّ: الذكورة ليست معطى طبيعي بل هي بناء اجتماعي؛ مثلها مثل الأنوثة. وهو مذهب الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار وهي ترى أن المجتمع هو الذي يصيغ فكرة الذكر والأنثى، وبالتالي:" لا يولد الإنسان امرأة بل يصبح امرأة".
وهنا يمكن الربط بين الطبقة والجندر من منظور كلية النظام الاجتماعي- الاقتصادي السائد؛ فالتراتبية الاجتماعية( الهيراركية) أدتْ إلى تراتبية نوعية بمستويين: الأول: مستوى بيولوجي، والثاني: مستوى اجتماعي؛ فوضعية المرأة كنوعٍ مغاير حددتها هذه التراتبية بمستوييها المذكورين.
السيسيو-جندر( أو بناء حركة اجتماعية بين الاثنين)
لا يمكن فض الاشتباك إلا من خلال قراءة الجندر قراءة سيسيولوجية( اجتماعية)، مرتبطة بالاقتصاد السياسي للطبقة والجندرعلى السواء؛ و هو ما تحاوله الأدبيات النسوية الماركسية، ومدارس اليسار الجديد من خلال ربطها بين نشأة النظام الأبوي( البطريركي)، [ حالة اللامساواة النوعية)، بنشأة الطبقات( حالة اللامساواة الاقتصادية/ الاجتماعية) ومما يستتبع ذلك تعرض الفئات المهمشة طبقياً للاضطهاد والاستغلال؛ بل والقمع والكبح معاً مثل النساء وأصحاب الميول الجنسية غير النمطية( مجتمع الميم).
وكذلك لابد من مقاربة جندرية لوضع الطبقات؛ حتى نفهم وضعية الجندر في الطبقات العليا تكون مشابهة لوضعيته لدى الطبقات المتوسطة والدنيا؟ بصيغة ثانيةٍ هل وضع المرأة مثلا في طبقة غنية يكون مثل وضع المرأة في طبقة فقيرة أو متوسطة؟ مثل هذه الأسئلة تحتاج إلى استخدام مقاربة جندرية تلضم حبات العِقد الاجتماعي ببعضه مع المقاربة الاجتماعية والاقتصادية والأنثربولوجية.
وهناك محاولات مهمة وثرية يمكن الاستفادة منها مثل محاولات المصرية نوال السعداوي، والبرفسور الفلسطيني هشام شرابي الذي تتبع نشأة الأبوية في المجتمعات العربية، وأعطتْ مقاربته زخماً مهماً يمكن البناء عليه وتطويره؛ لأننا لا يمكن أن نغفل العلاقة بين المجتمع الأبوي وسيادة الذكورية كبنية، وبين التراتب الهرمي( الطبقي ) لمجتمعاتنا العربية تحديداً؛ وهو ما كانت تلح عليه نوال السعداوي في أحاديثها أو كتاباتها.
ومن أبزز الدراسات الحديثة ما أنتجه مؤتمر المركز الديمقراطي العربي ومقره مدينة برلين الألمانية: الجندر: قراءة عابرة للتخصصات في جزئين، وكان المؤتمر قد عُقد بين يومي 25 و26 كانون الأول ديسمبر 2021م، وكانت هناك خلاصات متعددة من خلال مجموعة الأبحاث المقدمة في المؤتمر.
ولذلك من لوازم الحركات المناضلة في منطقتنا العربية: أن تبني جسوراً للربط بين العدل الاجتماعي بوصفه تعبير عن رفض حالة اللامساواة السائدة، وبين العدل النوعي( الجندري)، وهما لا ينفصلان البتة؛ وليس من اللائق أنْ تحدث المصادمات بين رؤيتين الأولى: تقول بأولوية النضال من أجل العدل الاجتماعي، والثانية: تقول بأولوية النضال الجندري؛ ويتحمل مسئولية هذا اللغط فئتان: الأولى اليساريون التقليديون بكل مدارسهم، والثانية: الحركات النسوية المتشنجة والكارهة للرجل، فلا يكون الرجل إنساناً، ولا المرأة إنسانة؛ بدون أن يكون المجتمع إنسانياً، وإنسايته هذه أساسها وقوامها العدل الاجتماعي والحريات عامها وخاصها، والانفتاح العقلاني والديمقراطي.