فرض سياسات النسيان



امال قرامي
2022 / 11 / 6

تواجه كلّ حكومات العالم مجموعة من الأزمات المرتبطة بما خلّفه وباء كورونا من نتائج وخيمة على الاقتصاد، وما نجم عن الحرب الروسية الأوكرانية من مصاعب في التزود ببعض المواد الأولية. غير أنّ ما يميّز حكومة عن غيرها هو حسن إدارة الأزمات من خلال الاستئناس بخبرات رجال الدولة و المستشارين الحكماء وغيرهم ،وقدرتها على صياغة برامج واضحة ثمّ عرضها بكلّ شفافية على البرلمان وعلى المواطنين واستعدادها بعد ذلك للمساءلة والمحاسبة. وليس الرجوع إلى أهل الدراية والخبرة والعلم إلاّ اعتراف باستمرارية الدولة والمؤسسات وحدوث التراكم المعرفي من خلال فعل تنشيط الذاكرة: إذ يتذكّر البعض ما حدث في سنة كذا ومع أزمة كذا، وكيف ذلّلت الصعوبات وكيف تم التفاوض...
غير أنّ ما يحدث في بلادنا هو العكس تماما، أي إرادة النسيان وفرض سياسات النسيان المؤدية إلى القطيعة بين الأزمنة والتجارب السياسية المختلفة، وإسدال الحُجُب على الخبرات والشخصيات الوطنية التاريخية التي تحمّلت مسؤوليتها في مختلف المحطات السياسية والاجتماعية المفصلية. يُضاف إلى كلّ ذلك شطب المسار الذي أرسته مختلف التجارب السياسية وطمس التطوّر الحاصل من خلالها، واستبدال التنسيب بالتعميم. فكلّ الحكومات السابقة منذ دولة الاستقلال إلى حدّ اليوم فاشلة وفاسدة ولم تكن في خدمة الشعب... والواقع أنّه ما أمكن لسياسات النسيان أن تترسّخ لولا تواطؤ أغلب وسائل الإعلام التي باتت تعرض مواد غايتها الأساسية التنويم ومأسسة الجهل والترويج لممارسات مُهينة وعنيفة كالتنمّر والتلصلص على الحيوات الشخصية للناس، والتسليع لأجساد النساء والترويج ل تفاهة الخطابات وغيرها. وهنا تحدث قطيعة أخرى مع صنف من الإعلام الجادّ والمسؤول الذي كان يحترف إنتاج البرامج الثقافية أو برامج الترفيه الجامعة بين الإمتاع والمؤانسة والمستندة إلى ثقافة متينة ومبادئ وقيم.

وعندما تغيب السياسات الإعلامية والمبادرات ويتقلّص الابتكار يغدو الركون إلى الأحداث اليومية (ثقافة كلّ «يوم ويومو»، «احيني اليوم واقتلني غدوه...») والبوز والوقوف عند تصريحات من هبّ ودبّ على الفايسبوك أيسر طريقة لمضاعفة أعداد المشاهدين أو المستمعين الباحثين عن النسيان: نسيان واقع يزداد في كلّ يوم تعقيدا. ولكن ما لا يدور في خلد هؤلاء المسيئين للمشهد السياسي والإعلامي والثقافي هو أنّ التاريخ لن يتذكرهم وأنّ مآلهم النسيان .

إنّ المؤمنين بأهميّة المقاربة الشخصية للسياسة وبفرض سياسات النسيان يتغافلون عن مسألة جوهرية وهو حضور المقاومة، فمهما حاول البعض إحداث القطيعة وأعرضوا عن مأسسة سياسات الذاكرة فثمّة إرادة للتذكّر ورغبة في فهم التاريخ على أنّه مسار تتعدّد فيه التجارب وأنّ المرء يتعلّم وينتبه ويدرك ويعتبر ويستخلص الدروس من خلال استرجاع الأحداث وأفعال الشخصيات القيادية وخطاباتها و...فيقارن وينتقي ويطمس ويحنّ إلى الماضي فيبقى أسير»النوستالجيا و قد يتجاوز ويمضي ليستشرف المستقبل...
ولاشكّ عندنا أنّنا سنتذكّر ذات يوم أنّ المقاربة الشخصية للسياسة حين ألغت كلّ إمكانية للحوار والنقاش والتفاعل وتقييم التجارب السابقة بكلّ موضوعية ولم تعترف بأهميّة المساءلة في العملية الديمقراطية قد وفّرت الحصانة للوزراء/ات فصاروا بدورهم، يتصرفون ولا يأبهون بالرأي العامّ، وحده الرئيس الذي سيحاسبهم إن بلغته التجاوزات أو قدّر أنّها بالفعل تستحقّ المحاسبة. كما أنّنا سنتذكر أنّ المقاربة الشخصية للسياسة فوّتت علينا فرصة اختبار قوّة الأفكار ومنطق المحاججة وقيمة المبادرات وتقييم أداء السياسيين من مختلف التوجهات وفهم صراعهم من أجل التموقع.
وبين إرادة النسيان وإرادة التذكّر ديناميكية تثبت الوعي الذي اكتسبه التونسيون/ات على مرّ التاريخ، وهو وعي جعلهم يدركون أنّ فرض سياسات النسيان ليس إلاّ سلاحا سياسيا من بين أسلحة أخرى تلجأ إليها السلطة لإعادة تشكيل الوعي وبناء سرديات جديدة.