التمايز في اللغة او رسم الحدود بين المذكر والمؤنث



قاسم علي فنجان
2023 / 1 / 4

(اللغة هي المرآة الصادقة التي تعكس صورة واضحة لما عليه افراد المجتمع من ثقافة ونظم وعادات وتقاليد واتجاهات) ... برونيسلاف مالينوفسكي 1884-1942.

اغلب التعريفات للغة تعطيها طابع اجتماعي، أي انها نتاج عمل وممارسة جماعية؛ قليلة هي الأبحاث التي اشارت الى انها نتاج فردي، فهي أداة التواصل الأكثر أهمية بين البشر، لهذا فأن هناك علاقة قوية وفاعلة بين اللغة والمجتمع، تتجلى تلك العلاقة بمعرفة من يهيمن على انتاج اللغة، بالتالي لا يمكن ان يقال ان اللغة حيادية، فهي تٌمايز في سلوكها الاجتماعي بين الانسان والانسان الاخر، على أساس الجنس والعرق واللون والطبقة.

في المجتمع الذي نعيش به، هناك تمايز واضح بين المرأة والرجل، وعلى كل المستويات، فهناك رسم حقيقي للحدود بين المذكر والمؤنث؛ في الملبس وفي طريقة المشي والجلوس وفي طريقة التحدث.. الخ، أي ان هناك ضوابط وسلوكيات اجتماعية معينة وضعها المجتمع لأفراده ليسيروا عليها، وتحديدا وضعها الجزء المهيمن من المجتمع، وقد غدت هذه الضوابط والسلوكيات "قانونا طبيعيا"، او كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو 1930-2002 "تحول التاريخ الى طبيعة" او كما يقول في مكان آخر: "انه يشرعن علاقة هيمنة من خلال تأصيلها في طبيعة بيولوجية هي نفسها بناء اجتماعي مطبّع"، فعندما يقال على سبيل المثال "البنت الصغيرة لا تتحدث هكذا" فهو يرسم حيزا ثقافيا لسلوك البنت، ومن خلال "المراكمة والتكثيف" يجعل الواقعة الثقافية حالة طبيعية، وبلغة أخرى إعادة انتاج علاقات الإنتاج دائما وابدا وقنونتها هي الكفيلة بإبقاء تلك التمايزات وتلك الصور.

اذن "التذكير والتأنيث مفاهيم ثقافية وتصورات ذهنية وليست قيمة طبيعية" كما يذكر عيسى برهومة في كتابه "اللغة والجنس"، لكن جرى تفريغ الجسد المؤنث من اللغة، بسبب كما يقول عبد الله غذامي في "ثقافة الوهم": "ان ذلك عائد الى التصور الثقافي الذي يرى ان جسد المرأة خال من الفعل"، وقد كشفت اللغة عن ذلك التصور الثقافي بشكل واضح جدا في الكثير من مفرداتها: "فوق، تحت| جامد، رخو| مستقيم، منحني| جاف، رطب| قاس، ناعم| ساخن، بارد...الخ والتي تقود النساء الى تصور سلبي عن جنسهن الخاص بهن" بورديو. بل أدى الى تقسيم للعمل بين الجنسين على مدار التاريخ.

لا يوجد دليل علمي بيولوجي على ان الصوت مثلا يختلف عند الرجال منه عند النساء، لكن هيمنة الخطاب؛ و "ما هو صواب يعتمد على من يهيمن على الخطاب" كما يقول فوكو؛ نقول هيمنة الخطاب الذكوري وعلى مر التاريخ الطويل حدد صوت المرأة، وجعل له نبرة معينة: هادئ، لين، ناعم، خافض، لطيف، رقيق، ذو نغمة موسيقية. بعكس صوت الرجل: اجش، قوي، صادح، عال؛ اما في هذه المجتمعات فالخطاب الذكوري حجب صوتها تماما "صوت المرأة عورة"، و"تكلم الرجل نيابة عنها، كلاما ينسجم مع فحولته وسلطته الذكورية"، كما يقول هيثم سرحان في "خطاب الجنس".

لا يمكن تخيل انه كانت هناك فروق لغوية في المجتمعات البدائية، خصوصا منها الموغلة في القدم، فهذه الفروق هي نتاج ثقافة طويلة وصل اليها الانسان في مرحلة ما، فبدأ يعطي لكلماته معان محددة بحسب السيطرة والهيمنة، فصارت لتلك الكلمات سلطة " اه منك يا سلطة الكلمات العجيبة، فبالإيمان البسيط في وسعك اكتساء المعنى الذي نهوى" وليم وردزورث.

اخيرا، وكما تقول المؤرخة غيردا ليرنر في كتابها الرائع "نشأة النظام الابوي" وبشكل جدا صادق:"فأن السجل المدون والمفسر لماضي السلالة البشرية هو سجل جزئي فحسب، لأنه يحذف ماضي نصف البشرية، وهو مشوه، لأنه يروي القصة من وجهة نظر النصف الذكري من البشرية فحسب".