في ذم الفلاسفة والقديسين



نيرمان صالح
2023 / 1 / 18

يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي إن بعض المفكرين قالوا بوجوب حجر المرأة في البيت وتشديد الحجاب عليها وذلك بحجة أنها ذات عقل ناقص لا تستطيع به أن تحمي نفسها من نزوات العاطفة، ونسوا أن عقلها لم ينقص إلا من جراء الحجاب. فهم سببّوا ضيق عقلها بالحجاب، ثم أرادوا حجابها بدعوى ضيق عقلها. خلقوا السبب بالأمس ويريدون اليوم أن يتخذوا نتيجة هذا السبب حجة له.
ما يتحدث عنه الوردي هو مرحلة سابقة لتلك اللحظة من الوعي بالأمواج العالية المهولة كما تصفها فرجينيا وولف التي تحملكِ إلى أعلى القمم ومن ثم تهوي بكِ إلى وديان جهنمية سحيقة. ومتأخرة جداً أيضاً عن ذلك الطريق الثالث الذي بشرت به فرجينيا وولف: "غرفة تخصها وحدها وبعض المال".
إنها مرحلة الحريم ما قبل "العهد الجديد" وما بعده، حيث يكون الوضع الطبيعي لجنس النساء هو المرتبة الأدنى من الناحية العقلية والأخلاقية والفيزيائية.
ولنعد إلى الوراء قليلاً ونطرح السؤال التالي:
هل تعتبر المرأة إنساناً؟
وهذا السؤال يشبه سؤالاً قديماً طرحته الفلسفة والبحوث الاجتماعية والأنثروبولوجية: هل يعتبر الأسود إنساناً؟
ليس على مستوى الشكل والإطار الثقافي أو الانتماء البيولوجي فقط، إنما على مستوى الماهية. صاحب ميتافيزيقا الأخلاق (1785) الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي كان يرى أن الإنسانية لا تتجلى بشكلها الأمثل إلا في العرق الأبيض. أما "الهنود الصفر" فلديهم قدر أقل من الموهبة، بينما "الزنوج" فهم أقل من الصفر منزلة. وذلك لأن "زنوج القارة الأفريقية بطبيعتهم لا يملكون إحساساً يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة." وديفيد هيوم حكيم الإنجليز تحدى وفقاً لرواية كانط، أن يأتي أحدٌ بمثالٍ واحد على "زنجي" أظهر أدنى قدر من الموهبة! حتى أنت يا هيوم؟!
ولنبقَ قليلاً مع كانط كي تتضح الفكرة على أكمل وجه ونطرح عليه سؤالاً حول الأسباب التي دفعته للتمييز بين الأبيض والأسود من حيث الماهية؟
يجيب كانط بلا تردد: الفروقات بين الأعراق ليست لونية أو شكلية، بل هي بيولوجية وروحية معاً، كيف يا سيد كانط؟ يقول: "تظهر الفروق بين الأسود والأبيض بوضوح في اختلاف القدرات العقلية كما هو واضح في اختلاف لون البشرة. وعندما نقول: هذا رجل أسود من رأسه لأخمص قدميه فإن هذه العبارة تعطي تفسيراً منطقياً لِم نعتنا ما قاله الأسود بالغباء والجهل".

وكان كانط التنويري من جماعة "واضربوهم"، إذ ينصح كل سيد بأنجع طريقة لتهذيب وترويض المتوحشين لا سيما إذا كانوا من العرق الأدنى، السود، يقول متبجحاً: "استعن بعصا البامبو فهي أفضل من السوط، كي يعاني الزنجي من آلام مبرحة، ولا تقلق فجلد الزنوج سميك ولن تؤذيه ضربات السوط الخفيفة، ولكن كن حريصاً ألاّ يموت تحت يديك تحت ضربات البامبو. فالزنجي حساس للغاية، ولديه حس بالكرامة والشرف ولذا هو يخشى الجلد!".
ويمكن أن نستبدل كلمة "زنجي" بكلمة "امرأة" ولن يتغير المعنى، ويمكن أن نضيف سؤالاً بديهياً حد السذاجة: إذا كانت الأعراف والأنساق الثقافية عادات وليست أقداراً إلهية، فلماذا يطلب من النساء أن تتعامل معها وكأنها جزء رئيسي من طبيعتهن لا من "طبيعة" مجتمعهن؟
وهل تراني أبالغ حينما أزعم أن الأيديولوجيات التي تعتقد في سواد البشرة عيباً ونقصاً ماهوياً ثابتاً هي عينها التي كانت تعتقد في المرأة نقصاً تكونيّاً لأنها كما يقول توما الإكويني "كائن عرضي"؟
ومن ثم لماذا نتجاهل الظروف الشخصية للفيلسوف، أو القديس، أو المتحدث الرسمي بهمسات السماء، وكذلك إطاره الثقافي وعلاقته بنسائه أو عبيده أو ربما خوفه المرضي من "الإخصاء"، أقول لماذا نتجاهل السياق الاجتماعي الذي أوحى لبعض الفلاسفة وممثلي السماء بأفكارهم العنصرية والبطريركية؟!

بعبارة أخرى، قبل أن نفغر أفواهنا مندهشات من رأي الفيلسوف العبقري في المرأة أو في "الزنوج" علينا أن نطرح أسئلتنا بطريقة صحيحة ونبدأ في مساءلة النسق الثقافي الذي أوحى بوضعية المرأة أو العبيد في المجتمع.
فحتى المُحدّث، الذي تعود الإصغاء إلى وشوشات الملائكة، قد يتأثر هو ورفاقه من الملائكة عليهم السلام باليومي والاعتيادي ومعايير الصواب والخطأ في بيئته الاجتماعية، لأن الشَّارع/ سانَّ الشريعة يتأثر من حيث لا يدري بما هو سائد في "الشارع" حتى عندما يبدو كأنه نقيض له، فالضد ليس ضداً على نحو مطلق، ولذلك كانت اللغة فضيحة الشرع والشارع معاً. فالمرأة في اللغة العربية بحسب تاج العروس، هي: الجارية، والجارة، والحرث، والفراش، والعتبة، والنعل والقارورة، والقوصرة، والدمية، والنعجة، والشاة.
وهي من مرأ، أكل الطعام وتلذذ به، وهي وعاء الذكر يلجأ إليها للتمتع كما يتمتع بوجبته السريعة. وفي الاصطلاح الشرعي تعرف المرأة المطلوبة للزواج بأنها "محل والمحليّة مشتهاة"، وفي عقد النكاح "استباحة الانتفاع بالجملة" وهو "معاوضة البضع بالمال"، وجاء في لسان العرب: موضع الغشيان. ولذلك قال كارل ماركس رضي الله عنه إن الوعي هو ذلك البناء الفوقي الذي تتجلى فيه جميع الأنشطة الإنسانية، ولا نستطيع إطلاقاً أن نتمثل الوعي بمعزل عن الظروف الاجتماعية.
وإذا أردت أن أشرح كلمات ماركس بعبارة موجزة سأقول: من يعش بين أحضان الإماء والجواري لن يرى النساء إلا كالجواري، فالرجل في نهاية الأمر ريحانة وليس بقهرمانة!

الفيلسوف والمرأة

أفلاطون على سبيل المثال لم يدعُ للحب العذري بين الرجل والمرأة كما هو شائع، بل كان ميالاً للمثلية الجنسية على حساب الجنسية المغايرة. ولأنه كان من دعاة التسامي بالجنسية المثلية التي كانت منتشرة في المجتمع اليوناني، صداقة الرجل بالرجل التي يعبر عنها عادة بالحب الأفلاطوني، أي إعلاء للمثلية، اختزل العلاقة بين الرجل والمرأة في الإنجاب كيلا يفنى البشر. في الميثولوجيا اليونانية يُعزى للإله زيوس المزواج سبب شيوع المثلية في المجتمع اليوناني، فهو أول من اتخذ خليلاً ونديماً من الجنس نفسه رغم تعدد عشيقاته، إذ لم يستطع مقاومة جمال الراعي غانيميد فحلق به إلى جبل أوليمبوس. وربما هذا يفسر لماذا ينسب خلق الرجل للإله المتبصر والمتروي بروميثيوس، بينما يقال إن من خلق المرأة هو الإله الأعرج والمشوه هيفايستوس.
وبما أن التراث اليوناني كان يحمل في أحشائه عداءً صريحاً للمرأة وللعبيد ولكل ما هو غير يوناني، تأثر الفيلسوف اليوناني بذلك فكان انعكاساً لعصره وأهوائه في كل موضوع لم يخضع للمساءلة الفلسفية. ومما يجدر ذكره هنا، أن أفلاطون في محاورة الجمهورية بدا مختلفاً عن صورته التي شكلتها نصوصه الأخرى، لدرجة اعتبرته بعض الدراسات النسوية أنه أول فيلسوف دعا للمساواة بين الرجل والمرأة. وهذا كان رأي ديورانت أيضاً، الذي خلص إلى أن أفلاطون كان من أقوى الأصوات الفلسفية نصرة للمرأة.

في تشريعات أثنيا وأسبرطة، لا يحق للنساء والعبيد بأن يكون لهم رأي في الشأن العام، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، فليس في مقدور أي امرأة أو صبي أو حيوان أن يحدد ما هو صالح له وأن يقوم بعلاج نفسه بنفسه، ولهذا فالمنزل كان للنساء والعبيد سجناً منتجاً، وهذا ما أمرت به الآلهة كما كان يعتقد اليوناني المؤمن، يقول زينوفون:" لقد أمرت الآلهة بذلك وصدّقت عليه قوانين البشر، فمن الأشرف للمرأة أن تظل داخل المنزل... ولو أن الرجل أهمل ما حددته له الآلهة، فسوف تعاقبه لأنه أهمل في واجباته ولن تغفر له"، وهذا زينوفون الذي كان من دعاة عزل النساء عن الواقع الاجتماعي، شغف حباً بالفتى كليناس الذي فضله على زوجته "الجاهلة"!
الفلسفة، كالدين، لا يمكن أن تتجاوز زمانها الخاص. وهيغل كاره النساء، والمتأثر بالمركزية الأوربية البيضاء، يقول: إن الفلسفة هي عصرها وخلاصته في الفكر. ومن الحمق أن نتصور إمكان تخطي الفرد لزمانه. والفلسفة ليست استثناء لهذه القاعدة.

القديس والمرأة
أدرك يسوع واقع كراهية واحتقار قومه للنساء، فاليهود كانوا لا يصافحون النساء لنجاستهن، وكلنا يعرف قصته الشهيرة مع جماعة موسى ومريم المجدلية. عندما قالوا له إن الزانية ينبغي أن تُرجم كما أوصانا موسى، وقد هموا برجمها صرخ بهم: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
وعرف عن يسوع على عكس رسله وحواريه أنه لم يمنع اختلاط الرجال بالنساء، ولم يكن بحسب الروايات المسيحية من المتحمسين لعزل النساء عن الواقع الاجتماعي، وربما سبب ذلك هو تأثره بتعاليم أمه السيدة مريم التي ضاقت ذرعاً بتعاليم وأخلاقيات مجتمعها الأبوي، المجتمع الذي ظهرت فيه المسيحية والتي أضفت على ما سبقها من أفكار عنصرية وطبقية ضد النساء والعبيد والأغيار من مخلفات العادات والتقاليد اليهودية والرومانية واليونانية مسحة قداسة، وهذا ما يمكن أن نلاحظه في كتابات القديس بولس التي عبرت عن استعارات رجعية للتراث اليوناني واليهودي والروماني، وفي هذه الحاضنة ظهرت أسطورة الخطيئة الأولى، كإعادة بعث لقصة الإله الأعرج هيفايستوس، وأسطورة بندورا، فصارت المرأة مجدداً مصدراً للغواية وعنصرَ فساد وشر.
كان الرجل الروماني يطرد زوجته لو رآها تمشي في الشارع بغير خمار، وهذه جريمة خطيرة لا تغتفر في نظر حراس الفضيلة والحرافيش. والقديس بولس روماني المولد والذي كان حبراً يهودياً قبل دخوله الدين الجديد، لم يختلف في تكوينه النفسي والثقافي عن أي رجل روماني غيور ومتسلط يتعامل مع النساء كما يتعامل السائس مع الأغنام، وتنقل لنا بعض الروايات التاريخية أن بولس وقع في غرام حسناء من أورشليم لكنها رفضته ربما لأنها لاحظت أنه كان غليظ القلب متجهم الوجه، فالمرأة تكره الوجوه التي لا تمطر، أما جريح الحب فإنه يُنمي كراهية شديدة تجاه مصدر ألمه، ولهذا ظل بولس طيلة حياته يذّكر كل امرأة سيئة الحظ تتعثر في طريقه بأنها أدنى منزلة من الرجل، هكذا يقول الله وسيدنا المسيح، أطيعي الكنيسة ولا تجادلي ولا تتساءلي، يقول في رسالته إلى "أهل كورنثوس": فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده. أما المرأة فهي مجد الرجل.. لهذا ينبغي أن يكون لها سلطان على رأسها". ويقول أيضاً في الرسالة إياها:" وهل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة؟". بولس الذي صمت مرة واحدة من أجل امرأة خلبت لبه، أراد من كل نساء الأرض أن يصمتن:"لتصمت نساؤكم في الكنائس. ألا أنه ليس مأذوناً لهن أن يتكلمن، بل يخضعن كما يقول الناموس أيضاً. لكن إن كن يردن أن يتعلمن شيئاً فليسألن رجالهن بالبيت...". وصوت المرأة في الثقافة اليهودية كان عورة. وكما يقول اليوناني إن تاج المرأة الصمت. وفضيلتها الخضوع للرجل. وبما أن الرب خلق آدم قبل خلقه حواء كما يقول بولس، فإن ذلك مزية تجعل الرجل يتفوق على المرأة. وقد سخر الأديب الإيرلندي برنارد شو من هذه الفكرة في حوار تخيّلي بين آدم وحواء حول أفضلية السبق الدينية:
- آدم: أنا أفضل منك؛ لأن الله خلقني أولاً!
- حواء: كلا، أنا أفضل منك؛ لأن الله خلقك في البداية لتكون في شرف استقبالي.
في الواقع، بولس لم يأتِ بجديد، ولم يكن مختلفاً في سيرته وسريرته عن قديسي الأديان الأخرى، غير أنه أضفى مسحة قداسة على الأعراف الاجتماعية والاقتصادية التي سبقت ظهور العهد الجديد، كأي قديس يتخذ من الدين الجديد متنفساً لكل عقده الطفولية. ولا بد لي هنا أن أقلب عبارة زينوفون حول وضعية المرأة في المجتمع كي ينسجم الفكر مع نفسه: ما هي إلا عادات خلقها البشر فصدّقت عليها الآلهة. وقس على ذلك!