تشابهات رصد المجتمع بسجن النساء في المسلسل المصري وفيلم شيكاغو الأمريكي



إيرينى سمير حكيم
2023 / 1 / 22

لا شك أنَّ من أهم أركان رصد المجتمعات وتقييمها، هو حال المرأة فيه، اجتماعياً وثقافياً، ومستوى وعيها فيه، ومستوى الوعي الجمعي بها، كقيمة ودور وحقوق، ولا شك أيضاً أنَّ من أهم البقاع الاجتماعية التي يتم فيها رصد حال المرأة اجتماعياً، وقيمتها إنسانياً، وبالتالي حال المجتمع ككل، هو "سجن النساء"، لما يحتوي على قصص اجتماعية واقعية، وقوالب متنوعة من الأنماط السلوكية، والدوافع المختلفة، التي تُظهِر مدى تفاعل المرأة مع المجتمع ومدى فِعله بها، لذلك نجد أنَّ الكثير من الأعمال الدرامية التي غاصت في أسرار شخصية ونفسية المرأة، وتعرضت للكثير من المسكوت عنه في قضاياها الاجتماعية، مما يُهمَّش الحديث عنها، قد اختارت "سجن النساء" لمكان أحداث القصة والأفكار المراد مناقشتها بتشعُّب ومصداقية، وهو اختيار صائب وصادق حقاً لتحقيق هذا الغرض، ذلك حتى وإن كان منه ما تقدم بإدانة المجتمع بإدانة المرأة نفسها، في ظل قصص تعكس ظروف لظواهر اجتماعية خاصة، وفي هذا أتناول مقارنة فنية اجتماعية لعملين دراميين، قد اتفقا على تقييم ورصد المجتمع بحال المرأة من داخل سجون النساء، ويوجد فيهما من نقاط الاختلاف والاتفاق التي تؤكد جميعها، على أهمية معرفة حقيقة ما يمر به المجتمع من تدهور أو تطور، من واقع وقائع ما مرت به النساء، مروراً بهذا المكان الكاشف لتفرعات ومسارات الحقائق، وهو "سجن النساء"!

في اتفاق غير مباشر على المصداقية، بين كاتبتين للمسرح، لم يلتقيا إلا بمصادفة على إبداع خشبته، بهدفٍ واحد، وهو تقييم المجتمع ونقده درامياً، من خلال موقع "سجن النسا"، ولقد كان التلاقي غير مباشر بين ثمر إبداعهما، فقد كان اللقاء فكرياً، كتابياً وغيابياً، بين كل من الصحفية والكاتبة الأمريكية Maurine Dallas Watkins (1896 – 1969)، مع الأديبة المصرية المناضلة، والكاتبة المصرية فتحية العسال (1933 – 2014).

أولاً:
المكان: شيكاغو، الموهبة: أمريكية، والزمن: متعدد

في عام 1924م كُلِّفت الصحفية مورين داللاس واتكينز (Maurine Dallas Watkins)، من قِبل جريدة شيكاغو تريبيون الأمريكية (Chicago Tribune)، لتغطية محاكمة القاتلات Beulah Annan وBelva Gaertner، ففي بداية عام 1920م انصب اهتمام الصحافة والجمهور على متابعة جرائم القتل التى ترتكبها النساء، خاصة تلك اللواتي قَتَلن أزواجهن أو عشاقهن، وسلسلة طويلة من القاتلات اللاتي تم تبرئتهن، أو أُعفي عنهن من قِبَل المُحلِّفين لمقاطعة كوك، الذين كانوا جميعهم من الرجال، في حين أنَّه قد أذيعت سمعة في شيكاغو حينها، أنَّ النساء الجميلات والشهيرات لا يمكن إدانتهن، أما اللاتي لسن كذلك فكنّ يواجهن الموت بالشنق، وبالرغم من أن موقف الصحف تجاه هرلاء النسوة حينها كان متناقض، إلا أنهن أصبحن من المشاهير.
ولقد استفز هذا الوضع الكاتبة والصحفية مورين لأن تُصرح على الملأ، بأنَّها قررت أن تكتب مسرحية مستوحاة من حياة القاتلتين اللتين قامتا بتغطية محاكمتهما، ونقل تفاصيل الأحداث بواقعية، لتستعرض حياتهما في السجن وكواليس تلك المحاكمات، وكيف كانت تُطبخ تفسيرات المحاميين ودفاعاتهم الدرامية عنهن، وكيف كن يعيشن في السجن وبعد خروجهن كنجمات سينمائيات.

وبالفعل قد لاقى عرضChicago كلّاً من الجماهيرية والنقد المؤيد، وتم تحويل المسرحية إلى عرض برودواي في عام 1926م وتم عرضه 172 مرة، حتى إنَّ المخرج الأمريكى Cecil Blount DeMille قام بتحويل المسرحية إلى فيلم سينمائي صامت عام 1927م.

وفي عام 1975 كان الإفتتاح للعرض المسرحي الأول لها بمعالجة غنائية استعراضية كإنتاج لبرودواي، وتم عرضه 936 مرة حتى عام 1977، وكان تصميم الرقصات لـBob Fosse، والموسيقى لـ John Kander، والكلمات لـ Fred Ebb، وقد لاقت من النجاح الجماهيرى ما جعلها مطمعاً للفنانين الاستعراضيين أن يستمروا في عرضها وتناولها بتصميماتهم الحركية الخاصة حتى الآن.

وفي عام 2002 قدم المخرج المسرحي والسينمائي، ومصمم الرقصات المتميز Rob Marshall فيلم شيكاجو Chicago، حيث قام بنقل عرض البورودواي إلى فيلم سينمائي، يحمل بصمته الخاصة في التهكم على المجتمع، وقد ساعدت إمكانيات العرض السينمائي على التوسُّع في شرح وتوصيل الفكرة، بتفاصيل فنية أكثر تعمقاً، وإتاحة فرص أكبر للسخرية الأقوى تأثيراً، من تلك المتاحة على خشبة المسرح، فجاء تصميم الرقصات المُعشَّق في قلب الأحداث الدرامية مع النص، بطابع كوميدى ساخر أشبه بالكوميديا السوداء، وإن جاز التعبير لتشبيه الرقص في الفيلم بالرقص على جثث الضمائر المجتمعية، بتشبيهه بالرقص الأسود على وزن تعبير الكوميديا السوداء، فبالرغم من ضحكك كمشاهد على تلك السخرية الكوميدية، واستمتاعك بالموسيقى ورشاقة التعبيرات الحركية والجمل الموسيقية، وعمل المونتير المحترف الذى قام بالمونتاج ليعرض المَشاهد ببراعة بين حركة ونص، إلا أنك تخرج بطاقة سلبية مُحمَّلة بعوار هذا المجتمع الوقح بدمامة فساده!.

وبالرغم من أنَّه عمل سينمائي لا تزيد مدته عن ساعة وأربعين دقيقة، إلا أنَّه يحتاج إلى المشاهدة عدة مرات لملاحظة تفاصيله، وإدراك كل الإشارات والرمزيات بين ثنايا الحركات والكلمات، المُطعَّمة بالملابس والإضاءة وباقى أوجه السينوغرافيا، التى نقلها المخرج من خشبة المسرح إلى مواقع التصوير.

وبالرغم من أن تنوع الأماكن التى تعكس الواقعية في الفيلم كان قليل، إلا أن الخيال أو الإشارات بحقيقة المعانى في رؤية الكاتبة، كان يكرر تجسيد تلك الأماكن، إنما برؤية مختلفة، حيث كان يحيل تلك الأماكن الجادة من سجن وقاعة محكمة إلى ملاهٍ ليلية، يُعرَض عليها برمزية، ضمير العدل والأمانة الصحفية للبيع، كما يُعرض للبيع في تلك الأماكن المشبوهة بالفنون المُبتذلة، الأجساد والأخلاق، كأشياء رخيصة وبخسة.

ثانيا:
المكان: مصر، والموهبة، مصرية، والزمن: متعدد

أما عن الإبداع المصري، ففي عام 1982م قامت الكاتبة الثائرة فتحية العسال بعمل نافذة من زنزانتها الخاصة في السجن، تطل على خبايا المجتمع وجذور حقائقه، حين سُجنَت بسبب مشاركتها في مظاهرات رافضة لاتفاقية كامب ديفيد، وقد نحتت هذه النافذة الفذَّة بقلمها، حيث قامت بتدوين ملاحظاتها الحيَّة عمَّا عاشته، وعانت منه في السجن هي ومن معها من سجينات، وكانت النافذة هى مسرحية "سجن النسا" التى كتبتها عندئذٍ، وقد قُدِّمَت في التسعينات على خشبة المسرح القومى، من إخراج عادل هاشم، وبطولة الفنانة الراحلة ماجدة الخطيب، التي يجدر الإشارة إليها هنا، أنها عاشت تجربة شخصية أدخلتها السجن هي أيضا، وهذا كان من الأسباب التى أكسبت هذا العمل مصداقية في الاختيار والتمثيل!

ثم في عام 2014 تناولت الكاتبة مريم نعوم هذا النص المسرحي، لتضع له معالجة من بلورة درامية تُشكِّل مسلسل تلفزيونى، وقامت بنسج الحوار له بالتعاون مع الكاتبة هالة الزغندي، والإخراج لكاملة أبو ذكرى، حيث انتهجت الدقة والتشعب في التفاصيل المادية والمعنوية بطريقة خاصة في العمل، فلقد اخترقت بكاميرا إخراجها ضمائر الشخصيات، مراقبة وفاضحة لتفاصيل حياتهم ويوميات مجتمعاتهم، ذلك مع توفير جو خاص من تأثير قوي لموسيقى تامر كروان، التي تبدو وكأنَّها تُطلَق من مشاعرهن، لتنساب من بين أصفادهن المادية والنفسية، وعقد مجتمعهن البخيل وعياً وعدلاً، فلقد تجلى تميز الإخراج وحساسيته للمعاني والرمزية، وانعكاس الحقائق، في التفاصيل الدقيقة التي تكشف كل مستور مُغطى باحتقار جماعي للمعاناة والتفهم!، وذلك مروراً بإظهار الأظافر المتسخة عند القتل، وتصوير نزول قطرات الماء على ظهر الخادمة الشابة كضربات الجلد، حيث تمارس نظافة إجبارية قهرية لا ترحم اختيارها، وفي استعلان مسام الوجه عند المواجهة والبَوح للشخصيات، والاهتمام بدرجات المكياج المتنوعة طبقاً للتطورات المختلفة للشخصية، والمشاهد التي تفضح تناقضات المواقف وسلوكيات ردود أفعالها، بين الحالات الإنسانية المتشابهة.

ففي مقابل الرؤية الاستعراضية التى قُدمت في فيلم شيكاغو الأمريكي، والتى تعددت فيها الرمزيات والإشارات، التى مُزجت مع تداخلات درامية متنوعة الطباع الفنية، كما وظفها "مارشال" في فيلمه، وضعت المخرجة كاملة أبو ذكرى بمعاونة المعَالجة الدرامية الجديدة للكاتبة مريم نعوم، نفس الشخصية الواحدة، أمام عدة مرايا تعكس خباياها، حيث مرايا تعكس السجن المعنوي الخاص للنفس، وسجن المجتمع، والسجن المادي الحائطي، لتتشعب في انعكاساتها بطرق تعبير مختلفة، تبدأ بإشارة واضحة من أول مشهد في تتر المقدمة، حيث نظرة "غالية" السجانة إلى نفسها في المرآة (والتى أصبحت مسجونة فيما بعد)، ثم عودتها بالنظر ثانية كتعبير عن ملاحظة النفس وتأملها، وهذه الرمزية تعد قاعدة انطلاق للمواجهات التى يعدها المسلسل داخل حلقاته، حيث ينتقل إلى الرمزيات غير المباشرة، التي تزرع المرايا الدرامية، لمواجهة الأنفس مع نفسها، ومع بعضها البعض.

ويساهم في ذاك الغرض، الموسيقى التصويرية التى تتسرب إلى داخل نفس المُشاهد، وكأنها تُعزَف من أعماق نفوس الشخصيات المُمثَلة، ومن بين مواقفهم وأيام حياتهم، وكذلك زوايا الكاميرا التى تبدو وكأنها كاميرا خفية زُرعت في حياة هؤلاء الأشخاص، تتلصص على حياتهم وتفضح لنا أسرارهم، فقد كانت الكاميرا بمثابة أسد جائع يجول ملتمساً فريسة يلتقطها بأسنان لقطاته، لا ترحم ولا تهدأ، فهى ترصد الجميع، وتراقب جميع التفاصيل، فهي تبدأ برصد المَشاهد حيث المجتمع، وتتسلل إلى أعماق النفس حيث السجينات على الشاشة، والمساجين من المشاهدين كذلك!

لنجد أنفسنا كمتفجرين في النهاية، أحد أبطال هذه القصص، وأنَّ هؤلاء النسوة نشاركهن مآسيهن وسجنهن، وأننا مقيدون داخل السجن الاجتماعي الكبير، الذى يغلق علينا جميعاً بمرارة قمعه وبغضه، وانتقامية موازينه الظالمة.
اختلاف متوافق
ينتمي هذان العملان إلى عالمين مختلفين لسجنين، وواقع غير متشابه لسجينات هنا وهناك، فهما مختلفان في المشاكل والشكل، ويحويان قصصاً مغايرة، تحكي عن تفاصيل الأحكام غير العادلة، سواء الرسمية أو الشعبية.

ولكن تناقضهما في بعض التفاصيل واختلافهما في الأخرى، يستحضر تشابه الأحكام غير المُنصفة، وتوجيه الدعاية الظالمة للسجينات، سواء كان ظالماً بصورة التقليل أو بصورة الرِفعة عن الحقيقة المرجو إشهارها، كما يرصد العملان الدور الكبير للمجتمع في صنع سمعة السجينات، بل ربما صنعهن بالأساس!

وبالرغم من أنَّ المسلسل المصري يُصنَّف تراجيدياً واقعياً، والفيلم الأميركي كوميدي استعراضي، في قالب خيالي، إلا أنَّ كلا العملين لهما تأثير نفس قوة السياط الدرامي الضارب بنا في الواقع، بتحكُم مُدقِّق لمبدعٍ قاسيَّ الإبداع، فهما يستعرضان تفاصيل لا تُشفق على الخبايا الاجتماعية، المادية منها والمعنوية!، بالرغم من تناقض المجتمعين وأسباب التأذي فيهما، إلا أنَّ الصدق الفني لكل من الكاتبتين، قادهما لتعرية هذا القبح أياً كان شكله وانتمائه لحرية أو لقمع.
ولا شك في أنَّنا بحاجة لتلك الضربات الآلمة المعالجة، كمشاهدين ومشاركين في تلك المجتمعات القبيحة، فلربما تعمل فينا للاستفاقة، ولزرع رغبة في التغيير، والتحفيز على المثابرة لأجل تحقيق هذا، فالحقيقة أنَّنا أصبحنا من شدة انغماس موتنا في هذا الواقع المجدد لنفسه باستمرار، نموت مراراً وتكراراً ولا نتألم، حتى تأتى إلينا أمثال هذه الأعمال الفنية، لتصدم ركود أيامنا كالصدمات الكهربائية، فتفتح أعيننا أولاً، وتنير أذهاننا ثانياً، حتى نشعر ثالثاً، وعلى كلٍ منا القرار في النهاية.

تشابه تشوه إنساني لمجتمعات

ومن الجدير بالذكر هنا، هو أمر يستحق وضع علامات استفهام شديدة التعجب أمامه، وهو ازدواجية المجتمعات التي تشهد عليها هذه الأعمال، فمثلاً المجتمع الأمريكي المتمثل في شيكاغو، تلك المدينة التي كان على أرضها مواقع الجرائم المذكورة، ومصدر إلهام مسرحية الكاتبة "مورين"، وفي نفس الفترة من حدوث هذه الجرائم، جمهور شيكاغو هو الذي قابل هذه المسرحية بترحاب كبير، وأنجحها بل وتسبب في امتداد عرضها وانتشارها، بالرغم من أنَّ هو نفس الجمهور، الذي تلقى الصحف بإخبارها الكاذبة، عن هؤلاء النسوة القاتلات، وكرمهن وانجرف وراء تصريحات الإعلام المُضلِلة، ليصنع منهن نماذج شهيرة للبطولات الزائفة، ورآهن صالحات، وضحايا للظلم الغاشم، ليحضر العرض ويضحك على سخريته المواجهة له بسذاجة أحكامه، فقد كان هذا الجمهور بازدواجيته، هو صانع التمثال لتمجيد تلك الشخصيات، وهو الفأس الذى أراد تحطيمها!

والمثال الآخر، هو المجتمع الذي يظهر في مسرحية الكاتبة فتحية العسال، والذي يُسلَّط الضوء على تفاصيله القاتمة بالمعالجة الجديدة للنص في سجن النسا، هو نفس الجمهور الذى أنجح العمل الأول، وهتف بالإشادة في تميز وأهمية العمل الثانى!، والغريب أن المجتمع ما بين عرض المسرحية والمسلسل، لم يتغير تقريباً إلا إن كان للأسوأ بعض الشيء! ولا أعلم بدقة ما السبب في ذلك، فربما نحن نجيد المشاهدة لا المعايشة!

وبهذا تتضح لنا حالة الفصام الذي تحياه مجتمعات تلك الأعمال، والتى تتشابه في مرضها الاجتماعى، حيث نجد المتلقى الذي يكون أحد المتهمين في العمل، هو القاضي الذى يصدر على نفسه قرار التصديق على اتهامه، وذلك بدعمه وإنجاحه لتلك الأعمال التي تدينه!

اتفاق فني لاحتياج اجتماعي

وحيث إنَّ كلا العملين يأتيان من خلفيات مسرحية لحكايات واقعية، قررت كاتباتهما أن يعبرا عن الواقع بحقيقته، وأن ينقلانه إلى خشبة المسرح عبر أوراقهن، فلقد بقي فنهن إلى ما بعد العرض الأول، ليُكرَّر من قِبِل فنانين آخرين، تتبعوا هذا الخط من الصراحة الدرامية الواقعية، ليحولوا فنهما إلى إعادات مسرحية أخرى، وصور درامية مختلفة مثل الفيلم والمسلسل، ليتناوب على صراحتهما الدرامية أجيالٌ من المبدعين، المشتهين لمعالجات درامية أوسع نظرة، مع تطورات الظروف الاجتماعية الحالية لإبداعاتهم المستحدثة، فلا شك أنَّ هؤلاء المبدعين الجُدد، وجدا في تلك المصداقية لحبكتهما الدرامية، علاجاً مُعبِّراً بقوة عن جذور مشاكلهم الاجتماعية، ويلائم بعمق مفعوله، معالجات تفيد الواقع بمأساة تطوراته.

ففي شيكاغو كان كل مخرج في تناوله للمسرحية الأصلية عبر سنين تقديمها، يضيف نكهة درامية أكثر تهكماً على المجتمع عمن قبله، وذلك لتفاقم أوجه الفساد بمجتمعه برغم مظاهر التحضر، فما كان من كل مبدع في زمنه إلا أن يستخدم إمكانيات عصره لتوظيفها في تعبيره الأكثر تهكماً، كما حدث في سجن النسا، وذلك بإضافة تفاصيل أكثر استفاضة للكشف الدرامي عن تغير المجتمع، كما صرَّحت الكاتبة مريم نعوم، أنَّها قد أضافت أبعاداً جديدة في معالجتها للمسرحية الأصلية، للتعبير عن مشاكل قضايا المجتمع المتجددة والأكثر تعقيداً.

وبالطبع لم يكن هناك اقتباس بين كلتا المسرحيتين، وبالتأكيد أنا لا أشير بهذا المقال إلى ذلك، فكل منهما وليدة فكر وتصميم كاتبتها، ووليدة نشأة بيئتها بامتياز، إنما أريد هنا أن أسلط الضوء على الاتفاق غير المباشر وغير المعرفي، بين كاتبتين اتفقتا على المصداقية دون أن يلتقيا أو يتفقا على ذلك بالفعل، كما أنَّ مشكلات مجتمعاتهن لا تتفق ولا تتشابه.

ولكن رصد مشاكل المجتمع في العملين ومنسوب ثقافته، لا شك في أنَّه قد قِيس فيهما، من خلال وضع الإناث في المجتمع، وأشكال مشاكلهن وقضاياهن، فحالهن "ترمومتر" يُعرِّف بمدى ثقافة المجتمع وجهله، ومن المؤكد أن مكان كـ"سجن النساء" في المجتمعات، هو موقع هام لتقييم هذا المقياس، حيث إنَّه بمثابة وثيقة يُسجَّل فيها حقائق إنسانية عن مذنبات وبريئات، تعكس معاناتهن وذنوبهن، مفاهيم المجتمع وتعاملاته المنقوشة بقصصٍ على أياديهن البريئة منها والآثمة.

فكلاهما صدَّرا للمُشاهد رؤية حال السجون النسائية أولاً داخل كل منهما، ثم أشارا إلى حال الأنثى في المجتمع عموماً، ليكشفا في النهاية عن حال المجتمع ككل، وكيف يقبع المجتمع داخل سجن آخر لا يُرى، وهو المراد رصده وتحليله بالأساس من خلال السجن المادي المعروف.

والمميز في أمر هذه المقارنة، أنَّها كما تُظهر أهمية حقيقة تحليل حال المرأة، لقياس توازنات المجتمع التي فيه، إلا أنها تُظهر حقيقة دور المرأة كذلك، في رصد المجتمع والتأثير فيه، فنحن هنا أمام كاتبتان، أثرا في مجتمعاتهما، بكتابتهما وأعمالهما الفنية، ومن بعدهما أتى غيرهن ممن قمن بتطوير أدبهن وفنهن، ليغيرين هن أيضاً في مجتمعاتهن بل ومجتمعات محيطة أيضاً، لتصبح مع الوقت أعمالهن إلهاماً للكثير من المبدعين والمبدعات، ويتخطى فنها وثمر عطائها لما أبعد من الزمان والمكان.