أمي!



شاهر أحمد نصر
2023 / 1 / 30

أرق طيف هني رعانا في حياتنا، وأرق نسمة هنية ودعتنا بلطف في مماتها؛ كومضة نجمة منيرة مستعجلة كيلا تتعب أحداً...
أمي، كأغلب الأمهات في ريفنا المعطاء وبلادنا عموماً؛ عنوان المحبة والالفة الصادقة... ما أكثر الذكريات الجميلة معهن، وما أحلاها؛ فحضورهن يحيل الوجود بأكمله ربيعاً...
وفي الربيع، حينما كنا نخط لأنفسنا دروباً في الطبيعة نذاكر دروسنا جيئة وذهاباً عليها بأصواتنا الجهورية العالية في الكروم، وبين الأزهار، تطلّ فجأة زنبقة من أقرب منعطف تحمل رغيفاً من خبز التنور - الذي سهرت الليل لتعدّ عجينه، وحملت الحطب فجراً على رأسها من أحراج بعيدة كي تخبزه، وتقمّره - وها هي ذي تناولنا إياه ملفوفاً يقطر زيتاً عبر وريقات البصل الخضراء في داخله؛ ولا تنسى الابريق الفخاري المليء بالمياه التي كانت قد نقلتها على كتفها في جرة من فخار من عين الضيعة بُعيد الفجر، إذ أنّ حدسها أنبأها أنّ أبناءها ربّما جاعوا، أو عطشوا، أو هم في حاجة إلى قسط من الراحة... إنّها دائماً في عجلة من أمرها، لتعود وتطعم الدجاجات، أو تعتني بمزروعاتها، أو تمضي إلى السهل لقطف الهندباء، ولتغسل الغسيل يدوياً، وتعدّ الطعام... وما إن تغيب عن نظرنا حتى أبدأ في التفتيش عنها بين تلك الأزهار...
لست أدري لماذا حتى الآن لا أستطيع أن أميّزها عن أجمل تلك الأزهار، ولا أميّز الأزهار عن طلتها البهية...
ولن أنسى حضورها الآسر، وسهرها المستمر للتأكد من راحتنا، فهي تنام بعد الجميع لتطمئن أنّ الغطاء لم ينحسر عن كتف أحد، أو جسده، كيلا يصاب بقرصة برد... وتستيقظ قبل الجميع كي توقد النار في موقد الحطب، وتسخن الماء كي نغسل أيدينا ووجوهنا بمياه دافئة مع نسمات الصباح الأولى، وهي تحيطنا برضاها الإنساني الصادق، ورعايتها، وحمايتها، وعمق محبّتها لنا، ولكلّ من عرفها، بدفء حنانها، وصدق دعائها...
وكبرنا، وربّما تباهى بعضنا بشهاداته، وبما أنجزه، وفي إحدى زياراتنا لها، وبينما كنا جالسين في أرض الدار المصبوبة بالبيتون لاحظت بعض الأعشاب تنمو في شقوق الأرضية البيتونية، فهممت لاقتلاعها، حينئذ نهتني بصوتها الدافئ الحنون قائلة برقة وعتب:
"لا، يا ماما، لا تقتلعها، هذه نبتة الطيون؛ هل نسيت أنّ "فيروز" غنّت للطيون؟!"
هذه هي الحياة، وهؤلاء هن أمهاتنا، وهذه هي أمي:
أرق طيف هني رعانا في حياتنا، وأرق نسمة هنية ودعتنا بلطف في مماتها؛ كومضة نجمة منيرة مستعجلة كيلا تتعب أحداً... "أم طاهر" لروحك السلام والرحمة.
26-1-2023
نشكر جميع الصديقات والأصدقاء حيثما وجدوا، ومن تكبدوا عناء السفر؛ وإذ تأخرنا في نشر هذا الخبر فالغاية هي عدم التسبب في عنائكم... ونشكر أهل بلدة ومنطقة الصفصافة وقراها الكرام، والجيران والأقارب على مواساتهم الكريمة والنبيلة.
دمتم، ودامت الأمهات جميعهن بألف خير.