مؤشر غازي الاقتصادي



نسيب عادل حطاب
2023 / 2 / 5

الساعة الاخيرة من ساعات العمل غالبا ماتكون ثقيلة الوقت يسير خلالها بطيئا حتى يتخيل لك أن عقارب الساعة تتباطأ متعمدة أو انها أصيبت بالعرج .. ما ان ندخل في النصف الثاني من هذه الساعة حتى يترك كل منا مابيده وننسحب من أماكن توزعنا في الدائرة أو الحقل لنتجمع في أحد المختبرات بانتظار أشارة المغادرة والصعود الى سيارات الخطوط الخاصة لنقل الموظفين .. فكاهة الحديث وطراوتة أضافة لعلاقة الود السائدة بيننا نحن زملاء العمل تكسر وطأة الانتظار وتمنحنا خلال هذه الدقائق القليلة شيئا من المرح الذي ضاع منا وأختفى مع بدء الحرب .يتنوع حديثنا جامعا بين الجد والتنكيت والاخبار العامة .كان لبعضنا وأنا منهم مهنته العائلية الاخرى الموازية للوظيفة والتي ننسحب اليها مباشرة بعد ساعات العمل الرسمي بينما الاخرون منا من لايمتهن غير وظيفته فينحصر يومه بين الدائرة و البيت فقط . زميلنا الأرمني الجميل الباحث عن الضحكة دوما (غازي) كان من هؤلاء فهو يدير محل عائلته المختص بتجارة وتسويق الجلود ومستلزمات صناعتها بشارع النهر ليس بعيدا عن دكان أبي .. كان شارع النهر الذي يمتد بين جسر الاحرار جنوبا وجسر الشهداء شمالا يشكل مع شارع الرشيد الذي يسير موازيا له المربع التجاري والمالي الرئيسي للعاصمة بغداد فبالاضافة الى مجمع البنوك الرئيسي وغرفة تجارة بغداد هناك معظم اسواق الجملة التجارية الكبرى كسوق الشورجة والسوق العربي وسوق الصاغة وأسواق الاقمشة والتجهيزات الجلدية وغيرها فضلا عن الورش الصناعية ومعامل الالبسة والمنسوجات والاحذية التي تجهز القطر برمته .باختصار فقد كانت تلك المنطقة هي مركز النشاط التجاري والبورصة الاهلية غير الحكومية للذهب والدولار للعراق برمته و كان من الطبيعي والحالة هذه ان تزدهر صحبة ذلك كل النشاطات الخدمية والترفيهية الاخرى المطاعم والبارات ومعها طبعا المهنة الاكثر قدما في التاريخ فما ان يحل الضحى أو ربما قبل ذلك حتى تبدأ صاحبات الصنعة نشاطهن الذي يبلغ ذروته في ساعات النهار الاخيرة حين ينسحب الزبائن ويقل المتسوقون و توشك المصالح والمحلات أن تغلق أبوابها.. طبعا هذا لايعني أن هذا النشاط يتوقف كليا بعد هذا الوقت ولكنه يبقى منحصرا في اماكن المعامل والورش التي يمتد العمل فيها لساعات متأخرة من الليل وربما حتى الصباح .ففي منطقة (الطمة) المطلة على دجلة مثلا وهو المكان القديم لمديرية التحقيقات الجنائية ( الامن العامة ) أيام نوري السعيد ومديرها بهجت العطية حيث تبقى ورديات من العمال تعمل في ورش الصاغة ومعامل الحياكة حتى ساعات الصباح الاولى هناك دائما نوبه أخرى من بائعات الهوى اللاتي صنعن لهن زبائن دائميين من هؤلاء العمال......................................
في واحد من تلك اللقاءات أصر غازي ذلك اليوم حين سأله زملائه الاخرون عن حالة السوق ومؤشرات الوضع الاقتصادي ان الوضع ينحدر نحو الأسوء معبرا عن تشاؤمه وحين ود هؤلاء أن يستوضحوا منه اكثر اكتفى بهذا الجواب المبهم دون زيادة رغم انهم حاولوا عبثا أن يعرفوا سرّ هذا التشاؤوم الغريب سيما وان الحاله المعاشية والاقتصادية للبلد تبدو طبيعية الى حد ما رغم ظروف الحرب ولأننا نحن زملائه وأصدقائه كنا نعرف روح الدعابة والتنكيت التي يحملها صديقنا الجميل هذا فقد أعتقدنا أن جوابه المبتور هذا هو مقدمة لواحدة من هذه النكات التي ينتظرها الجميع ساد الصمت وتركزت كل النظرات على وجهه بانتظار أن ينفرج فمه عن تلك الأبتسامة أو الضحكة المكبوته التي أعتدنا عليها و التي سرعان ماتنفجر كالعادة الى قهقهة عالية يردفها بتعليقاته الفكاهية الساخرة لكن لم يحدث شيئا من هذا ...أهملنا الموضوع وعبرناه لاحاديث اخرى ولكن بعد زمن لم يطل كثيرا وبعد ان تأكد غازي ان زميلاتنا الموظفات غادرن حيث زميلاتهن الاخريات في المختبر الاخر وخلا المكان الا منا نحن مجموعة الرجال قطع غازي الحديث قائلا .. سألتوني شلون عرفت الوضع سيء وسيسوء أكثر ... الامر واضح فقد صرت أرى واحدتهن تلف و تدور في كل زوايا شارع النهر على مدار الساعة وهي تشتم وتلعن باحثة عن زبون توارى ولم يعد قادرا على الدفع ..... هذه المرة نحن من انفجرنا ضاحاكين فاجئتنا فنتازية الجواب لكن بساطة المعيار وواقعيته كان مقياسا حقيقيا لتقييم الوضع المعاشي والاقتصادي الذي كان قد أخذ بالتردي تدريجيا في بلد يخوض حربا منذ سنوات.........
أستعدت هذه الحكاية في ذاكرتي حين أرسل لي أحد الاصدقاء قبل أيام خبراً يقول أن أحد زبائن بيت من بيوتات الدعارة في منطقة زيونة تعرض لضرب مبرح وشديد على يد العاملات في ذلك البيت وبأيعاز من القوادة مديرة الدار بعد أن ماطل ذلك الزبون كثيرا في دفع حساب ماتراكم بذمته عن خمس مرات سابقة... يعني أن هذه الدار لجأت لتقديم خدمة الجنس بالاّجل .. بصراحة لم أسمع عن مثل هذا النوع من التسهيلات في هذا النشاط من قبل وأظن والله أعلم ان هذا أبتكار جديد تماما لم يسبق لآحد ان فكر فيه (لجأ اليه )الا في عراق مابعد السقوط وهو تأكيد على صحة مؤشر (غازي) في قياس الحالة الاقتصادية والمعاشية في البلد . فهو يعني من جهة أحتدام المنافسة أي أنتشار هذا النشاط وأتساع رقعته وهذا يشير بدوره الى حالة الفقر والعوز التي تعانيه المرأة والعائلة العراقية فهي تلجأ الى مثل هذا النشاط اضطراراً حين يضيق بها الحال ولم تجد بديلا أخر كما انه يعني من جهة اخرى ارتفاع كلفة المعيشة و أزدياد حدة التضخم وعدم القدرة على الدفع وهو يشير الى فشل منظومة الاحزاب الاسلامية الحاكمة في العراق التي تدعي انها جاءت تسعى لاقامة مجتمع الفضيلة والرفاهية والعدل .. قبل هذه كنت قد قرأت عن اعترافات طالبة تمارس القوادة في احدى الكليات أذ تقول ان العدد المسجل عندي من الطالبات اللواتي يسعين للحصول على زبون دسم قادر على الدفع لقاء حفلة جنس قد يصل في بعض الاحيان الى 120 طالبة ... المصيبة الاكبر هي انتشار ظاهرة الدعارة الشبابية فقد قرأت ايضا ان منطقة البتاويين تزدهر بهذا النوع من النشاط الذي يلجأ اليه الشباب اضطرارا بغية الحصول على مايسدون به بعض متطلبات معيشتهم..... شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكرا لك غازي فالمؤشـــر الذي اعتمدته لتقييم الوضع الاقتصادي والمعاشي ذلك الوقت لايزال صالحا يعمل لغاية الاّن وقد أثبت صحته فهو اكثر صدقا من مؤشر سعر الفائدة او مؤشر سوق الاسهم واكثر دقة من مؤشر داوو جونز أو ناسداك وباقي المؤشرات الاقتصادية الاخرى....................