كيف تصبح الأسطورة والشعريّة الأنثويّة وسيلةً للمقاومة؟



زنوبيا ظاهر
2023 / 3 / 7

ماذا تقولُ لامرأةٍ تحنُّ إلى الحقل؟ أنتِ أحلى نساء المدينةْ؟

ممتدٌّ وأفقيّ وحمّال أوجه، ما أقول عنه هنا: الأنثويّ. يخرجُ قولي هذا من اعتقادي بميل الأنثى إلى القابل للتأويل، لا لغموضه بل لارتباطه المباشر بالحدس الغريزيّ الذي لا يتلقّى الأشياء على أنّها "مفاهيم". والمفهوم كما نرمي إليه هو نتيجة الميل إلى تعريف العالم وحصره في إطارٍ جوهريّ سرعان ما يخضعُ له على أنّه حقيقتهُ الوحيدة، مع احتمال أن يخرجَ عنه بصعوبةٍ تشبه ألم المخاض.

لقد نشأَت الإنسانيّة بفعل المخيّلة. تجاوز الإنسان ما منحَتهُ إيّاه المادّة من غموضٍ وخوف إلى إجاباتٍ "أسطوريّة" أو "دينيّة" صنعَتها مخيّلتهُ الشعريّة، وتجاوز حاجاته العمليّة من مرضٍ وعوامل بيئيّة بأن أنشأ بفضل مخيّلته أيضًا حلولًا وأدواتٍ من أجل تطويعها. في البدء كان الشِّعر. والشِّعر هنا بمعناه الحدسيّ، وعليه فإنّ البشريّة لم تكن لتجرؤ على أن تصير لولا المخيّلة كإمكانيّةٍ للخروج من المُعاش.

وأغلب الظنّ أن المُعاش هو السّبب في تطوير المخيّلة، كما أنه السّبب الذي تشكّل المخيّلة النشطة ردّ فعلٍ مضادّ له. فلولا "الحاجة" و"الخوف" و"السؤال" وغير ذلك، لما صارَت "الإنسانيّة" وصرنا.

ليس يمكن القول إنّ حمل الأنثى بـ "جنين" (بغضّ النظر عن طبيعته) يتعلّق بإمكانياتها الجسديّة على التحمّل. برأيي، الأصحّ قولًا: بسبب إمكانياتها النفسيّة على التأمّل وتصوّر الاحتمالات. أرى أن لا شيء ينتظر إلّا الأنثويّ. الانتظار ميزة الأنوثة لأنّه لا يتحقّق إلّا بالحدس والترقّب والتجاوز.

المُعاش هو السّبب في تطوير المخيّلة، كما أنه السّبب الذي تشكّل المخيّلة النشطة ردّ فعلٍ مضادّ له
يخرج المؤنّث عن المُعطى إلى العطاء، يشقّ صدر الحتميّ والأكيد والضروريّ إلى الممكن والموارب والباطنيّ، وربّما الصوفيّ.

قال المحلّل النفسي الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan) عن المؤلّفة الفرنسية مارغريت دوراس (Marguerite Duras): "إنّها لا تعرف أنّها تكتب وهي تكتب، لأنّها ستضيع، وستكون مصيبة".1 قوله هذا ينطبق على الأنثويّ المتدفّق، الذي صادف أنّه متدفّقٌ عبر الكتابة في حالة دوراس. برأيي، الأنوثة أوسع من "الفكر"، وهي شعريّةٌ في ماهيّتها، تستنطق "المُشَفَّر" من أجل توسيع رُقعتهِ أكثر من دفعه إلى الحضور المفضوح. لا تكترث الأنثى لتبرير ما يدور في فلكها، إنّها تفهم الشعريّ والحدسيّ واللا زمنيّ من غير حاجةٍ إلى تفسيره. وانتفاء هذه الحاجة تقديرٌ لحرّيّة الذات في حركتها الأفقيّة تجاه الأشياء جميعها، بلا رغبةٍ في تملّكها، ولا شعورٍ بانفصالٍ عنها. ولا يعني قولنا برحابة الأنوثة إقصاء "الفكر"، بل إعادة الإلهة الأمّ إلى ميزان العالم النفسيّ، بعد أن استحوذ الإله الأب على السلطة، وذلك ضمن سياق تحوّلٍ سياسيّ-تاريخيّ قد نحاول رصده في موضعٍ آخر.

تعيش النساء في كلّ وقتٍ حالةً من الصمت الكلاميّ، نابعًا تارّةً من تسكيتٍ قسريّ يفرضهُ عليهنّ النظام القائم، وتارةً أخرى من اختلافٍ لغويّ تتّسع فجوته كلّما أوغلَت هذه الكرة الأرضيّة في الذكوريّة. أمام هذا الصمت، ينشأ حوارٌ طاقيٌّ يعتمد على الحدس والشعور المشترك، وعلى لاوعيٍ مشتركٍ بُني على مرّ التاريخ. إنّ اللاوعي الجمعيّ الأنثويّ قد تشكّل كجدارٍ حمائيّ في الذاكرة. تتذكّر المرأة المعاناة حتّى لو لم تعِشها. تُطلق مخالبها ما إن تشمّ رائحتها. كيف نبرّر هذه المعرفة التي تتجاوز حياةً واحدةً وتجربةً واحدة؟ تحفظ ذاكرة الجماعة الألم على شكل صورٍ "أسطوريّة"، تزرعها في ذاكرة الآتين والآتيات كعنصر توحيدٍ وتمتين أواصر، وكمهارةٍ في الحماية والحلم. إنّ الاعتقاد باللاوعي الجمعيّ كمؤثّرٍ ومتأثّرٍ بالتجربة الفرديّة الإنسانيّة، جاء ردًّا على قسوة الرأي الذي يحصر القدرة على التأثير في الحياة الفرديّة باللاوعي الفرديّ.

كم من امرأةٍ تنظر في عين أخرى يوميًّا وتعرف أنّها في مأزق؟ كم من امرأةٍ تحتضن أخرى وكأنّها سمعَت ما بها؟ كم من امرأةٍ تقول لأخرى إنّها تعرف ما عانَته ثمّ تُسأل عمّا إذا كانت عانَته فعلًا فتقول لا.. لكنّني أشعر أنّني فعلت؟ كيف التقَت النساء الإيرانيّات، على سبيل المثال لا الحصر، على إيقاعٍ واحدٍ للثورة والرغبة والانفجار والرقص، ونحن على علمٍ بتنوّع واختلاف الثقافات، والمناطق، والأعراق، والتيارات السياسية والفكرية ضمن المجتمع الإيرانيّ الواسع ثقافيًا وجغرافيًّا؟ ثمّ كيف شعرَت نساءُ العالم بأنّ المرأة الإيرانيّة تثور بالطريقة نفسها التي تشتهيها أيّ امرأة؟

تنصرف النساءُ إلى الخيال كإمكانٍ للتغيير لا كطريقةٍ للهرب والتغشية. وهنّ في سياق حياتهنّ اليوميّة المعاصرة لا يمتلكن غيره للمقاومة
أتحدّث هنا عن قوّةٍ للمعرفة يتشكّل بها ومعها الأنثويّ. هذه المعرفة تفوق المعرفة والشعور الذي ساقهُ إلينا علم النفس الفرويديّ. تنصرف النساءُ إلى الخيال كإمكانٍ للتغيير لا كطريقةٍ للهرب والتغشية. وهنّ في سياق حياتهنّ اليوميّة المعاصرة لا يمتلكن غيره للمقاومة، أو لا يحافظ على وجودهنّ سواه، لأنّ العنصر الذكريّ الطاغي يصرفهنّ عن حقيقتهنّ التأمّليّة الرحبة إلى المادّيّ المباشر المستنزِف. يلجأ الأنثويّ إلى إحاطة ما يعيشه بهالةٍ مفتوحةٍ على المستقبل، حالمةٍ على الطريقة الباشلاريّة. فتمييز الفيلسوف غاستون باشلار (Gaston Bachelard) بين الحلم (rêve) والتأمّل الشارد (rêverie)،2 هو تمييزٌ تشخيصيٌّ لما يميّز الخيال الأنثويّ المقاوِم عن غيره. إنّ الحلم، بمعناه الفرويديّ، يأتي لا واعيًا وضروريًّا وحتميًّا نتيجة عوامل تاريخيّةٍ أو ماضيةٍ لا بدّ أن تصنعه. الحلم الفرويديّ مغلق، خانق، تفريغيّ، عموديّ يخرج الأشياء من أسفل إلى أعلى بشكلٍ روتينيّ حتّى وإن بدا إبداعيًّا على مستوى قدرته على الترميز. أمّا التأمّل فواعٍ، مؤمن، قادرٌ على الابتكار، يكسر حتميّة اللاوعي برغبة الوعي وانفتاحه على ما يمكن أن يكون. يُحدث التأمّل الشارد ثُقبًا في السّستمة، يخلق إيقاعًا مختلفًا عن إيقاع الآلات والمصانع والمطارق التي لا مهرب منها بالنوم والحلم، لأنّ هذَين لا يقومان إلّا بتفريغها مؤقتًا لتعود وتتراكم في اللاوعي عند أوّل فجر. التأمّل إخراجٌ للمؤرَّخ إلى سطح الوعي، "ألفةٌ وحميميّةٌ تتولّدان كنعومةٍ تفيض فوق سطح الأشياء" كما يصف الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس (Emmanuel Levinas) "الألفة"، اتّصالٌ بطبيعة العالم المنسابة بلا فائضٍ يعكّر صفوها.3

عبّرت عن هذا الكاتبة والمحللة النفسية كلاريسا بنكولا إستيس (Clarissa Pinkola Estés) في كتابها "نساء يركضن مع الذئاب" (صدرت النسخة الإنجليزية في عام 1992، والترجمة إلى العربية في عام 2002)، بأن وضعَت إعادة الاتصال بالتاريخ في خدمة إثبات وبلورة قدرة المرأة المعاصِرة على تغيير واقعها أو الانقلاب عليه. لقد جمعَت بنكولا إستيس مجموعةً من الأساطير حول العالم لتعيد القارئة إلى أمّهاتها، الساحرات الحكيمات الخالدات. ينشأ هذا النوع من "العلاج بالأسطورة" كعلم نفسٍ يؤمن بـ "ما يمكن أن يكون". والإيمان هنا انفتاحٌ على المفارق للماديّ المباشر بتوسّط التأمّل كفعلٍ تفكيريّ. لقد ركّزَت بنكولا إستيس على إحياء صلة الوصل بين المخيّلة الأنثويّة المعاصرة وتلك التي تواترَت على مرّ السنين عن طريق الحكايات، واعتبرَت هذا الإحياء طريقةً تمنحنا "الفهم والبصيرة النافذة لكي نميّز ونلتقط الخيط الموصِل إلى الممرّ الذي خلّفَته الطبيعةُ الوحشيّة. وتؤكّد لنا الوصيّة التي نجدها في الحكاية أنّنا لم نضلّ الطريق، بل لا زلنا على الممرّ المؤدّي إلى أعمق أعماق المرأة، كلّما توغّلنا فيه، كلّما توصّلنا إلى معرفتها. وهذه الممرّات... هي الذات الغريزيّة القابعة في أعماقها."4

وهي بهذه الطريقة تعاملَت مع الأسطورة-المُخيّلة ككائنٍ حيّ فيه من الخلود ما يعجزُ فردٌ عن مواكبته، أو إنهائه… كلّ ما بالإمكان فعله، هو الالتحاق بحيويّته. ولا شكّ في أنّ الوعي العميق بهذه الحيويّة واللحاق بركبها إعادة إحياءٍ للحكاية بشخصيّاتها وإلاهاتها، وإنقاذٌ للأنوثة من الوحدة والأسر. إنّ غياب الأمّ العجوز التي تجمع العظام وتحييها وتحميها من الضياع من حيوات نساءٍ كثيراتٍ يمكن الاستعاضة عنه بشخصيّة لالوبا الأسطوريّة مثلًا. تعيش لالوبا في البرّيّة، تجمع أجزاء الهياكل العظميّة للذئاب وما إن تُتمّ أحدها حتّى تعيده إلى الحياة عبر الغناء ملء حنجرتها. وهي بذلك تتعامل مع الموت على أنّه حالة حتميّة، إنّما مؤقّتة، قابلة للتحوّل، للتذكّر، للحفظ ولإعادة التوليد. بإمكان هذه الساحرة أن تذكّر أيّ امرأةٍ بأصلها الأوّل، بأنّها قابلةٌ للعودة إلى الحياة على يد امرأةٍ ليس بالضرورة أن تكون هي التي أنجبَتها، وأنّ المسؤوليّة لا تقع على عاتق من أنجبَتها لأنّها أيضًا لم تعرف أمًّا تُغنّي وتحيي الرميم.

يُعيد ارتباط المرأة بتاريخها الأسطوريّ إليها الصلابة الكافية لتحافظ على روحها، على قدراتها الغريزيّة التي يُضعفها العالمُ المعاصر
إنّ العودة إلى الأسطورة عودةٌ إلى الشعريّة. نعود بذلك إلى اللعب على الشعريّ والأنثويّ. ولننظر إلى الأمر كذلك: تقول عشتار عن نفسها "أنا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون.. وما من إنسانٍ قادرٍ على رفع برقعي".. توحي هذه الجملة للبرهة الأولى بأنّ القائلة تتحدّث من "خلف خمار". لكنّها تقول هذا في الأسطورة وهي "العارية أبدًا، التي صوّر الإنسان جسدها منذ أن تعلّم تشكيل المادّة بيدَيه."5 لا يمسّ عري الجسد بالأنوثة التي تحتمل السرّ، المُتَخيَّل، والضبابيّ. ويكون إيقاظ الاحتمال، والتعامل معه على أنّه حقيقة لا وهم، مواجهة لمشيئة العقل الحديث الذي ما إن يرى شهبًا حتّى يرغب بالتقاطه وتشريحه، فيغرق في التفصيليّ على حساب الشعريّ، ويغرق في هندسة البيت-العالم على حساب "سُكناه".

والتقدير لـ "سُكنى" العالم وسحره صفةٌ في الأنوثة يعمل العنصر الذكوريّ على تصويره كنقطة ضعفٍ في كيانها، أي كهشاشةٍ تجعلها تتوجّه إلى العاطفيّ و"الرومنسي"، فيما يُعيد ارتباط المرأة بتاريخها الأسطوريّ إليها الصلابة الكافية لتحافظ على روحها، على قدراتها الغريزيّة التي يُضعفها العالمُ المعاصر حتّى يفرّغ أنوثتَها ويتركها تنقلب على نفسها.

وعليه، قد يكون من الأجدى أن نتعامل مع الأسطورة على أنّها بيتٌ تتنقّل مخيّلتُنا بين أرجائه، ندخل غرفهُ بأريحيّة المُنتمية، لا على أنّها زمنٌ غابرٌ لم نعُد نمتّ إليه بصِلة. دخولنا في الحكاية بهذه الحميميّة تحريرٌ لرؤيتنا للعالم من ضرورة العبور إلى "الحقبة" المقبلة، كما لو أنّنا ندفع أنفسَنا والعالم إلى النسيان. والنسيان القسريّ مُخدّرٌ مؤقّت تطفو الذكرياتُ من بعده على السطح دفعةً واحدةً كعاصفة. إنّ تصالح المخيّلة مع الذاكرة، الشعريّة منها على وجه الخصوص، المؤلمة منها والسعيدة، هو أرضٌ "موعودة" لفعل التغيير الذي يبدأ - بلا شكّ - من الذات، وينتهي حيث لن نعلم.


1.مارغريت دوراس، "أن تكتب"، ترجمة أحمد المديني، عمّان، أزمنة للنشر والتوزيع، 2016، ص. 31.
2.غاستون باشلار، "شاعريّة أحلام اليقظة: علم شاعريّة التأمّلات الشاردة"، ترجمة جورج سعد، بيروت، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، 1991.
3.إيمانويل ليفيناس، "الكلّيّة واللامتناهي"، ترجمة عبد العزيز بو مسهولي، القاهرة، دار صفحة 7 للنشر والتوزيع، 2021.
4.كلاريسا بنكولا إستيس، "نساء يركضن مع الذئاب"، ترجمة مصطفى محمود محمد، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2002، ص. 13.
5.فراس السوّاح، "لغز عشتار: الألوهة المؤنّثة وأصل الدين والأسطورة"، دمشق، دار علاء الدين، 2002، ص. 29.