الجواري وممثلات السينما



نعيم عبد مهلهل
2023 / 3 / 8

في الحرب الأولى لم يكن هناك قرب قرية البيضة، وهي الكلمة العامية والدارجة لكلمة بيضاء، يقال إن الحسين أبي منصور الحلاج ولد فيها . لم يكن سوى قرى قصب تتناثر فوق الماء، وكان البر تراباً يربطُ بين بطائح القرنة وأهوار أرض ذي قار ، قبل أن تتمدن وتصبح مدينة الناصرية التي أسس لبنائها والٍ عثماني اسمه مدحت باشا .
وحين عرف السوق الحلاج وأصبح ظاهرة يستمع إلى مناجاتها الناس ، اقتربت منه ، وحاولت أن أستعيد معه ذكرياته عن مكان ولادته، فلم أحصل منه على جواب ، ويبدو أنَّ الصوفيين عند دخولهم في عمر الغياب وأيامه يفتقدون المعرفة المكانية ويتمسكون بالزمان ، ولهذا جعلت عنوان صفحة الحلاج في الفيس بوك هذا القول :
لا زمان إلاَّ وجهه ، ولا أوان إلاَّ عطره ، ولا وسادة إلاّ رحيق قلبه .
وحين وجه أحد أصدقاء الصفحة سؤالاً : إنْ كان للقلب رحيقاً؟! ونقلت إليه السؤال فكان ردّه" القلوب التي أحبت بفضل الرّحيق ، وهو من يجعل الصلاة واجبة في الحضن بين عشيق وعشيق.
الصفحتان هما من سيشغل هاجسي؛ أنا القادم من زمن كان فيه الصبيان يرتدون ثوباً واحداً لكلِّ فصل ، وحماماتنا في الصيف كانت شواطئ دجلة ، وفي الشتاء قليلاً ما كنا نستحم ، فلا حمامات ولا تواليت إلاّ في بيوت التجار وكبار العسس والأمراء، أما الخليفة فكان يجلس على مقعد من خزف مذهّب ليقضي حاجته .
ويقال إنَّ هذا المقعد صُبَّ ونُحتَ في أصفهان بطلب من الخليفة ، وأتوا به محملاً على بعيرين رُبطا ببعضهما، واستمرَّ سيرهما من أصفهان إلى بغداد عشرين يوماً ، ومن تملق من الوزراء والأعيان أراد له حفلاً رسمياً بمناسبة وصوله .
وأسمع من ربِّ عملي أنَّ وردة الصباح التي أصبحت مدللة مالكها، ويلبي لها ما تريد أرادت واحداً ، فأقسم لها تاجرها بإنَّ الخليفة سيصلبه على بوابة السوق حين يعرف أنَّ أحداً غيره يستخدم في التواليت مقعد الخزف المذهب.
جواري الأمس كنَّ يطلبن ما يعتقدن أنهن مدللات بعد زمنٍ من الاغتراب عن أوطانهم والسير الصعب والمذل في قوافل تطوي بيئات لم تمرْ بها نواظرهن بين صحارى وبحار ومزارع ، وفي حظهن الأخير جهتان ، أما مالكها فهو كريم في توفير ما تودُّ اقتناءه داخل البيت الذي لا يسمح لها إلاَّ نادراً بمغادرته وبين بخيل يبقى يعاملها بالاحتقار والقساوة والتملك .
أما جواري السينما اللائي فتحت لهن صفحة على الفيس بوك فهن ثريات ، ولديهن الملابس بأجمل ماركاتها والجواهر الغالية ، ويغدق عليهن الأثرياء والملوك والأمراء بالهدايا، وأغلب شروطهن أن لا تعلن أسماؤهن علناً ، فيكون هذا إلى جانبهن وبه يتحاشين الفضيحة الإعلامية والاجتماعية والفنية لأنَّ الكثير من الهدايا كانت من وراء عشق ورغبة بليلة في فندق .أعرف أنَّ ممثلة مصرية وهي تتحدثُ عن الليالي الحمراء لخديوي مصر الملك فاروق أنه أتى بها ليس على سرير، بل في المقعد الخلفي لسيارته ماركة "مرسيدس بينز" حمراء، طراز 770، لم ينتج منها سوى نسختين؛ الأولى تم إهداؤها لشاه إيران، والثانية للملك فاروق ، وكان هذا الطراز يستخدمه الزعيم النازي هتلر، وهي اليوم في حوزة متحف كندي، وحصل عليها بمبلغ يقال إنه تجاوز المليون دولار. ويعرف عن سيارة فاروق أنها كانت مصفحة ومزودة بزجاج سميك يقي ركابه من الصدمات.
تلك الممثلة سمعت الملك في غرامه المستعجل في المقعد الخلفي يقول لها : هنا أعذب للممارسة من تلك التي تتفنن فيها الجواري في سرير الغرفة الخاصة؛ والخاصة تعني الغرفة التي لا تعرف أسرارها الملكة .
عدا الغنى فجاريات السينما ،وهن هنا لسن بصفة الاستعباد ،بل بصفة من تتمناه أخيلة رواد السينما وهن لسن ملزمات بقبوله أو معرفته. لم يخضعن لسلطة أحد سوى لسلطة المخرج، أو المنتج، أو الماكيير ولفترة إعداد الفيلم وتصويره ، ومن يمتلكهن دائماً تلك الحالة لا تطول في علاقتها ومودتها هو الزوج أو الصديق أو العشيق ، وهو معلن ومعروف ويظهران فيها أمام الصحافة وفي المهرجانات ولهما أماكن سرية تترصدهما فيها كاميرات الصحفيين الذين يبحثون عن الفضائح واللقطات والأخبار الحصرية ، وكل شيء تعيشه جواري السينما هو قائم على إرادتهن وحريتهن. ومتى شعرت الممثلة السينمائية خلاف ذلك فإنها إما تعتزل العمل السينمائي، أو تنتحر كما فعلت الممثلة مارلين مونرو، والممثلة المصرية سعاد حسني والمطربة الفرنسية داليدا وأخريات كثيرات .
غير أن الاستلاب في عالم جواري ربّ عملي أعطيل كبير ، ويتحول في لحظات خلوتهن مع أنفسهن إلى عزف حزين على آلة العود وبكاء صامت، وقد ذكرتْ هذا الحلبية وردة الصباح في واحد من كتاباتها فقالت : بكاؤنا لا عويل له ؛ دموعنا صامتة يزنها مالكونا من أجل شهوتهم ، وعندما كنا سبايا يزنها المالكون من أجل حروبهم.
وعيت في مفارقات الأزمة وعصورها وأردتُ أن أكون شاهداً لعصرين . أتنقلُ بين هذا وذلك وأعرف أنَّ الحياة رحلة تبدأ بمحطة الرحم وتنتهي في محطة القبر ، لكن صانع هذه الرواية سمح لروحي أن تستيقظ وتغادر لحدها ، وحين فتحت عيني وجدتُ صباحاً لمقبرة كبيرة اسمها مقبرة الكرخ، وشواهد القبور فيها مكتوبة على الرخام، وأكثرها شواهدَ لشهداء حروب ومفخخات وقتل وحوادث سيارات ، ولا أعرف لماذا شعرت أنَّ قبور الذين يموتون موتاً طبيعياً أقل عدداً.
أعود إلى دموع الجواري ، وأتذكر قولاً لربِّ عملي : الجواري سريعات البكاء ، أكثر حماسة وحرارة في صنع غرام الليل ، وهن الأكثر مهارة في العزف على أوتار العود .
وأتذكر قولاً لوردة الصباح ضمن هذا السياق وهي تكلم حبيبها حسن الحلبي :
حين يتساقط دمعي ، فأنت من يدفعه ليغادر مرايا العين لأني أحبك حبّ الهوى ، وحبّ الماء للعطش.
حتماً هو يتحدثُ بخبرته ، وكنت حين أرى دمعة في أجفان وردة الصباح أتخيل أني أسمع عزفاً جميلاً . الآن وأنا أفتح صفحة لجواري السينما وقد احتشدت صورهن فيها ، فإني أجمع فقط دموع الممثلات المنتحرات، ومع تساقط هذا الدمع أتخيل عزفاً لواحدة من سمفونيات موزارت أو أغنية لكوكب الشرق أم كلثوم.