لطالما أضربت النساء عن العمل



سوزان إيكاري
2024 / 3 / 4

نشر المقال باللغة الفرنسية في موقع الثورة الدائمة بتاريخ 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2022



على عكس الإضراب الذي أطلقته العاملات في بتروغراد في 23 شباط/فبراير 1917، لم يحصل أن أطلق أي نضال جماعي من العاملات الإنكليزيات طوال القرن التاسع عشر أي عملية ثورية على الإطلاق. وهذا ما قاد بعض المؤرخين، ومن بينهم الماركسي إريك هوبسباوم (1917-1923)، إلى التقليل من دور العاملات في تاريخ الصراع الطبقي في الحقبة الصناعية أو إنكاره. في سياق التعبئة ضد هذا المحو، لم تكن المؤرخات الاشتراكيات النسويات في السبعينيات يسعين فقط إلى إعادة العاملات في الماضي إلى مكانهن في كتب التاريخ. كان تساؤلهن حول الآليات التي سمحت بإخفاء الإضرابات النسائية في الماضي، وقبل كل شيء بالنسبة لهن، لـ(إعادة) التوفيق بين حركة تحرر النساء ونضالات العاملات والعمال.

إذا كان هناك حاجة إلى دليل إضافي على شعبية إريك هوبسباوم في كل أنحاء العالم، فهو توفّر بانتخاب لولا الأخير في البرازيل. وبهدف التأكيد رمزياً أن المرشح المنتخب هو رجل يساري، نشر مؤيدوه صورة التقطت له عام 2011 إلى جانب هوبسباوم، وهو من دون شك أحد أكثر المؤرخين الماركسيين المستشهد بهم في الجامعات والأكثر شهرة لعامة الناس. داخل الدوائر النضالية ومن بين المؤرخين اليساريين المتلزمين، نجد أن أعمال هوبسباوم مرحب بها بإجماع. في مقابلة أجريت عام 2016، أعرب المؤرخ الإيطالي إنزو ترافيرزو عن أسفه لأن هوبسباوم، على الرغم من أنه ماركسي، قد انتهى به الأمر بإصدار أعمال منفصلة عن “منظور التحرر والتغيير الاجتماعي والسياسي والتاريخي”. التناقض بين ماركسية هوبسباوم الأكاديمية والحركات الاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين واضح للغاية في معاملته لعمل النساء ومجموع العاملات.


يتفق بعض المعجبين بهوبسباوم أن المؤرخ لم يعطِ مساحة كافية لمسألة الجندر في كتاباته. حتى أنه يؤكد في كتابه الأكثر مبيعاً “عصر التطرفات” أن استعمال هذا المفهوم في التاريخ أيديولوجي! بالنسبة إلى النسويات البريطانيات، المشكلة هي في الواقع أعمق. في الحقيقة، لم يكن هوبسباوم راضياً بأن يبقى صامتاً حول العلاقات بين النساء والثورة. عندما تناول المسألة في بعض المقالات، ساهم في الحقيقة في ترسيخ الأحكام النمطية الجندرية التي روجت منذ القرن التاسع عشر من قبل جزء من الحركة النقابية: من خلال قبولهن بأجور منخفضة وتكاسلهنّ عن التنظّم السياسي، شكلت النساء عائقاً لنضال العمال ضد الرأسمالية.

في مقال نشر عام 1978، (1) سعى هوبسباوم على سبيل المثال إلى تفسير سبب تمثيل الثورة عموماً على أنها امرأة خلال ثورات 1830 ولكن اتُخذ الرجل رمزاً لها في الـ 1880ات. تقوم فرضيته على أن هذا التغيير الأيقوني هو انعكاس لتطور اجتماعي ملموس: في الحقبة الصناعية، لم تعد النساء قادرات على تولي زمام القيادة في الحركات الشعبية لأنهن يشغلن مكاناً مؤقتاً أو هامشياً في العمل المأجور. وبما خص المكانة النسبية للنساء في الحركة العمالية البريطانية خلال القرن التاسع عشر، كتب على سبيل المثال: “في المراكز الصناعية الصغيرة وفي المناجم حيث مكان العمل ومكان العيش كانا غير منفصلين […] شاركت النساء في إضرابات علنية وعامة ومرئية وضرورية، ولكنهن لم يكنّ من بين المضربين” (2).

نشر هذا المقال في مجلة تاريخية راديكالية، وقد أثار استياءً كبيراً بين الباحثات والمناضلات النسويات اللواتي شاركن في حركة “ورشة عمل التاريخ” لبلورة “التاريخ من أسفل”. وعام 1979، نشرت المؤرخات سالي ألكسندر وآنا دافين وإيف هوستيلتر رداً في نفس المجلة على هوبسباوم. (3) وقد انتقدنه على وجه التحديد لإخفائه خلف “التعميمات المهينة” التجارب المتنوعة للنساء بمواجهة العمل طوال القرن التاسع عشر. وبمواجهة هوبسباوم، الذي دافع عن وجود “قسمة جنسية في العمل داخل الصراع الطبقي”، ذكّرت المؤرخات أنه في القرن التاسع عشر، لم تكلّ العاملات البريطانيات عن التنظّم. في حين أشارت المؤرخات في مقالهن إلى تأسيس اتحاد نقابات العاملات بين عامي 1874 و1890 والفيدرالية الوطنية للعاملات بين عامي 1906 و1921، وقد فضّلن الدراسة التفصيلية لأشكال التعبئة الأقل مؤسساتية.

وتناولت مقالتهن، على سبيل المثال، إضراب عام 1844 في مناجم رادكليف (لانكشاير)، بسبب إخلاء عائلات عمال المناجم من المنازل. خلال الإضراب، “كانت زوجات عمال المناجم هن من طردْنَ النقابيين الصفر الذين أتوا من كورنويل، وساعدن على الانتصار في الإضراب”. (4) من خلال التركيز على الصراع حيث المسائل المنزلية والعائلية هي أساس الإضراب، سعت المؤرخات إلى تحدي التمييز الذي ارتكبه هوبسماوم بين النساء المشاركات في الإضراب والمضربات. كما في فيلم ملح الأرض، أرادت المؤلفات إثبات أن الوعي الطبقي والصراع الطبقي يتطوران كذلك بين الرجال والنساء حول قضايا العمل المنزلي والعلاقات العائلية. واحدة من استنتاجات هذه المقالة، الساعية إلى النظر معاً في وضع العاملات وحالة زوجات العمال، هي أنه “لم يكن غير معتاد أبداً أن تضرب النساء. وكان من الصعب الحفاظ على تنظيم العاملات داخل الصناعة وسماع أصواتهن في حركة نقابية يسيطر عليها الذكور”. (5)



لم يدفع هذا الرد هوبسباوم إلى تصحيح مقاله. على الرغم من الانتقادات العديدة التي تلقاها بدءاً من عام 1979، أعيد نشر مقاله كما هو تقريباً في كتابين ضما مجموعة من مقالاته. (6) في لعبة الحد الأدنى من الاختلافات، يمكن للمرء التسلي أو الانزعاج عند ملاحظة أنه في هذين الكتابين كان المؤرخ سعيداً بإضافة إحالة إلى عمل تاريخي كتبته كاتبتان (7) للتأكيد على فكرة أن نساء عمال الطبقة العاملة لم يعملن خلال القرن التاسع عشر.

لا يمكن تفسير توتر هوبسباوم في مواقفه فقط عبر عزو ذلك إلى الاعتبارات التأدّبية أو الأكاديمية. إنما هو بسبب تموضعه السياسي في إنكلترا في أواخر السبعينيات. طوال تلك الفترة، كان هوبسباوم عضواً في الحزب الشيوعي البريطاني، وعلى المستوى الأوروبي، كان منخرطاً بشدة في التحول الشيوعي الأوروبي. طوال عقد من الزمن، لم يخف تشكيكه بالحركات الاجتماعية التي حصلت خلال عام 1968، ولم يثق باليسار الجديد الذي مثّله زميله المؤرخ اي. ب. تومسون. إنما على العكس من ذلك، فإن المؤرخات المنخرطات في مجموعة “ورشة عمل التاريخ” المنتميات إلى الجيل المنبثق من ثورات الـ 68 وبعضهن من الشخصيات المهمة من الموجة النسوية الثانية في انكلترا. إلى جانب شيلا روبوثام، المؤرخة القريبة من الورشة، كانت سالي ألكسندر وآنا دافين من منظمات مؤتمر تحرير النساء الأول الذي انعقد في انكلترا عام 1970.

وبحسب هوبسباوم، إن الالتزام النسوي لهؤلاء المؤرخات يبعدهن عن القواعد والممارسات المطلوبة للتاريخ الأكاديمي، ما يجعلهن عرضة لنشر الأساطير التاريخية. وبما خص شيلا روبوثوام وغيرها من المؤرخات الاشتراكيات النسويات البريطانيات المناضلات في سنوات السبعينيات، أعلن هوبسباوم في مذكراته: “بالنسبة إليهن، لم يكن التاريخ وسيلة لتفسير العالم إنما وسيلة لاكتشاف الذات الجماعية أو، بأحسن الأحوال، وسيلة للحصول على اعتراف جماعي. كان خطر هذاالموقف ولا يزال بأنه يشكك في عالمية عالم الخطاب”. (8)

حتى لو كانت المسألة تتعلق بالتاريخ وليس بالفلسفة، فما زال مدهشاً أن يرى تخصصه بتفسير العالم بدلاً من المشاركة في تحويله، على سبيل المثال من خلال تزويد النساء بأسلحة فكرية لمقاومة آثار قرون من الاضطهاد. وبالإضافة إلى الجدل العلمي حول نسبة العاملات والمضربات في انكلترا في القرن التاسع عشر، كان لا يتفق كذلك مع الدور الذي يجب أن تلعبه مؤرخات في الصراع الطبقي الذي يتناقض بين هوبسباوم والنسويات الاشتراكيات. باسم الرؤية البرجوازية والتقليدية للممارسة التاريخية، سمح لنفسه باستبعاد أعمال المؤرخين/ات المنخرطين/ات في النضال، بدءاً بأول أربع كتب لشيلا روبوثام، التي باتت من الأعمال الكلاسيكية للتاريخ النسوي. (9)

في سيرته الذاتية السابقة الذكر، أكد هوبسباوم أن كتاب شيلا Promise of a Dream هو أفضل كتاب كتب على الإطلاق حول فترة الستينيات في بريطانيا العظمى. (10) ذكر في هذه المناسبة أنه كان مدرس شيلا، وهذا ما جعله متناقضاً نظراً لتقليله من شأن كتاب Hidden from History. في كتاباته الحديثة، (11) لا يذكر هوبسباوم مسألة تدريسه لشيلا. من جهتها استمرت بالإصرار على الدور الأساسي الذي لعبتها الصداقة التي حافظت عليها مع المؤرخين/ات الماركسيين/ات، إدوارد ودوروثي تومسون.



في الستينيات والسبعينيات، كانت روبوثام أقرب سياسياً إلى عائلة تومسون، حيث ترك الأخيران الحزب الشيوعي البريطاني عام 1956 وكانا معارضين للستالينية علناً. بين عامي 1968 و1976، في السنوات التي كتبت فيها أشهر أعمالها، اعتبرت روبوثام نفسها تروتسكية. وجاءت عضويتها إلى مجموعة الاشتراكية الأممية وقتها مدفوعة بقرفها الشديد الذي شعرت به إثر الخطاب العنصري الصريح الذي ألقاه عضو البرلمان البريطاني إينوك باول، المنتقد الشديد للهجرة الجماعية إلى المملكة المتحدة.

خلال كتابتها لكتيبها الأول، أكدت روبوثام أنها صدمت بشدة بعد قراءتها خاتمة لنص لتروتسكي بعنوان “ضد البيروقراطية سواء كانت تقدمية أم لا”. ومن أجل إظهار أن خطابها النسوي لا يخلو من الجذور الثورية وأنه يتناسب مع تاريخ الصراع الطبقي، اختارت أن تجعل هذا المقطع من مقالة تروتسكي خاتمة كتابها تحرر النساء والسياسات الجديدة الصادر عام 1969:

“قالت الرفيقات للرفيق كارتشيفسكي: “إنك لا تفكر إلا في نفسك”. من الواضح أنه لا يوجد حدود للأنانية الذكورية في الحياة العادية. لتغيير الظروف الحياة، يجب تعلم رؤيتها من خلال عيون النساء”. (12)

أمنت فترة الاحتجاجات الاجتماعية في إنكلترا، في أواخر الستينيات والسبعينيات، لروبوثام فرصة للتعبير عن الكتابة التاريخية والنضالية عند العاملات والعمال، لأنها كانت تعتقد أن نهاية الاستغلال الرأسمالي شرط ضروري لنهاية اضطهاد النساء. في تلك الفترة، تأثرت روبوثام بشدة بالإضراب في مصانع فورد عام 1969 حيث طالبت العاملات بأجور متساوية مع أجور العمال وبإضراب آخر نفذته العاملات في شركات النقل للمطالبة بحقهن بقيادة الباصات. في تلك السنوات، أكدت على تأثير المناضلات، داخل حركة تحرر النساء، الآتيات من صفوف الطبقة العاملة، مثل غيرتي روش، التي قادت في ليدز عام 1970 إضراباً عفوياً لعاملات النسيج مستهدفاً أصحاب العمل والنقابات بنفس القدر. من خلال اتصالها بعاملات مثل روش، فهمت روبوثام أن إضراباتهن لا تقتصر على المطالبة بتحسين الأجور. كان الهدف منها تحسين نوعية للحياة: مذاك، أكدت روبوثام في كتاباتها أن رعاية الأطفال ووقت العطلة الضرورية في الحياة العائلية ليست مسائل ثانوية في الصراع الطبقي. استفادت من التجربة الأخيرة بشكل كبير بحيث وضعت كتابها التاريخي “المرأة والمقاومة والثورة” الصادر عام 1973 بعد أن نظمت مؤتمراً للقراءات الثورية مع العاملات عامي 1971 و1972.

يغطي الفصل الخامس من الكتاب والمعنون “الخبز والورد” نفس الفترة التاريخية التي كتب عنها هوبسباوم بعد خمس سنوات في مجلة History Workshop Journal. تستعمل روبوثام، كما فعل هوبسباوم، مفهوم “الاقتصاد الأخلاقي للعامة” الذي وضعه إي. ب. تومسون لتوضيح أن النساء قد تسيسن خلال العصر الحديث حول مسائل الاستهلاك وأسعار السلع. وعلى العكس من هوبسباوم، لا تعتبر روبوثام التصنيع هو قطيعة كبيرة في علاقة النساء بالثورة.

بدلاً من مقارنة حركات “عامة” النساء خلال القرن الثامن عشر والحركات “البروليتارية” الذكورية في الفترة الصناعية، تقترح روبوثام اعتبار التحركات النسائية في القرن التاسع عشر مزيج من الطقوس الموروثة من فترة ما قبل الحقبة الصناعية، وموروثات الحركات الثورية، مثل 1789 و1848 وكومونة باريس وتطور نسوية الشوارع. تحرص المؤرخة على تكرار وجود تفاعلات مستمرة بين الصراع الطبقي وحركة تحرر النساء. وبحسبها، إن تقوية الوعي النسوي بين العاملات يمر بالضرورة عبر التجارب النضالية، مثل الكومونة، التي حاولت خلالها النساء تنظيم النضال الثوري بطريقة أكثر مساواة مما كانت عليه في بعض الأحزاب السياسية والنقابات الموجودة وقتها. وعلى العكس من ذلك، إن التنظيم السياسي والاقتصادي له تأثير على الحركة العمالية بأكملها كما كان واضحاً في إضراب عاملات مصنع الكبريت في لندن عام 1888.


الهوامش:

[1] Hobsbawm, Eric, « Man and woman in socialist iconography », History Workshop Journal, n° 4, automne 1978, p. 121-138

[2] Hobsbawm, Eric. « Sexe, symboles, vêtements et socialisme », art. cit., p. 14.

[3] Alexander, Sally, Anna Davin, et Eve Hostettler, « Labouring Women : A Reply to Eric Hobsbawm », History Workshop, n° 8, 1979, p. 174 – 182.

[4] Ibidem.

[5] Alexander, Sally, Anna Davin, et Eve Hostettler, « Labouring Women… », art. cit., p. 180

[6] Hobsbawm, Eric, Workers : Worlds of Labor, Pantheon Books, 1984 et Hobsbawm, Eric, Uncommon people : Resistance, Rebellion and Jazz, The New Press, 1998

[7] Tilly, Louise et Joan W. Scott, Women, Work, and Family, Holt, Rinehart and Winston, 1978

[8] Eric Hobsbawm, Interesting Times : A Twentieth-Century Life, Pantheon Books, 2002, p. 295 [traduction personnelle

[9] Rowbotham, Sheila, Women’s Liberation and the New Politics, Spokesman, 1969 Women, Resistance and Revolution, Allen Lane, 1973 Woman’s Consciousness, Man’s World, Pelican, 1973 Hidden from History : 300 years of Women’s Oppression and the Fight Against It, Pluto Press, 1973.

[10] Eric Hobsbawm, Interesting Times…, op. cit., p. 252

[11] Rowbotham , Sheila, Daring to Hope : My Life in the 1970s, Verso, 2021

[12] Trotsky, Léon, « Against Bureaucracy, Progressive and Unprogressive » (6 août 1923) in Problems of Everyday Life, Monad Press, 1973, p. 65