أحلام فارقتنا وأحلام لن تفارقنا



جلبير الأشقر
2023 / 3 / 15

كانت من أسمى البشر بشجاعتها وكفاحيتها، ومن أرفع الأوجه التي مثّلت النضال التحرري في منطقتنا عندما بلغ أعلى قممه حتى الآن خلال «الربيع العربي». وُلدت في عام 1964 في بلدة قربة على الساحل التونسي في ولاية نابل. واجتمعت فيها القوى البدنية والذهنية، فكانت في سنواتها المدرسية رياضية من الطراز الأول بما جعلها تنتمي إلى الفريق الوطني في ألعاب القوى (تميزت في العدو والقفز) كما كانت تلميذة بارعة انتقلت من المدرسة إلى كلية الطب بتونس حيث استكملت دراستها بتخصص في طب نفس الأطفال والمراهقين. وقد أصبحت بدورها لاحقاً أستاذة في حقل تخصّصها وطبيبة بارعة تولّت رئاسة قسم طب نفس الأطفال والمراهقين في مستشفى المنجي سليم بمدينة المرسى.
اسمها أحلام بالحاج، وقد عاشت وفية لاسمها لم تفارقها أحلام التحرّر وتغيير العالم منذ صغرها. فقد ولجت النضال النقابي ومن ثم السياسي في شبابها، ونشطت في سنواتها الجامعية في الاتحاد العام لطلبة تونس الذي كان أحد أركان النضال الديمقراطي ضد نظام الحبيب بورقيبة السلطوي. كما اعتنقت قضية التغيير الثوري منذ تلك الفترة ونشطت لبضع سنوات في صفوف اليسار التونسي. وقد استمرت تنشط في الحقل النقابي فأصبحت الكاتبة العامة للنقابة العامة للأطباء الجامعيين والاستشفائيين، المنتمية إلى الاتحاد العام التونسي للشغل.
أما الحقل النضالي الذي بلغ فيه نجمها ذروته فهو النضال النسوي. انتمت أحلام بالحاج إلى الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وأصبحت رئيسة الجمعية مرة أولى في عام 2004 ومرة ثانية في عام 2011. وبتلك الصفة لعبت دوراً بارزاً في أحداث الثورة التونسية التي أطاحت بدكتاتورية زين العابدين بن علي في عام 2011، وعلى الأخص في المناقشات التي مهّدت لصدور دستور جديد لتونس خلال السنتين اللاحقتين. فقد ناضلت مع سائر النسويات من أجل أن يكفل الدستور المساواة في الحقوق بين النساء والرجال وضد المحاولات التي رمت إلى تكريس التباين في الحقوق والواجبات من خلال الحديث عن «تكامل» الأدوار في إطار العائلة. وقد تصدّت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات برئاسة أحلام بالحاج لتلك المحاولة ونظّمت تظاهرة كبيرة يوم «عيد المرأة» بتونس في 13 أغسطس/آب 2012، بما أدّى إلى إحباط المحاولة. وهكذا جاء دستور الجمهورية التونسية الصادر في عام 2014 أكثر تقدماً بكثير في صدد حقوق النساء (وغيرها من الحقوق الديمقراطية) من كافة الدساتير التي عرفتها دول الجامعة العربية حتى يومنا.


فقد جاءت المادة الأولى (الفصل الأول، بالتسمية المستخدمة في تونس) في الباب الثاني من الدستور المتعلق بالحقوق والحرّيات، وهي «الفصل 21» من الدستور، تضمن المساواة بين الجنسين بالتعابير التالية: «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم». وقد نصّ «الفصل 40» في الباب ذاته على أن «العمل حق لكل مواطن ومواطنة، وتتخذ الدولة التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف. ولكل مواطن ومواطنة الحق في العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل».
كما جاء «الفصل 46» يضيف ما يلي: «تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات. تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة. تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة».
ومن الجدير بالذكر أن حاكم تونس الجديد، قيس سعيّد، لم يتجرّأ على المساس بنص هذه المواد الدستورية، فأبقاها في الدستور الجديد الذي أصدره في العام الماضي، بل وادّعى المضي قدماً على الدرب ذاتها بعد انقلابه على البرلمان التونسي، من خلال تعيينه امرأة لرئاسة الحكومة التونسية، وهي بادرة جيدة بذاتها، لاسيما أنها المرة الأولى التي يجري فيها تعيين امرأة في هذا المنصب في المنطقة العربية، بالرغم من أن كامل السلطات بيد سعيّد ويكاد دور أعضاء حكومته يقتصر على تنفيذ التعليمات التي يلقيها عليهم بصورة مسرحية وكاريكاتورية أمام كاميرات «التلفزة الوطنية التونسية».
وسوف يبقى اسم أحلام بالحاج مرتبطاً بالخطوة الكبرى إلى الأمام التي تحققت في تونس في مجال الإقرار الرسمي بحقوق النساء. لكنّها لن تستطيع أن تواصل بنفسها المشاركة في النضال النسائي وسائر النضالات الديمقراطية والتحرّرية: فقد وافتها المنية يوم السبت الماضي بعد طول صراع مع مرض خبيث، وهو صراع انضاف عبؤه العظيم إلى الأعباء التي تحمّلتها أحلام بالحاج بوصفها أم لولدين، اضطرت إلى تربيتهما منفردة بعد اضطرار زوجها، جلال بن بريك الزغلامي، إلى العيش بالمنفى في ظل حكم بن علي، وناشطة قيادية في الحقلين النقابي والنسوي.
فارقتنا أحلام، ويا لها من خسارة عظيمة ومفجعة، لكنّ أحلام التحرّر وتغيير العالم باتجاه العدالة والمساواة، التي ألهمت حياتها النضالية وشجاعتها التي قلّ مثيلها، هذه الأحلام لن تفارقنا، عسى أن تبقى ذكرى أحلام بالحاج مقرونة بها لدى الجيل الجديد والأجيال القادمة.