مَضى عيد المرأة وعادت مجتمعاتنا السَقيمة لعادتها القديمة



مصطفى القرة داغي
2023 / 3 / 18

في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، طَفَحت مواقع التواصل الإجتماعي بمنشور تافه في فكرته، يدعي ناشره بأن الحكومة الصينية قد وزعت ما جاء فيه من هُراء على شعبها، لتشرح لهم طبيعة الصراع بين روسيا وأوكرانيا بشكل مُبَسّط، بعد أن أشكِل عليهم فهمه! ورغم أن طبيعة صياغة المنشور، وما فيه من تعظيم وتبرير لروسيا، وتصغير وإلقاء للوم على أوكرانيا، تعكس هلوسات الخيال المريض لجيوش ذباب بوتين الألكتروني الذي تعج به صفحات التواصل، والذي قوامه شرائح واسعة من مجتمعاتنا المازوخية وجالياتها في الغرب، المَسكونة بعشق بوتين، التي سئِمت الحرية والكرامة وبدأت تحِن للذُل والمَهانة، ولم تعُد تطيق إنتظار لحظة إنتصاره وتدميره للدول الديمقراطية التي إحترَمَت أدميتها، ليحقق لها هذه الأمنية. إلا أنه ليس بعيداً أن يكون مِن بنات أفكار العقل السياسي الصيني الشمولي التآمري دفاعاً عن حليفته روسيا، لِما فيه من تحامل على الغرب، الذي يبدو أنه قد وجد الفرصة لشيطنته أمام شعبه، رغم أنه يُسيء فيه لشعبه ويظهره ساذجاً، وهو عكس ما نعرفه عن الشعب الصيني من ذكاء وفطنة. لكن يبدو أن مُفبرِك المنشور، كائناً من كان، يظن أن كل البشر أغبياء مثله، ومثل مَن تناقلوا منشوره على عَماهم!

المنشور على شكل قصة تُشبِّه أوكرانيا بزوجة تطلقت من زوجها منذ أكثر من 20 عاماً، وهو هنا روسيا، وقد كان كريماً فترك لها مالاً وأبقى الأطفال (القرم، لوغانسك ودونيتسك) في حضانتها. لكن بعد فترة بدأت بمغازلة كاوبوي (أمريكا)، وعصابة لصوص (الغرب)، والإستماع إلى رأيهم لإستفزاز الزوج السابق، فغضب وأخذ منها طفلاً بالقوة (القرم)، فقالت الزوجة الغاضبة إنها ستتزوج (الناتو) لإجباره على إعادة الطفل. (الناتو) ظل يماطل لأنه لم يرغب بالمشاكل مع زوجها السابق، لكنه خطط لإذلاله بمساعدتها! كما أن الزوجة لم تكن أماً صالحة، وكانت تضرب أطفالها (لوغانسك ودونيتسك)، لذا طلبوا المساعدة مِن والدهم، فنفذ صبره وقرر إستعادتها بالقوة لحماية أطفاله! يقول المنشور بأنه بعد هذا التفسير، فَهِم الصينيون كل شيء. وبغض النظر عَن الخلل الأخلاقي الذي تعكسه مخيلة كاتب النَص، عِبر تبريره غزو بوتين الهمجي الغاشم لجارته أوكرانيا وإبادة وتهجير شعبها، إلا أننا نلاحظ فيه خلل نفسي يتمثل بالخيال الهلوساتي الخصب في إسقاط أحداث الصراع على علاقة بين زوج وزوجة وفق عقلية عصر الحريم والحرملك والمرأة الناشز وبيت الطاعة! إضافة الى زناخة تقيحات مرض العصر، المُتَمَثّل بعقدة العداء للغرب وكرهه، التي تفوح من كلماته!

المهزلة هي أن الرجال في مجتمعاتنا، الذين يعاني أغلبهم من الشزوفرينيا، والذين إمتلئت صفحاتهم بمواقع التواصل في يوم المرأة بأرق عبارات التهنئة وشعارت التضامن للنساء في عيدهِن، كذباً ونفاقاً، إصطفوا ولا يزالون منذ بداية الغزو الى اليوم إلى جانب روسيا(الرجل)، الذي يريد أن يُعيد أوكرانيا(زوجته الناشز)، غصباً إلى بيت الطاعة، وأعلن بعضهم ذلك بفخر وأوجَدوا له المُبررات، أو سَوّقوا مُبرراته الواهية، أو أعادوا نشر المنشور أعلاه بصفحاتهم، فيما أكلت القطة لغاليغ البعض الآخر! كما إن أغلب الرجال الكيوت، الذين إنهالوا على النساء في عيدهن بأعذب التهاني وأرق التبريكات وأطيب التمنيات، هم أنفسهم مَن إنهالوا وتنمروا بعدها بيومين كالمسوخ على لاعب كرة قدم عراقي شهير، بأقذر الألفاظ وأحَط التوصيفات، لنشره صورة مع إبنته بمناسبة تخرجها! وهو أمر ليس بغريب على مجتمعاتنا عموماً، وعلى رجالها تحديداً، الذين يعيشون إزدواجية في حياتهم، ويعانون من شيزوفرينيا في شخصياتهم، وفي طريقة تعاملهم مع المرأة، كما مع أغلب القضايا العامة والشخصية، فالإزدواجية والشزوفرينيا باتت كأنها جين يجري في عروقهم، كما أن التنمر صفة يكتسبونها من المجتمع بمرور الوقت، وبالتالي كل هذه الصفات الغير حميدة، لم تعد حالات نفسية يمكن معالجتها بالأدوية والمَصحّات النفسية، وعلاجها إن كان لا يزال ممكناً، يحتاج إلى معجزة، وحتى لو تحققت، فسيحتاج نجاحها الى عدة أجيال لتخليص المجتمع من آثاره المدمرة، والحصول على نتائج ملموسة.

مثال على هؤلاء، وهم بالملايين اليوم، شخص يدعي بأنه فنان مصور، وهو مِمّن أمطر النساء أول أمس بعبارات التهنئة التقدمية، إستنكر منشور له بعد أشهر من الحرب ما وصفه بتشويه سمعة الجنود الروس من قبل ماكنة الغرب الإعلامية! أي أن هذا الفنان، الذي يفترض أنه مرهف الحِس ونصير للمرأة، إحترق قلبه على تشويه صورة الجندي الروسي الغازي المُعتدي، وليس على المرأة الاوكرانية، التي فقدت أبنائها أو ترَمّلت أو تهَدّم بيتها على رأسها، وخرجت تحمل أطفالها لا تلوي على شيء. ومتناسياً كعادته أن البلد الذي يعيش فيه واقف بفضل مساعدات هذا الغرب، وديناره مدعوم من بنوكه!

المُحَصّلة التي يخرج بها المَرء مِن ملاحظته لتصرفات أمثال هؤلاء، هي أنهم يحاولون إخفاء بدائيتهم، وإظهار أنفسهم كمتمدنين من خلال مجاملات عيد المرأة. لكنهم يعودون لغرائزهم الذكورية البدائية، التي تسعى لقمع المرأة، وتراها أداة وسِلعة وفق رؤية عمر بن العاص في فلم الرسالة حين جادل جعفر بن أبي طالب في مجلس النجاشي، هذا إن صَحّت هذه الواقعة، لأن أحداث التأريخ وشخصياته النسائية تثبت أن نظرة العرب وطريقة تعاملهم مع النساء قبل الإسلام لم تكن بهذا الشكل، لكنها ثقافة المُنتصر التي تسعى لتشويه المَهزوم، والتي نذكرها هنا لدلالتها: "ماذا لهُن، ونحن نشتريهن ونُطعمهن ونَكسيهن ليَخدِمننا، أو نبيعهن إذا أبَين الطاعة؟"، ويطلقون لها العنان في الموقف من الغزو الروسي لأوكرانيا، أو مِن أب أحَب أن يفرح بتخرج إبنته وقرة عينه من خلال نشر صورة له معها! بمعنى أخر هم يرتدون في يوم المرأة قناعاً زائفاً للتمدن والتقدمية والليبرالية، لينافقوها به في يومها، كجزء من أسلوب المجاملة المعتاد لدى المجتمع العراقي، والذي تعود أصوله الى ثقافة الكِدية التي نشأوا عليها. لكنهم يخلعون هذا القناع، ويعودون إلى حقيقتهم، في ما تبقى من أيام السنة. لذا فتصرفاتهم على طول هذه السنة، وليس في يوم واحد، هي التي تعكس حقيقة تفكيرهم ونفسياتهم.