جدلية الحياة والشهادة في شعر سعيدة المنبهي



الصديق كبوري
2023 / 5 / 7

ولدت سعيدة المنبهي بمراكش سنة 1952، وقد بدأت مشوارها السياسي خلال مرحلتها الطلابية (تخصص الأدب الإنجليزي) بجامعة محمد الخامس بالرباط حيث انخرطت في صفوف المنظمة الطلابية (الإتحاد الوطني لطلبة المغرب)، وأصبحت فاعلة في صفوفها بعد استقطابها من طرف أخيها عبد العزيز المنبهي الذي انتخب رئيسا لهذه المنظمة خلال المؤتمر الخامس عشر المنعقد سنة 1972. وبعد حصولها على شهادة الاجازة في اللغة الإنجليزية فضت سنتين بمركز تكوين الأساتذة، وهو ما ممكنها من ولوج ميدان العمل كمدرسة للغة الفرنسية بإحدى المؤسسات التعليمية الإعدادية بالرباط.
انخرطت هذه المناضلة نقابيا في منظمة الاتحاد المغربي للشغل وسياسيا في منظمة إلى الأمام، وهي منظمة ماركسية لينينية سرية كانت تحضر للثورة الاشتراكية بالمغرب. وبعد اختطاف أهم قيادات هذه المنظمة أسندت لسعيدة المنبهي مهمة مساعدة المناضلين الفارين من قبضة الاعتقال على التخفي والإفلات من الملاحقات والمطاردات البوليسية. وبتاريخ 16 يناير 1976 تم اختطافها من منزلها بالرباط على إثر حملة اعتقالات واسعة شملت العديد من المناضلين اليساريين كان من ضمنهم ثلاث مناضلات أخريات وهن فاطمة عكاشة (أول مهندسة كهربائية بالمغرب) وربيعة لفتوح (طالبة العلوم السياسية المنحدرة من طنجة والتي تميزت بذكائها حسب البوليس السياسي) وبييرا دي ماجيو Pierra Di Maggio( هي أستاذة يسارية من جنسية إيطالية عرفت بمساندتها للحركة الماركسية اللينينية المغربية ) والتي تم اطلاق سراحها دون إحالتها على المحكمة لتتعرض فيما بعد للترحيل.
قضت سعيدة المنبهي فترة التحقيق بدرب مولاي الشريف الرهيب بالدار البيضاء والذي كان يعتبر من أسوأ أماكن الاحتجاز خلال سنوات الرصاص. وتمت محاكمتها في يناير 1977 رفقة 138 معتقلا بتهمة المس بأمن الدولة، و أدينت بخمس سنوات سجنا نافذة يضاف إليها سنتان وهي العقوبة الغريبة التي صدرت في حق جميع المتهمين بدعوى عدم احترام القضاء1. وبالإضافة إلى التهم الثقيلة الآنفة الذكر، فإن القاضي لم يتورع في استجوابها حول طلاقها من زوجها الأول وطبيعة علاقتها بالسيد عزيز العرايشي (حوكم ب 32 سنة نافذة). وحسب من حضروا المحاكمة فإن سعيدة المنبهي أجابت عن كل الأسئلة بنوع من الجرأة، إذ لم تشعر بأي ذنب كما أراد القاضي من خلال توجيهه للمحاكمة، بل استغلت لحظة المحاكمة للتنديد بالظروف السيئة التي تعيشها النساء، وأعطت في محاكمتها نموذجا حقيقيا للدور المنوط بالمرأة في المجتمع، فكشفت زيف العديد من الأوهام والأساطير التي تكرس دونية المرأة، ونددت بالقمع المزدوج المسلط عليها، وقد نالت مرافعتها استحسان من تتبعوا أطوار محاكمتها، وتم التعبير عن ذلك بالتصفيق، رغم أن التصفيق ممنوع أثناء المحاكمات2.
في الفترة التي قضتها سعيدة المنبهي بدرب مولاي الشريف تعرضت رفقة زميلاتها فاطنة الفتوح وربيعة عكاشة لأبشع أنواع التنكيل والحط من الكرامة الإنسانية على أيادي جلادين غلاظ شداد لا يتقنون إلا أسلوب التعذيب والاحتقار للكائنات الآدمية، كما فرضت عليهن العزلة التامة بالسجن المدني بالدارالبيضاء3. وفي قلب السجن ظلت سعيدة وفية لمبادئها، ولم تتزحزح عنها قيد أنملة قناعاتها الراسخة، ولم تثنها ظروف الاعتقال القاسية والموغلة في الوحشية عن نسيان الاهتمام بمحبة الشعب وقضاياه، وقد ترجمت هذه المحبة في شكل اشعار ستضل تخلد ذكراها ونضالها ومرورها الخاطف كالشمعة في هذا العالم.
إسوة برفاقها دخلت سعيدة المنبهي في إضرابين لا محدودين عن الطعام: الأول بدأ في نونبر 1976 بغاية تعجيل تاريخ المحاكمة واستمر 19 يوما، وقد تم توقيفه بعد تحديد تاريخ بدأ المحاكمة يوم 3 يناير 1977. والثاني ابتداء من 8 نونبر 1977 للمطالبة بالاعتراف بصفة المعتقلين السياسيين وتحسين ظروف الاعتقال وفك العزلة وهو الإضراب الذي دام 45 يوما، وقد نقلت في اليوم الرابع والثلاثين الى مستشفى ابن رشد لتفارق الحياة يوم 11 دجنبر 1977 بسبب الإهمال وسوء المعاملة. وتسجل اسمها في تاريخ مقاومة الشعوب كأول امرأة عربية توفيت بعد خوضها للإضراب اللامحدود عن الطعام دفاعا عن قضية سياسية.
تفتقت ملكة الشعر المرهفة لدى سعيدة المنبهي في السجن المدني بالدار البيضاء تحت وطأة القهر وسياط الجلاد4، وقد خاضت غمار تجربة الإبداع ونظم الشعر في أفظع شروط الأسر قساوة: إذ فرضت عليها العزلة الانفرادية في زنزانة ضيقة، وفقدت أي اتصال بالعالم الخارجي، وتم هدر كرامتها الإنسانية من طرف جلادين قساة. ومع ذلك قاومت بتجلد منقطع النظير، وهذا دليل على قدرة المرأة على قلب التوازنات المقيتة، وتحويل السلبيات إلى اضدادها إن هي استطاعت فعلا إن تختار درب الممارسة، والمشاركة العضوية، والنضال المتيقظ5.
وفي هذا الصدد يقول الشاعر والناقد عبداللطيف اللعبي وهو أحد أعضاء منظمة إلى الأمام السابقين ومدير مجلة أنفاس المحظورة ذات التوجه التقدمي:
"من منا لا يصبح شاعرا عندما يعانق القضبان، ويرهف السمع إلى الضجة الاحتفالية المنتشرة، والتي ليس بمقدور أحد إلا السجين الذي يغمره حب كبير أن يسمعها وهي تخفق في مكان ما داخل القارة الغريبة لجسمه مسجل الزلزال "6.
ويستطرد الشاعر والناقد عبداللطيف اللعبي في القول أن هذه الشاعرة كانت تكتب أشعارها بدمها خلسة، ولم تكن تهتم بتنقيح ما تكتب، لأنها لم تكن ـ كشعراء التصنع والبديع ـ مهووسة بالبحث عن أضواء الشهرة ولا مكترثة بالمخبرين وجواسيس اللغة. كانت تحاول أن تؤرخ شعرالالمحنتها الخاصة، وتحكي تفاصيل عذابها داخل السجن، وتبث عبر قصائدها شوقها ولوعتها للأهل والأحبة والرفاق، وتفتح قلبها على مصراعيه للطيور المطاردة، للأطفال الموشومين بالفاجعة، للنساء الثكالى اللواتي جردهن الاستغلال والقهر من أثداء العطاء، لرفيق العمر المفصول عنها بكلمترات الأسوار والعسس7.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد وفاة سعيدة المنبهي، تكلفت لجان مناهضة القمع بالمغرب ( لجان حقوقية ظهرت في المغرب وبعض بلدان أوروبا عقب الاعتقالات الواسعة التي عرفتها البلاد سنة 1972) بتجميع قصائدها ونشرها في ديوان شعري سنة 1982، وقد وضع الكاتب محمد بلمجدوب مقدمة الطبعة الثانية التي صدرت سنة 2000. والديوان يؤرخ تفاصيل محنة سعيدة المنبهي، ويحكي تفاصيل عذابها ومعانتها من لحظه الاختطاف إلى لحظة الاحتضار. ويتضمن أشعارا ودراسة غير مكتملة حول الدعارة ورسائلها للأهل والرفاق.
ونحن نطالع ديوان سعيدة المنبهي نصادف أول قصيدة نظمتها في شهر يناير 1976 تتحدث فيها عن لحظة اختطافها بدون احترام للضوابط القانونية. تحكي فيها عن عبث زوار الليل بمحتويات غرفتها، وتحطيم بعض مقتنياتها، وهي قصيدة موجهة لخطيبها عزيز لعرايشي. أما آخر قصيدة فهي مؤرخة بتاريخ 10 نونبر 1977، أي شهر بالضبط قبل وفاتها، وفيها تتحدث عن بدء الإضراب اللامحدود عن الطعام، وتلامس فيها بكاء النساء، وصمود المناضلين، وتدعوهم للاستمرارية ومواصلة المسير. ففي نظر شابة حالمة مثلها فالوجود في السجن ليس نهاية المطاف طالما أنه يدخل في إطار مسيرة التقدم إلى الامام. كما يتضمن الديوان مشروع دراسة تعرضت فيها لقضية الدعارة من زاوية ارتباطها بما هو سياسي بعد تحليلها لعدة شهادات لممتهنات الجنس صادفتهن داخل السجن بعد أن قدفت بهن الظروف وراء القضبان 8. كما تضمن الكتاب رسائل مهمة وجهتها سعيدة لأفراد اسرتها: أختها باهية الطالبة آنذاك في كلية الطب، وأختها خديجة زوجة المعتقل السياسي السابق عزيز لوديي وابنتهما فدوى، وأختها مليكة التي تسكن بمراكش وأبناؤها دنيا وكريم وحورية، ولأخيها عزيز رئيس المؤتمر 15 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي تعرض مرارا للاعتقال والاختطاف بعد الافراج عنه بأيام، والجميل حقا في كل رسائلها أنها هي من تدعو أفراد أسرتها إلى الصمود. وتتخلل هذه الرسائل لوعة الفراق والمحبة الصادقة، كما تلح على ضرورة الاستمرار في مراسلتها من طرف أفراد العائلة حتى تبقى عملية التواصل قائمة 9.
وفيما يلي بعض النماذج من أشعار سعيدة المنبهي التي تؤرخ لمعاناتها من مرحلة اختطافها إلى مرحلة الاضراب والاحتضار:
تبدأ سعيدة روايتها / معاناتها بلحظة المداهمة في قصيدتها المؤرخة في يناير 1976، وتصف فيها بكثير من التدقيق لحظة مداهمة منزلها على الساعة السادسة مساء، واختطافها من طرف وحشين أسودين عكرا سكينتها، وكسرا الكرسي الذي تعودت الجلوس عليه مع خطيبها ورفيقها في الالتزام النضالي والسياسي السيد عزيز لعرايشي. وتقول في هذه القصيدة:
كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء
حين اقتحم الغرفة تنينين أسودين
عنصرين من البوليس السياسي
ورجرجا مياه هدوئي
ببيتنا المشترك10.
أما في القصيدة الثانية فتحاول سعيدة الإحاطة شعرا بالظروف السياسية التي كانت تعم البلاد، والسياق العام للاعتقالات التي عرفتها مرحلة بداية السبعينيات من القرن الماضي، والشروع في اقتلاع واجتثاث جذور اليسار الجذري من الساحة السياسية. وتحاول عبر ثنايا القصيدة نقل وتوثيق هذه اللحظات التاريخية، إذ تقول في القصيدة المؤرخة ب 20 أكتوبر 1976:
ريح بلادي
تعوي، تصرـ تهب
على الأرض المبللة
تكنسها 11.
وفي قصيدة حول السجن، تحاول سعيدة المنبهي أن تصحح النظرة الخاطئة التي تعتبر السجن فضاء خاصا لحبس المجرمين بهدف ترويضهم، وعقابهم عما اقترفوه، إذ تقول:
ربما كانت معلمتك
قد حدثتك عن السجن البشع
عن مكان للعقاب
يوضع فيه الأشرار
وعندئذ يستيقظ في رأسك الصغير سؤال:
كيف؟ ولماذا؟ أنا هناك
وأنا الممتلئة حبا لك ولكل الأطفال الآخرين
أنا هناك
لأني أريد ألا يبقى السجن غدا أبدا هنا.
وبعد محاكمة 1977 الشهيرة تقول سعيدة المنبهي في قصيدتها المعنونة بتاريخ 13 غشت 1977:
بعد الحكم الجائر
أنتظر دق الساعة
ساعة اللقاء
والانتصار
منذ ما يقرب من سنتين
لا شيء غير الصمت
الكثيف، المجلجل...
تطرفت سعيدة المنبهي في ديوانها للمعركة الوجودية للمعتقلين السياسيين، والمتمثلة في الإضراب اللامحدود عن الطعام، ومواصلتها معركة الأمعاء الفارغة بشموخ وإقدام واعتزاز بالنفس، إذ تقول في إحدى قصائدها:
وأنا قبل أن أغادر
نظرت إلى الجدران
لوحاتنا
تترنح على الأرض
تتعذب لأجل الشهيد
لرؤيتها رحيلنا
فلربما لن نعود
أما أنا فقد أقسمت
أن أواصل المعركة 12.
انطلاقا من هذه العينة المنتقاة لأشعار سعيدة المنبهي، يمكن القول إن هذه الشاعرة /المناضلة كانت حريصة أشد الحرص على توثيق الذاكرة الجماعية للاعتقال السياسي بالمغرب، فقد صورت في شعرها بلغة مباشرة لا تقبل التأويل وتعدد القراءات حقبة تاريخية دموية اكتوت بنارها بمعية رفاق دربها وأهاليهم. ومن خلال قصائدها يمكن التقاط كل تفاصيل الألم القاسي الذي خبرته بدءا من الاختطاف إلى التعذيب بمراكز الاحتجاز إلى المحاكمات غير العادلة إلى الحياة/ الموت بين جدران السجن القارسة 13. كما نلمس في أشعارها ورسائلها ودراستها غير المكتملة حول الدعارة توق عارم إلى الدفاع عن حقوق الانسان والديموقراطية في المجتمع المغربي، ودعوة الى التضامن مع المهمشين والمستضعفين والمظلومين والمقموعين، وطموح جارف لبناء أساس الديموقراطية الحقيقية، ونشر الوعي العلمي النقدي، وسلوك التسامح والحرية والعدل والمساواة بين كل الناس14.
عطفا على ما سبق، يمكن القول إن المناضلة اليسارية سعيدة المنبهي رغم قصر حياتها حيث توفيت عن عمر يناهز 25 سنة، ورغم أنها لم تتمرس على نظم الشعر لمدة طويلة، إلا أنه يحسب لها أنها ساهمت بشعرها في حفظ ذاكرة سنوات الرصاص، وتوفقت إلى حد بعيد في تصوير بشاعة هذه المرحلة السوداء من تاريخ المغرب، ، وبشرت بعالم تسود فيه الديموقراطية والعدالة والمساواة وينعم فيه الجميع بالحقوق التي تكفلها الشرائع والقوانين. وأن استشهادها وهي في عنفوان عطائها الابداعي والنضالي هو ما سيجعل من أشعارها دوما ينبوعا يرشح بالحياة المتدفقة، ومن وسيرتها (رغم قصر المدة التي عاشتها) نيراسا لكل الحالمين والحالمات بالغد الأفضل.
لائحة المراجع:
1. خلال أطوار المحاكمة كان المتهمون يرفعون الشعارات المناوئة للقضاء وقد وصفوا القاضي رئيس الجلسة ب"الفاشيست" Fasciste .
2. Osire Glacier, Femmes politiques au Maroc d’hier a aujourd’hui, la résistance et le pouvoir au féminin, Tarik Edition, Essais, p 163 .
3. تم إيداع جميع أعضاء المجموعة بالسجن المركزي بالقنيطرة ما عدا أبراهام السرفاتي ومجموعة النساء بالسجن المدني بالدارالبيضاء.
4. صدر لها بعد وفاتها ديوان شعر بالفرنسية، ويحتوي القصائد الشعرية التي نظمتها خلال فترة السجن المحلي بالبيضاء (1976ـ 1977)، ومقال اجتماعي حول الدعارة في المغرب (لم يكتمل)، ورسائل وجهتها لبعض أفراد أسرتها.
5. عبد اللطيف اللعبي، "مختارات من ديوان سعيدة المنبهي"، مجلة البديل، العدد الثاني، 1982، ص 25 -36.
6. عبد اللطيف اللعبي، أزهرت شجرة الحديد، منشورات البديل، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1982، ص 96.
7. عبد اللطيف اللعبي، "مختارات من ديوان سعيدة المنبهي"، مرجع سابق، ص 25 -36.
8. إدريس ولد القابلة، سعيدة المنبهي. امرأة أحبت الضوء، موقع هسبريس، تاريخ النشر: الجمعة 26 غشت 2011، يمكن الاطلاع على المقال على الرابط:
.59464/https://www.hespress.com/
9. بوسلهام الكط، مقالات في أدب رسائل السجن في الادب المغربي المعاصر، المطبعة السريعة، القنيطرة، الطبعة الأولى، 2006، ص 264.
10. Saida Menebhi.Poemes – Ecrits- Lettres de prison Rabat.Editions Feed-Back.2000. p 29.
11.ibid , p. 32.12 . Ibid.p. 31.
13. هند عروب، قراءة في الادب الثوري لسعيدة المنبهي، مداخلة ساهمت بها الباحثة ورئيسة فرع الجمعية المغربية لحقوق الانسان بالرباط بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاة المناضلة سعيدة المنبهي، ويمكن الاطلاع على المداخلة على الرابط:
https://amdh-section-de-rabat1.skyrock.com
14. بوسلهام الكط، نفس المرجع، ص 260.