خيط الحرير.. المرأة في ادب لطفية الدليمي - قراءة في رواية عالم النساء الوحيدات-



نصرة احميد جدوع الزبيدي
2023 / 5 / 8

لطفية الدليمي الاسم اللامع في خارطة السرد العراقي المعاصر, الغنية عن التعريف, والكاتبة التي جابت اقاليم الكتابة , المترجمة التي اتاحت لها لغتها الانكليزية دخول عالم الكتب من بابه الواسع, كما مكنتها دراستها للغة العربية في تحقيق التناغم المناسب بين ما تقرأ وتترجم من نصوص, من هنا امتزجت في شخصيتها روح القارئ بالأديب فكان النتاج متميزا استحقت بسببه ان تملأ مكانها المتميز .
تعقب لطفية الدليمي على مقولة الكاتبة(جويس كارول اوتس) التي ترى أن (الكتابة لعنة)بالقول: انها لعنة نبيلة ونعمة خلاص, وبرج مراقبة يمتعنا بالكشف عما يؤرقنا من اسئلة الوجود وحيرة النفس وهي تعبر مسالك هذا العالم المضطرب.
نحسب جازمين ان لطفية الدليمي انفردت بين جميع الروائيات العراقيات بالقدرة على السير بين اشواك المغريات التي وقعت فيها روائيات معاصرات لها, فلم تستسلم لضوء غواية السرد المكشوف, وظلت نساء نصوصها عصيات على الانزلاق في وحل المكشوف, كأنهن صورة عنها في بعض ملامحها العراقية المحافظة, ليس هذا فحسب بل ان القارئ لنصوصها يجد صورة المجتمع العراقي بكل تحولاته ومراحل تاريخه يتداخل في ثنايا السرد , والاهم انه يجد صورة المرأة العراقية في كل زمان ومحنة عروسا للحكايات وايقونة للصبر وفرسا تصهل بأوجاعها في وجه التحديات, كيف لا وهي ناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة العراقية, التقيتها شخصيا حين نلت شرف التكريم بجائزة مركز شبعاد للقصة النسوية القصيرة صيف عام 2005, ولمحت في ابتسامتها وتفاصيل علاقتها بمن يحيط بها انموذج المرأة العراقية التي نتشرف بها.
لها قبل تأسيس مركز شبعاد لدراسات المرأة في 2004 حضور في منتدى المرأة الثقافي الذي تأسس في بغداد عام 1992, الى جانب كونها عضوا مؤسسا في المنبر الثقافي العراقي والجمعية العراقية لدعم الثقافة, حيث حملت هموم الثقافة العراقية الى جانب وقوفها للدفاع عن المرأة وقضاياها.
وما دمنا في سياق الحديث عن المرأة في اعمالها من خلال روايتها القصيرة (عالم النساء الوحيدات) التي تقع ضمن مجموعتها القصصية التي تحمل الاسم نفسه والصادرة عام 1986, فان كتابتها قد حملت الهم النسوي في اعمال كثيرة ,منها على سبيل المثال(برتقال سمية, سيدات زحل, حديقة حياة , مسرات النساء وغيرها) , تعالج كتاباتها ازمة الكاتب- الكاتبة تحت سطور واحدة من اعمالها المتميزة بعنوان(كتاب المناجيات, التوق الى مملكة الروائيين العظام) , تقول: "نحن نغني رغم انه لا وجود لمن يسمعنا ولا احد يدفع اجورنا, نكتب لأنفسنا, ولا نعمل للأخرين , نحن اسياد بساتين العالم, البستان ملكنا, انا التي نشأت في البساتين الشاسعة, وعند ضفاف الانهار العظيمة, وبين اذرع النخيل وشجر التين, ووهج البرتقال واشذاء الورد وعبق الريش المبلول للبلابل والحمائم"
يقول احد النقاد في معرض حديثه عن مجموعتها(ممر الى احزان الرجال): "ان علاقة المرأة بالرجل وعقدهما الاجتماعية ومشاكلهما السياسية هي المدخل الطبيعي المفضل لدى الكاتبة في محاولتها تنظير الحياة الانسانية" ونضيف ان هذا يتضح في اكثر اعمالها لاسيما (حديقة حياة) التي تتناول قصة امرأة فقد زوجها في الحرب وواجهت تحديات العيش في فترة الحصار الاقتصادي الجائر, ربت بنتها وتقدمت بعملها البيتي وتحلق حولها الاصدقاء والجيران داعمين مساندين, لتأتي المفارقة المؤلمة في آخر الرواية بعثورها على الزوج في احدى الصور الفوتوغرافية التي عرضت في معرض اقيم في حديقة بيتها, والذي يسجل ملامح الحياة اليومية البغدادية تحت وطأة الحصار, وكيف يعيش الناس بأقل الامكانيات متنازلين عن الكثير من حقوقهم الانسانية, ومكتفين بالتفرج على الاخر الذي يتمرغ في النعيم, ولا يجرؤ على الاعتراض, كما يتضح هذا الامر في روايتها (خسوف برهان الكتبي) الذي جسد صورة المرأة التي فقدت زوجها في زحام المجتمع الذي يقبع تحت ارهاصات الحصار والحروب, الى جانب قصتها( عشاء لاثنين )التي تقع ضمن مجموعتها التي نحن بصدد دراسة احد نماذجها واعمال اخرى, تقول في احدى المقابلات الصحافية ردا على سؤال حول النماذج النسوية في روايتها(عالم النساء الوحيدات) :" اذا شئنا الحديث عن المرأة العراقية والعربية اليوم فلابد من القول ان نكوصا خطيرا اصاب جهود المرأة واصابها في مقتل مميت اطاح بالكثير من النجاحات النسبية التي حققتها المرأة خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي".
وكثيرا ما كانت اعمالها تحمل مفاتيح للتعايش مع الواقع المرير, وعلى الرغم من انها لا تقدم حلولا إلا انها لا تدعوا للهرب منه , تسهم المرأة في بلورتها بشكل واضح, ففي روايتها (سيدات زحل) مثلا قدمت علاجا لآلام التغرب والهجرة والوحشة من خلال الحكاءة الساردة (حياة البابلي) التي قامت برواية احداث كراسات الشخصيات واتحت لشخصيات أخرى ان تروي كراساتها بلغة سرد مغايرة وتقول على لسانها: (نحن نروي الحكايات لنستطيع تحمل الزمان),وتعترف ان هذه الرواية لا تشبه اي عمل آخر انتجته كونها شكلت مصدا للألم على امتداد فصولها, الى جانب امتلاكها رؤية انثوية خالصة للعالم, كما تعترف بأن بعضا من رواياتها تحمل شيئا من ملامح سيرتها الذاتية حتى في النصوص ذات الطابع الميتافيزيقي , وربما كان في روايتها القصيرة(عالم النساء الوحيدات) الاجابات التي يبحث عنها القارئ حول التناظر الذي رافق صورتها كاتبة وانسانة جابت اقاليم الكتابة وسافرت في عالم السرد مبدعة ومثقفة تعبر عن نفسها بلا ضجيج.



عالم النساء الوحيدات ,الوحدة الاختيارية ووجع الحرمان الداخلي
القصة التي عنونت فيها الكاتبة مجموعتها, ولم يكن ذلك اعتباطيا او عشوائيا ولا لكونها اول قصة في المجموعة, بل لأنها جسدت الخط العام للمجموعة التي ترتبط قصصها في التعبير عن اوجاع الانثى/الكاتبة التي حضرت بصفة (الانا) المهيمنة بقوة على مجمل النصوص, تقول كاتيا الطويل:( إنّ مأساة نساء لطفية الدليمي ليست نابعة منهنّ، بل من المجتمع المحيط بهنّ، من الرجال الذين يلصقون بالمرأة دوراً واحداً، ويرفضون قدرتها على القيام بغيره. إنّ وحدة نساء لطفية الدليمي هي وحدة مختارة بدلاً من زواجٍ مدبّر، ووجودٍ ناقصٍ إلى جانب رجل يصبح هو الوسيط بين المرأة والحياة. لكنّ هذا الخيار قاسٍ، خيار رفض الزواج ليس دوماً الخيار السهل، فعلى رغم بهاء المقاومة والتمسّك بالاستقلاليّة الفكريّة ورفض المساومة، تمرّ السنوات على وجه المرأة وعمرها وتتأكّلها وترميها في دوّامة ذكريات وحسرات ورغبات مقموعة لم تعد قادرة على التحرّر من عزلتها للإمساك بها. إنّ قرار الوحدة، قرار يجرف في طريقه كلّ شيء ويترك المرأة مجرّدة من القدرة على الإمساك بما تتوق إليه. «عرفتني النساء وهنّ صبايا ونساء متزوّجات وأمّهات، تغيّرت مصائرهنّ وأسماؤهنّ (أصبحت الولود منهنّ تكنّى باسم بكرها) وبقيتُ أنا أقاوم زحف الزمان وإعجاب الرجال المحيطين بي وتفاهاتهم، كنت أرى في معظمهم نذالة عمّي، وجبن زميلي الذي هجرني... صرتُ امرأة لا عمر لها ولكن كان لي من العمر كل سنوات المرارة والخصب والشقاء والصبوات...»
تدور احداثها حول امرأة تعثر على مجموعة مذكرات لامرأة مجهولة بعنوان (مذكرات الانسة م) تجدها بطريقة مقصودة وغير مفسرة في احدى حدائق معرض الكتاب الذي زارته, تتداخل الفة خاصة بالذكريات مع قصة المرأة نفسها, مع وجود تناظر واضح يتمثل بالوحدة التي تعيشها كلتا المرأتين, القارئة مع حبيبها الذي لا يفهم سبب تأجيلها للزواج رغم عدم وجود اي مانع وهي تخفي عنه اصابتها بورم في الدماغ وتشفق عليه من وضعها الصحي, والثانية صاحبة المذكرات التي تعيش رفقة والدها المسن الذي يلومها لرفضها كل من يتقدم لطلب يدها لا لأسباب مقنعة عنده بل لكونها لا ترغب بالزواج ببساطة, تهيمن (مذكرات الانسة م )على النص وتصبح الحدث الاساس رغم اختفاء الحدود الفاصلة بين القصتين احيانا,والقصتان تطرحان فكرة الوحدة الاختيارية التي تجد فيها المرأة طريقة مناسبة لإكمال حياتها من خلال المبررات التي تتلاشى في اخر النص,يفرض التوازي في الاحداث على القاريء نوعا من المقارنة الاجبارية التي يعقدها بين المرأتين, وحضور الرجل الايجابي نسبيا(عدا معاناة الانسة م من محاولات تحرش عمها بها حين اضطرت للسكن في بيت جدها عندما سافر اهلها للخارج) (اعتدنا على عانس عَنَّسَهَا أَهْلُهَا حَبَسُوهَا عَنِ الزواج حَتَّى جَازَتْ سِنَّ الشباب، لكن الراوية وبطلتها ميم: منى عانستان عَنَّسَتا نفسيهما بترددهما. فؤاد العاشق الشجاع أعمى وعائدة أرملة بسبب الحرب، حبيبها الجبان، عمُّها الفاسد، شخصيات سلبية في وطنٍ منتهك ومستباح)
فالرجل والاب في القصتين يدفعان باتجاه كسر طوق وحدة المرأة ,كلاهما يحلم بالأسرة السعيدة والامان الذي تجسده, لاسيما وان المرأتين تتقدمان في العمر وتحاولان مليء فراغ الوحدة بالقراءة والنشاط الثقافي وتأمل العالم والاشياء فيه وهي تتغير وتكبر ويكبر معها الحاجز النفسي الذي يمنع المرأة من الاشتراك في اداء دورها المتمثل بديمومة الحياة, في القصة تتحول القراءة الى بديل منشود لقتل الوحدة, وبالتوازي بين القصتين تنتهي هذه الوحدة بطريقة غير متوقعة , حيث تلتقي الانسة م مع شريكها عبر الهاتف ثم تلتقي به مباشرة وتكتشف انه جارها المعاق الذي افقدته الحرب بصره, ورغم الفارق العمري بينهما الا انهما يمضيان في الحب الذي دمر قرارها الاضطراري بقبول الشخص الذي تقدم لخطبتها, وفي الجانب الآخر تنتهي القصة الأخرى بزواج المرأة من حبيبها واستسلامها لقدر المرض الذي تخفيه عنه بلا تفكير بالعواقب.
وسبب هذا التوازي هو ان مذكرات الانسة م (لن تكتمل دون ان يرويها احد, او تحويل المكتوب الى مقروء والسري المكبوت الى صرخة علنية" لست نادمة لأنني احببته خلال ايام قليلة حب سنوات طويلة.
وهذا التوازي فرض توازيا زمنيا ومكانيا رغم اختلاف القصتين , بحيث لا نشعر بالزمن الذي تدور فيه الاحداث التي تدور على ما يبدو في زمن واحد هو الحرب التي تظهر آثارها بوضوح في القصة الخاصة بالآنسة م.
تنتهي القصتان في آن واحد وتنتهي وحدة المراة وتفتح النهايات على افق ايجابي, قد تكون القصة مناسبة جدا لتكون عنوانا للمجموعة ..