شكز



إبراهيم رمزي
2023 / 6 / 16

شكز*‏

لم يكن زبونا مخلصا لحافلات النقل الحضري إلا لماما، وعند الضرورة القصوى .. فما دام الجو صحوا، فمعتمَدُه السيْرُ على ‏الأقدام ـ في المسافات المتوسطة ـ لتوفير دُريْهِمات التنقل، حتى ينفقها في وجوه أخرى .. ويجْبِره البُعدُ على ارتفاق الحافلة ‏‏(الأوتوبيس)، فلها عيوبها المتمثلة أساسا في النشالين، ولها "مزاياها" التي تسمح بالاحتكاك والتحرش "الصامت"، الذي قد ينتهي ‏أحيانا بتأنيب وفضْح على رؤوس الأَشهاد من أنثى جريئة "وماجنة شرّيرة"، ونادرا ما يؤول الأمر إلى بضع صفعات ولعنات ‏يشارك فيها حتى متحرشون آخرون، يغتنمون الفرصة لّلحاق بركْب الفضيلة والالتحاف بالاستقامة..‏

هل حدث احتكاك نهديها بيده المتمسّكة بعمود بالحافلة صدفة، أم "جاء" جوابا على مكره الذي يقصده من وضْع يده في مستوىً ‏مُوازٍ لعُلوّ النهود؟ أبعد يده هنيهة .. ثم أعادها إلى حيث كانت .. فتكرر التلامس .. وعندها "انهزم وأسلم" يده لعسل النعومة ‏ولشهوة أنثوية تقضم أصابعه، استسلمت حواسه لخُمار صعقات شبقية كاسحة .. تُسْكِرها وتستعبدها، .. فتستكين في خضوع ‏لجبروت ذاك المفلَّك النافر، المكتنز اللدْن ..‏

كانت واقفة أمامه، معصِرٌ يافعة، في مثل سنّه. عبق شعرها يملأ خياشيمه ويستلِبه. تعمَّدَ بحركة "بريئة" من يده المحررة ـ لَمْسَ ‏‏"كنْزَها" الجذّاب المغري بنعومته ورجرجته. تقدم بضع سنتيمترات حتى التصق بكفلها الوثير .. وسرعان ما استجاب "اللعين" .. ‏
لم تغير مكانها .. لم تزْوَرّ أو تبتعد .. يبدو أنها اختارت أن تتواطأ مع "الوضع" الناجم عن اهتزاز أجسام الرّكاب الواقفين داخل ‏الحافلة، وتساير تمايلهم في كل الاتجاهات، تبَعا للسرعة والفرملة، والتوقف والانطلاق .. وملئهم للفراغات التي يتركها المغادرون ‏‏.. يغطّي على ذلك غبش المساء، وضعف الإنارة، وازدحام الرائحين لبيوتهم، وأغلبهم يودون لو كانوا متلفِّعين في ملابس غليظة ‏لتقِيَهم من طلائع هجوم برد المساء، ..‏
ازداد اشتعال "نار الانتشاءً" لما عاد فتلمّس بيده عجيزتها المتمرمرة ... ثم لم يتردد فضغط أكثر .. فدفعتْ أكثر .. وما لبث ـ إلا ‏قليلا ـ حتى أفرغ في تُبّانه .. تسللتْ يدُها إلى فخذه .. قرصتْه قرصة خفيفة، ثم شقتْ طريقَها نحو باب النزول .. بقي متسمّرا في ‏مكانه .. فما زالت المسافة طويلة نحو مقصِده .. ‏

عندما لفظه دفءُ الحافلة، صفعهُ البرْد، وسرَى "الصقيع" إلى تُبّانه، الغارق في "أطلال" الانتشاء الذي أمتعَتْه به تلك المجهولة ‏ذات الردف الوثير. فاستعان بالمنديل ـ الذي يتمخط فيه ـ ووضَعه حيثُ يَحُول بينه وبين البلل .. ثم أخذ يسترجع بنشوة وفحولة ‏وشوق ... كل ومضات النسخة الفريدة العَجْلى لتلك الدقائق القصيرة المتلاحقة الممتعة التي تسرّبت من جيب الزمن.‏
كم نحن عاجزون عن استبقاء ما يمتعنا من أحاسيس جياشة أو إدامتها .. عمرها كعمْر عود كبريت حين يشتعل .. تغمر النفس لذة ‏قصيرة كالشعاع اللامع .. ثم تنسلُّ في خُفوت .. مخلِّفة وراءها بلًتاً وحيرة وحسرة ..‏

حتى الابتسامة الحائرة ـ التي ترصِّع محياه بين الحين والآخر ـ عاجزة عن تفسير "غرقه" في دفقةُ عاطفية حالمة، .. ترسمُها ‏لوحةً غامضةً ـ في كل جسده ـ فرشاةُ حنانٍ ورقّة .. امتنانا لمن أشعلتْ نيران خياله وأخصبت تهيُّؤاته.‏
ويجول بدواخله فيض من الكلام الذي يموت قبل النطق به .. فيرتد إلى منابعه، ويبقى حبيسا في غياهب أعماقه .. ولا يطفو ‏على السطح إلا فقاعات الاستفهامات الكثيرة ـ التي لا حدود لها ـ عن مشاعر "شريكته" وقرصتها "الساحرة، المبهمة" التي ـ ربّما ‏ـ سجّلت بها "احتجاجا صامتا" أو إيذانا بـ"وداع أبدي لصدْفةٍ عابرة لن يُكرِّراها"!!! ... وربما كانت التوقيع الجريء على "شكْرٍ ‏متبادَلٍ مكتوم".‏

‏19/02/2022‏

‏* الشَّكَّاز: المُجامِع من وراء الثوب. أو الذي إذا حَدَّثَ المرأةَ، أَنْزَلَ قَبْلَ أن يُخالِطَها، .. وبالهاءِ [= شكازة]: مَنْ إذا رَأى مَليحاً، ‏وقَفَ تُجاهَهُ، فَجَلَدَ عُمَيْرَة. (انظر: لسان العرب والقاموس المحيط)‏