الاجهاض، ازمة انسانية في الخفاء!



شيرين عبدالله
2023 / 7 / 2

تضطر سنويا الاف النساء الى اتخاذ قرارات غاية في الصعوبة بشان حياتهن الإنجابية، ولعل من اصعبها هو اللجوء الى الاجهاض اي التخلص المتعمد من الحمل غير المرغوب فيه. الاجهاض المتعمد من الظواهر التي تفضح تناقض العلاقات الاجتماعية الاستغلالية السائدة مع الوجود الانساني وهو نوع من انواع العنف المجتمعي ضد المراة وضد الجنين غير المولود وتعبير عن قمة يأس الانسان امام الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة والتي تجعل الاختيار البديل لايُحتمل.
هناك دوافع عديدة ومعقدة للاجهاض منها اقتصادية او اجتماعية كالفقر والعوز والتوقيت غير المناسب وضياع فرص العمل والتعليم والتعارض مع الوظائف الاجتماعية الأخرى، او غياب دعم الشريك او العائلة، او عمر الفتاة، بالاضافة الى حالات الحمل غير المرغوب فيها والناتج عن الاعتداء الجنسي والاجهاض بسبب جنس الجنين الانثى وغيرها.. وغالبا ما يكون هناك اكثر من سبب واحد، ولكن الهدف الرئيسي هو اجتياز ازمة اجتماعية شديدة ناتجة عن قيود اجتماعية اوثقافية او قانونية مناهضة للمراة ليس للفتاة القدرة على التحكم بها الا باخضاع جسدها وجنينها لهذه القسوة. ان لم تفعل ذلك، فعليها تحمل العواقب التي غالبا ما تكون وخيمة واحيانا تراجيدية. اغلب الاطفال المودَّعين في دور الرعاية هم ابناء وبنات لامهات رفضن او تعذر عليهن الاجهاض ولكن يسجَلون كـ "ايتام" تجنبآ للوصمة و رد الفعل المجتمعي ضدهم.

دور الطب الحديث:
في العصور الماضية وقبل اكتشاف الطرق الجراحية الحديثة والمسكنات وادوية التخدير والمضادات الحيوية، كان الاجهاض يجري بطرق بدائية وشعبية على أيدي "معالِجات" كنّ يقمن بتدريب نساء أخريات، وكانت أعداد كبيرة من النساء تفقد الحياة أو تعاني مضاعفات صحية عديدة بسببه.
فتح تطور العلم والتكنولوجيا وأدخال الطرق العلاجية الحديثة في معالجة الأمراض، المجال أمام تحسين الصحة الأنجابية للمراة ومن ضمنها الحد من مضاعفات الحمل والأنجاب والاِجهاض وأنخفاض نسب وفيات الأمهات وتمارضهن. وأعطت ايجاد وسائل منع الحمل الامل للملايين من النساء حول العالم في تجنب حالات الحمل غير المقصود. الاِجهاض بالطرق الآمنة والعلمية، يُعد من التدخلات الطبية الناجحة جداً في تفادي وفيات الأمهات و تقليل مضاعفات الحمل والانجاب. ولكن بالرغم من الفاعلية القصوى لكل هذه الوسائل العلاجية والوقائية فان صعوبة الحصول عليها أو عدم توفرها أو وجود القيود القانونية أو الأجتماعية عليها بالنسبة لملايين النساء حول العالم يعني عدم تمتعهن بهذه الأنجازات البشرية العظيمة.
تشير منظمة أطباء بلا حدود، وهي منظمة طبية انسانية مستقلة، الى أن العالم حقق تقدماً هاماً فيما يخص أربعة من الأسباب الخمسة الرئيسية التي تسبب وفيات الأمهات (والتي تشمل النزف الشديد والالتهاب الشديد وارتفاع ضغط الدم وعسر ‏المخاض)، إلا أن الإجهاض غير الآمن - رغم أنه السبب الوحيد الذي يمكن تجنبه بالكامل تقريباً - بقي منسياً إلى حد كبير.‏ وتقول المنظمة انه لا يزال الإجهاض غير الآمن مسؤولاً عن ما لا يقل عن وفاة واحدة من أصل كل 12 وفاة بين الأمهات حول العالم. ولم ‏يتحقق سوى تقدم ضئيل في الضرر الذي ينجم عن الإجهاض غير الآمن مقارنةً بالانخفاض الذي تحقق في باقي الأسباب ‏المباشرة الأخرى لوفيات الأمهات منذ عام 1990.

قرار حياة او موت بالنسبة للمراة:
حين تواجه المراة اتخاذ قرار كبير كالاجهاض فهي غالباً ما تمر بالتجربة في ضروف سرية حفاضاً على (أو خوفا من) مشاعر ورد فعل المجتمع، وهي في عزلة تامة بدون سند اجتماعي وتمرّ بمزيج من مشاعر الخوف والقلق والشعور بالذنب وتأنيب الضمير.
الإجهاض غير الآمن سبب رئيسي للوفاة والمضاعفات الصحية للنساء في سن الإنجاب. هناك عدة عوامل تلعب دورا فيما إذا كان الإجهاض آمنًا أم لا، منها قانونيته او تقييّده، والمتطلبات الإدارية (مثل الاصرار على توقيع طبيبين على الاقل أو عدم اجازة القابلات او الممرضات بأجراءه) وتوافر الممارسين المدربين والعيادات والتمويل والثقافة المجتمعية ونظرتها للقضية.
لا تلجا النساء الى الأجهاض غير الآمن بسبب جهلهن بمخاطره او كاختيار عشوائي وبسيط، بل انهن يُخضعن اجسادهن لهذا العنف بسبب معاداة المجتمع والأعراف الاجتماعية الذكورية السائدة التي لا تطيق السماح لها باتخاذ قراراتها الحياتية، والتي تسمح وتبرر لانتهاك حقوقها في جسدها ومصيرها وحتى في مسؤليتها عن حياة انسان اخر هي غير آهلة لتحملها لاي سبب كان.
قليلة هي الدول التي يتوفر فيها الاجهاض بصورة علمية وآمنة على نطاق واسع. وان الحال في معظم البلدان العربية ودول الشرق الاوسط ودول اخرى عديدة يميل الى المنع والتحريم بدرجات متفاوتة او بقيود تعجيزية وُضعت بدوافع من تقاليد واعراف مجتمعية و ثقافات ذكورية معادية للمراة، بدلاً من منطلق حقوق المرأة واختياراتها هي كانسان وكائن مستقل.
تقدر منظمة الصحة العالمية نسب عمليات الإجهاض غير الآمنة التي تجرى سنوياً بنحو 25 مليون عملية، اي 45% تقريباً من حالات الإجهاض إجمالاً، منها نسبة 97% في البلدان النامية.
ولكن حتى الدول التي تسمح بالأجهاض في قوانينها فتفعل ذلك بشروط وضوابط، وتواجه النساء عوائق تحول دون حصولهن على الرعاية المأمونة وفي الوقت المناسب والمتاح جغرافيا وبكلفة مناسبة وبظروف غير تمييزية ضدها، لذا فان النساء يلجأن الى الاجهاض بطرق غير آمنة.

عوائق من قبل الشركات الراسمالية:
من المعلوم ان الرعاية الصحية في معظم انحاء العالم اليوم هي في ايدي شركات وكيانات عملاقة وشركات الاسهم وغيرها التي تدّعي أهدافا كالعدالة الاجتماعية والتمكين والأنصاف، بينما تتوقع ارباحاً كبيرة ايضاً. تشكل صحة المراة مصدرا مهماً لواردات هذه الشركات وهنا يتبين بوضوح الماهية الحقيقية لهذه الشركات وهي الربح لاغير. جاء في تقرير لشركة ديلويت وهي اكبر شركة خدمات مهنية في العالم، في مارس 2023 بعنوان "مستقبل الصحة أنثى: تأثير المرأة + الصحة على مجتمعنا" بان "المراة هي اقوى قوة استهلاكية في امريكا.." وان "النساء يشكلن 80% من الانفاق على الرعاية الصحية العائلية في الولايات المتحدة".
ولكن الاهداف المعلنة لهذه الشركات هي ادعائات باطلة وتتناقض مع دافعها الرئيسي والذي هو جني الارباح وارضاء المستثمرين فتحول تكاليف العلاج دون تمكن الملايين من النساء من الحصول على خدماتها.

القانون:
لم يكن هناك حظر قانوني على الاجهاض حتى اواخر القرن التاسع عشر. في عام 1803 اصدرت بريطانيا لاول مرة قوانين لتجريم الاجهاض، واصبحت هذه القوانين اكثر صرامة بانتهاء القرن. ثم تبعتها الولايات المتحدة حيث بدات الولايات واحدة بعد الاخرى بتجريم الاجهاض وبحلول عام 1880 كانت معظم حالات الاجهاض في الولايات المتحدة غير قانونية باستثناء تلك الضرورية لإنقاذ حياة المرأة.. تجادل الحركات النسوية بان اسباب تشريع هذه القوانين لم يكن لـ "حماية المراة" كما كان يُزعم، بل لتقييدها وقصر دورها التقليدي في الانجاب وجزءًا من رد الفعل ضد حركات حق الاقتراع (السفرج)، والأمومة الطوعية، وحقوق المرأة الأخرى التي كانت في تنامي انذاك. بالاضافة، الى انها كانت وسيلة بيد الاطباء (الرجال) لاحكام قبضتهم على المهنة حيث رأوا في عمل القابلات تهديدا لمهنتهم ومكانتهم الاجتماعية.
استمر تجريم الاجهاض في الولايات المتحدة حتى عام 1973 حين اثبتت المحكمة العليا الامريكية قانونا يقضي بحماية الدولة لحق المراة الحامل في اختيار الاجهاض دون قيود حكومية، في قضية (رو ضد وايد) الشهيرة. ولكن حق الاجهاض كالكثير من حقوق الانسان العالمية الاخرى هو دائما معرض للانتهاك، وان قانونيته ومدى توفره اجتماعيا تحت تهديد مستمر من قبل قوى تحط من الحقوق الاساسية للمراة. وهذا ما حصل بالضبط حين شهدت حقوق المراة الانجابية في الولايات المتحدة نكسة، حين ابطلت المحكمة العليا الامريكية قانون (رو ضد وايد) في 24 حزيران 2022، خمسون سنة بعد تشريعه.

ولكن تجريم الاجهاض لا يمنع ممارسته ولم ولن يلغي الحاجة اليه وان تجريمه لايؤدي الّا الى تعميق اللامساواة وتكون المراة وبالأخص المرأة من الفئات الفقيرة والمهمّشة هي الضحية الأكبر ويفسح المجال أمام شبكات الاستغلال والمتاجرة بصحة المراة للتمادي في جشعها. فالنساء الميسورات قد يجدن أطباء ذو المهارات اللازمة أو يسافرن الى أماكن يتوفر فيها الاجهاض بطرق آمنة، بينما تلجا الاغلبية الباقية الى أساليب خطيرة، قد تكون مميتة، مثل ادخال أبر الحياكة او علّاقات المعاطف في المهبل والرحم أو الغسل بمحاليل خطيرة أو تجرع أدوية ومواد كيمياوية قوية. أصبحت علّاقة المعاطف رمزآ لليأس الذي تمرّ به ملايين النساء اللواتي خاطرن بحياتهن لأنهاء الحمل. ومما يزيد من مخاطر العملية هو صعوبة الحصول على العلاج الطبي في حالة وجود مضاعفات اذ تتم هذه العمليات في أجواء سرية.

في النتيجة:
ينبغي ان يكون كل حمل مرغوبا فيه ومرحبا به، وأن يحصل برغبة وأرادة المرأة المستقلة والواعية في ظل نظام أجتماعي يحترم قراراتها وأختياراتها بضمن ذلك أختيار الانجاب من عدمه وتوقيت الحمل والأنجاب وحرّية أختيار الشريك. نظام يقف بجانبها ويكون مسندا لها اِن وجدت نفسها غير قادرة اقتصادياً او اجتماعياً على استقبال مولود غير مقصود ويضمن سلامتها وأحترامها الأجتماعي وسلامة وأحترام مولودها ويوفّر لها ولطفلها كلّ المعلومات والتسهيلات المادية والمعنوية وأن تجاهل 25 مليون حالة أجهاض غير آمنة، ليس خطوة في الطريق الصحيح.
بما أنه لاتوجد وسيلة منع حمل 100% فاعلة، حيث أن أفضل الطرق المستخدمة حالياَ تسجل فعالية 99% في حالة الأستخدام المثالي، بما يعني بأنه في أحسن الأحوال تفشل وسائل منع الحمل في الحلول دون وقوع الحمل بنسبة 1%، فلا يمكننا القول بان الحمل غير المقصود يمكن تجنبه كلياً، بالاضافة، الأنتهاك السائد في حق المرأة بالأختيار في كل البلدان والمجتمعات والأديان تؤدي الى حالات حمل غير مرغوب فيها. لذا ستظل الحاجة الى الاجهاض موجودة وعلينا السعي لتوفير كل وسائل منع الحمل والتشخيص المبكر للحمل والأجهاض الآمن ورعاية الأمومة بالأضافة الى منظومة المعلومات العامة حول الصحة الأنجابية والجنسية وحقوق المراة كأنسان وازالة القيود البيروقراطية ضمن منظومة الخدمات الصحية العامة المجانية لكل أمراة أو فتاة تحتاجه على اوسع نطاق وبدون قيود.