الجريمة والنقاب



نضال نعيسة
2006 / 11 / 5

انشغل العرب والمسلمون، وعبر تاريخهم المديد، بمسائل التكفير و"التمريق"، وحف الشوارب، وقضايا الحجاب، والنقاب، واللحية، والحيض، والنفاس، وشعر العانة، ونقض الوضوء، وتقصير الأثواب، وتركوا القضايا الفكرية، والفلسفية الكبرى، والمسائل الهامة كالحرية، والعلمانية، والديمقراطية، وتقديس المبادرات الفردية المبدعة، والعلوم الحديثة، والفيزياء النووية لـ"الكفار" و"الأغيار"، الذين سيطروا على الأجواء، والسموات السبع الطباق، وصاروا يتجسسون على كل شيء، حتى على غرف نوم الزعماء، ومخادع، وقلاع النساء المحصنة، والتي أجهد المسلمون أنفسهم، وعبثاً، بإخفائهن، عن عيون الآخرين. وبالرغم من كل هذه المعطيات المريرة الفاقعة، تبرز، الآن، قضية النقاب، كواحدة من أكبر "تحديات" العصر المصيرية، التي يواجهها العرب والمسلمون، وأم المعارك الكبرى التي نذروا أنفسهم لها في الغرب.

أضحى النقاب، تلك العادة الاجتماعية الصرفة، وبكل ما فيها من عملية ترميز مركزة لطبيعة نظم التعتيم الفكرية السائدة، والتي لا علاقة لها بأي شكل من أشكال الورع، والتقوى، والإيمان، ونقضها كثير من الفقهاء و"العلماء"، رمزاً للتجاذب الحاصل ما بين قوى الحداثة، وقوى التيار السلفي الأصولي الطامح للعودة لحقب زمنية خلت، وصارت في ذمة الزمان، ولا يمكن إعادة انتاجها بأية حال. كما أن إثارة تلك المسائل بين الفينة، والأخرى، تبدو في أحد وجوهها، عرضاً للعضلات، وتحدياً لتطور المجتمعات، يشهره لوبي التأسلم السياسي المتحالف، أبداً، مع أنظمة الطغيان. ولنعترف، بادئ ذي بدء، أن النقاب، هو أحد أهم تداعيات، وتجليات ما يسمى بـ"الحقبة السعودية"، التي أدت إلى انهيار قيمي، وسلوكي كارثي، وشامل في هذه المنطقة، التي يطلق عليها، تجاوزاً، اسم الوطن العربي. وتزامن انتشار هذه الظاهرة، مع ازدهار تلك الحقبة بفعل عوائد النفط الضخمة، وانتشار الفكر الوهابي المتزمت في العديد المجتمعات العربية، والذي كان مجهولاً، ولم يكن موجوداً البتة، خارج أراضي مملكة آل سعود، قبيل ستينات القرن الماضي، وخسرت هذه المجتمعات، بذلك، جلّ رصيدها التنويري الآفل، والذي جمعته، بالكاد، من عهود ما بعد الاستقلال عن دولة الخلافة العثمانية المتخلفة البائدة.

والنقاب واحد من أبرز سمات المجتمعات الذكورية، التي يسيطر فيها الفحل الذكر، على كل مقدرات الحياة، بما فيها المرأة، ويمنع عنها الكثير من حقوقها، ويحرمها من مزاولة عديد من النشاطات الإنسانية، والاجتماعية المختلفة، ويجيّره بما يتوافق مع مصالحه الغريزية،الشهوانية، والحيوانية الصرفة.

وأضحى النقاب، هذه العادة الاجتماعية البحتة، والموروثة، نوعاً من العقاب الجماعي للمرأة في كثير من المجتمعات المغلقة، حيث وضعت المرأة بموجبه، في إطار لا تستطيع، ولا يسمح لها بالخروج منه. وإن "حبس"، و"زرب" المرأة، طول العمر، في ذاك الكيس الأسود غير محدد الملامح، وبفعل ضغط من قوى سلفية، وماضوية، بعينها، يفقد المرأة كثيراً من خواصها الأنثوية الإنسانية البسيطة، ويجعل منها، كائناً، بلا هوية خاصة، وبدون أية ملامح مميزة، ولا سمات معروفة، تميزها عن باقي النساء. ويعكس هذا، وبحدة، عدم إيلاء الفرد أية أهمية خاصة، وسيادة ثقافة القطيع، و"الجماعة"، في هذه المجتمعات.


وتخرج الفتاة، أو المرأة، عموماً، للحياة صباحاً، بوجه مشرق باسم يعانق، الأمل وتتبادل نظرات الود، والتعارف، والصداقة مع الآخرين، فيما تخرج المرأة المنقبة بذاك الزي الأسود الذي لا يؤسس لأي نوع من الود، والتواصل، والتعارف، والعلاقات الإنسانية الصافية بين الناس، ويجعلها مع الآخرين في حالة من التصادم، والتنافر الدائم، والشك المتبادل، ويؤسس لحالة من الحرب الدائمة والاستعداء المتبادل مع الآخرين. كما أنه يثير في النفس الخوف، والتوجس، وعدم الارتياح من كل ما يقبع خلفه من كائن شبح مجهول الهوية، والملامح، والسمات. هذا، وبغض النظر، دائماً، عن النواحي الأمنية، وغير القانونية الكامنة خلف ارتداء النقاب. ولن أنسى ما رواه لي صديق، حين نزل في إحدى مطارات التصحر الطبيعي، والقحط الفكري، والجمود العقلي، والتهافت الإنساني العام، كيف "زعقت" ابنته الصغيرة، "زعقة" الموت الأخيرة، وبصوت لافت للأنظار، وذهبت في نوبة طويلة من الفزع والبكاء، عند أول مقابلة لها، لمنقبة في ذاك المطار، وكيف أنه احتاج لجهد جهيد، وزمن مديد للتخفيف من روعها.

ويجسد النقاب، وبقوة، ذاك المفهوم الظلامي العام، الذي يعتبر المرأة عورة كاملة، ومفسدة للصلاة. ولذا لا يجوز أن يظهر منها شيء على الإطلاق. ويكرّس أحقية الرجل بامتلاك مصيرها، وتوجيهه بما لا يفك أسر النساء أبداً، من قبضة الرجال. فالرياضة، والرقص، والجري، والمشي، والموسيقى، والطعام، والشراب كلها نشاطات إنسانية أساسية، تحرم منها المرأة المنقبة، ولا تستطيع ممارستها بحال من الأحوال.

ويجادل السلفيون المؤيدون لهذه الظاهرة، بأن النقاب، يمنع الفجور والرذيلة، والاختلاط بين الجنسين، بكل ما يثير ذلك من نوازع شيطانية. والحق أن هذا الزي، وهذا النمط من التفكير البدائي، لم يفلح سوى في تشويه نفسية هؤلاء النسوة، والقضاء عليهن كلياً، وإخراجهن كلياً من دائرة التنافس، ومعادلة الحياة، وزيادة المثلية الجنسية، في هذه المجتمعات، ورفع نسب العنوسة والطلاق، بكل ما يترتب على ذلك من مشاكل اجتماعية مستعصية. ولم نر امرأة منقبة استطاعت أن تفلح في أي مجال، وتتبوأ مكانة عالية بين الناس، وتخرج نفسها من ذاك "الشوال" الذي وضعها فيه الرجال. وهنا، بداهة، والحال عما هو عليه، سيبقى الذكر كائنا غريباً، وعصياً على الفهم، بالنسبة للنساء، وكذا هو حال المرأة بالنسبة للرجال، حيث تبدو المرأة ككائن خرافي، وحلم أبدي، لا يمكن التواصل معه، بشكل طبيعي بعيداً عن "المطاوعة"، والعسس، والمخبرين، وهيئة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وحين تتم الزيجات الاعتباطية، والسريعة، المعروفة، تبدو منقوصة من الكثير من مقومات التفاهم، وعوامل النجاح، وتزدحم محاكم الشرعية بقضايا التفريق التي تنهك قوة المجتمعات.

والجانب الآخر في النقاب، يعكس كونه وسيلة لفصم عرى التواصل بين الناس في المجتمعات، ويعمق من عملية الفرز الاجتماعي بين الجنسين، الذين يشكلان قطبي المجتمع السليم، والسوي، ويعطل الحواس الإنسانية العامة لدى المرأة، كالنظر، والشم، واللمس، والتفاعل العام مع الحياة. غير أن أحد أهم إيجابيات النقاب، هو كونه وسيلة أيضاً، لإخفاء البشاعة، والقبح، والدمامة التي تتمتع به بعض النساء، ومن هنا يكمن، أحياناً، حرص بعضهن على التمسك به ، والترويج له. وإذا كانت الأحكام القضائية المؤبدة، تنتهي بمرور خمسة وعشرين عاماً، فإن "حكم" ارتداء النقاب، والبقاء في سجنه، لا ينتهي إلا بالممات. ويصبح التوصيف الحقيقي عند ذاك لواقع المنقبات، من قبر الحياة، إلى قبر الممات.

و أول ما يستذكر المرء، لدى رؤية النقاب هو منظر المعتقل، ولأي سبب كان، والعصابات حول فمه، وعينيه، وكل مكان. فأية جريمة ارتكبتها المرأة حتى يتم "اعتقالها" بذاك اللباس، لتبقى أسيرة ذاك الإطار النمطي القاتل لا تبرجه طول الحياة؟ وأية قوى متوحشة لا ترحم تسهر على تطبيق هذا العقاب؟ وأي عقاب يمكن أن ينزل بها أشد هولاً من هذا الزي الذي أفقدها كل مظاهر إنسانيتها، وأنوثتها، ومغزى وجودها الدنيوي.

ويبرز السؤال الأدهى، هل هو حقاً نقاب، أم عقاب؟