عن الجندر في العتبات المقدسة ومنظمات المجتمع المدني



منال حميد غانم
2023 / 8 / 7

لما يقارب الشهرين تقريباً تم أغراق موقع انستغرام بشكل اساسي بالإضافة الى الفيسبوك بمقاطع فيدوية ناقدة للحركة الكويرية في اوروبا وتحديدا الدول الاسكندنافية والولايات المتحدة بشكل هستيري ,ومحاولة أبراز المسلمين فيها كضحايا غير قادرين على اتخاذ قرار حيال توجه يحاول ان يلغي ثنائية الجنس ( ذكر/انثى) وما يتبعها من علاقات هرمية وطبقية تعزز القوة والمركزية لدى جانب وتنفيها عن الجانب الاخر . ظهر فيها المسلمون كمن يمتلكون نقاط مشتركة قوية مع التوجه اليميني المتطرف والصاعد في تلك المناطق مع ان الحقيقة عكس ذلك تماما فاليمين المتطرف من اشد الباغضين لوجود المهاجرين واللاجئين وبشكل عام كل اصحاب البشرة غير البيضاء بينهم, واعتقدت حينها بأن الغرض من اغراق المواقع بتلك المقاطع هو من اجل اخراج المسلمين الوافدين من دول لا تشبه ثقافاتهم وحضارتهم فبوجودهم يحاولون نزع ما تعبت تلك الشعوب بالوصول أليه من مستوى متقدم بالحريات وتقبل الاخر المختلف او تشويه الصورة الجميلة عن الحياة في أوروبا لأنهاء الرغبة باللجوء والهجرة الاخذة بالتصاعد والتي تشكل ضغطاً من كل النواحي على تلك الدول , من خلال تصوير العيش على انه خانق لا يطاق وان اطفال المسلمين عرضة لسحبهم من عوائلهم واجراء تغييرات هرمونية قسرية في اجسادهم, واشاعة الهلع في صفوف المقيمين فيها لحثهم اما على الصمت والتقبل او الرحيل و الرجوع الى بلدانهم .
لكن بعد مدة تبين ان الغرض المنشود من محيط الفيديوهات تلك الذي سبح فيه غالبية الحسابات حيث اصبحت تظهر بشكل مهول لكل متصفِح. لكن على مايبدو أن الهدف لم يكن عالمي وواسع وبعيد كما توقعت بل كان الغرض اخراس منظمات المجتمع المدني العراقي العاملة منذ 22 عام في هذا البلد بهامش بسيط من الحرية لطرح رؤيتها بحكم ودولة مدنية , حيث ظهرت حسابات جديدة من حيث النشأة ولكن سرعة وصولها الى الناس كانت على مقياس ريختر , فكل فيديو منها يصل عدد مشاهداته الى 30 الف او 28 الف واكثر بطريقة تثير الاستغراب ولا تشير الا الى استخدام فعال وقوي وممتاز لخوارزميات الانستغرام ودفع مبالغ مالية لا يستهان بها لشراء حسابات واسعة الانتشار وممولة لكي تظهر حتى لغير المهتم.
صديقتي تقول انها تستغرب ظهور تلك الفيديوهات حول الجندر والمثلية أمامها فهي سبق ان حددت مفضلاتها على انستغرام بالاهتمام بالفن والتصميم والخياطة وتربية الاطفال فلماذا تظهر لها , واخرى تخبرني بأنها تستغرب عدم حظر تلك الحسابات مع انها تبث خطابات كراهية لكن لا يتم حضرها بل حضر من يخالفها اذا استخدم مفردات رافضة شديدة القساوة ضد هذه المحتويات .
طوال الفترة المنصرمة تلك كانت ردود الافعال والتعليقات ومشاركة تلك الفيديوهات تتمحور حول ما الحل ؟ كيف سنحمي أطفالنا ؟ ما هو تصرفنا لو امتدت تلك الحركة الى العراق ؟ يجب ان نتخذ اجراءات وقائية لحماية مجتمعنا, لكن كيف ؟؟
كانت حالة هلع وذعر قوية مقترنة بحالة من العجز وغياب القدرة على تحديد الخصم بالضبط مضافا لها القدرة على التقاطه بين السبابة والابهام ورميه في مهب الريح والى الابد , فقط من اجل تهدئة النفس وتطمينها بأنها لاتزال محتفظة بقدرتها على السيطرة والاخراس وتوفير الأمان .
اما انا فما كان يشغلني هو القدرة الجماعية على استخدام خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي من اجل سرعة الوصول , والتي عادة لا يحصل عليها الشخص من مجرد متابعة مقطعي فيديو او مقالة على محرك البحث بل يحتاج الى تدريب متميز من اجل ان يصل الى هدفه من خلال الاستخدام الامثل للعالم الرقمي.
نعم العالم الرقمي فقط , فما يحدث الان حول الاهتمام بالجندر والمثلية لا يسهد عين بائعة الخضار على ناصية الشارع بل انقطاع الكهرباء وعدم امتلاكها المال الكافي للأشتراك بالخط الذهبي ولا بائع البقالة الذي يشكو شح القدرة الشرائية للناس واقتصار شرائهم على الحاجات الاساسية ولا سائق الكيا باص في كراج المحافظة الداخلي فما يؤرقهم هو همومهم اليومية من انعدام الخدمات وارتفاع درجة الحرارة ولعبة الغميضة التي تعشقها وزارة الكهرباء العراقية وغلاء الاسعار .
حتى هل هلال شهر محرم وتم غسل المنابر وتجديدها وتلميعها ليعتليها خطباء يخلقون الذعر لآخرين لا يصلون الى المجال الرقمي, وبشكل اخص في المناطق المرهقة مادياً وتعليمياً وصحياً والهائهم عن ازماتهم الحقيقية وتعليق بؤسهم ورفضهم على شماعة سهلة المنال وسهلة الاخراس والسحق وهي الناشطات و منظمات المجتمع المدني التي تدعوا او تستخدم مصطلح الجندر الذي لم يمر اساسا لا على مسامع الخطيب سابقا ولا الناس الذين يخطب امامهم .
سابقا كان الناس يكنون احتراما وقدسية لأيام الحزن ويقدسونها فلا يشركون هموم اخرى مع الهم الاقدس وهو هم احياء الفجيعة كل سنة بشكل طقسي شعائري يخلد ملحمة مهمة لدى الطائفة الشيعية , ويستثقلون اجتماعياً ودينياً قذف اي انسان خلال الشهر رجلا كان او أمرأة لكن في هذه الفترة صرنا نسمع خطباء يقذفون نساء ورجال بالأسم واللقب امام مرأى ومسمع العشرات بل المئات دون رد منهم يتساوى مع حجم الفعل خلال ايام اللوعة والكرب كما يصفها الشيعة .
ما الجندر وما علاقته بالمثلية وما علاقة الاخيرة بالعراقيين ؟
اجمالاً لا حراك او حركة كويرية في العراق بالوقت الحالي رغم ان اللواط كممارسة موجود ويستطيع اي ملاحظ بسيط تتبعها سواء في مناطق محددة من كل مدينة او كأشخاص يعبرون عن ميولهم بطرق التحرش اللفظي والجنسي على اي صورة لشاب او فتى جميل على مواقع التواصل لكن الغالبية العظمى منه تندرج ضمن اعتبار الصبية او جميلي الوجه والمظهر مجرد ادوات جنسية لا يرقون الى مستوى الشراكة التي تتحدث عنها الحركة الكويرية من الاصل .
ولا توجد رابطة بينه وبين الجندر( النوع الاجتماعي) كمصطلح علمي يعني ان البشر يخلقون ذكر وانثى لكن المجتمع هو من يوزع الادوار والمهام والتوقعات بينهم وفقا للعادات والتقاليد والاعراف السائدة في المجتمع , على سبيل المثال ( المتوقع من المرأة ان تكون ام مستقبلاً و المتوقع منها ان تجيد الطهو والاعمال المنزلية , ان تحب الجمال وتعتني بنفسها / والرجل متوقع منه ان لا يجهر بعواطفه و ان يكون شجاعا وصلبا , ان يعمل خارج المنزل ولا يعمل داخله , ان تكون كلمته هي الفصل والاولى في البيت ) , اي ان الطفل يولد ليتم قولبته من المجتمع في قوالب محددة اذا حاد عنها لا ينظر أليه نظرة احترام , مثل الرجل الذي ينظف ويطهوا ويربي الاطفال الذي ينبذ اجتماعياً بمجرد شيوع ذلك عنه .
ولا يعني الجندر ان يكون له ميل جنسي لمن يشابههم بالجنس , وحتى العتبات الدينية سبق وان شاركت بشكل او بآخر حول العنف المبني على النوع الأجتماعي ( الجندر) فهذا مثلا المؤتمر العلمي النسوي الذي يحمل عنوان (المرأة ما بعد عاشوراء: قراءة في معطيات التحديات المعاصرة) والذي ينطلق ضمن فعاليات النشاطات النسوية لمهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي بدورته الخامسة في (11 /4 /2019) , عقد برعاية العتبتين العباسية والحسينية وتم رفع الخبر على موقع العتبة الحسينية وكانت اولى محاوره ,المحور الفكري والمعرفي ومن فقراته :
النوع الاجتماعي (الجندر) دراسة العلاقة المتداخلة بين وظيفة المرأة ووظيفة الرجل في ضوء معطيات ونتائج واقعة الطف.
وكذلك الخبر الذي نشره موقع المرجع الالكتروني للمعلوماتية بتاريخ 23/4/2018 عقب زيارة اجراها وفد صندوق الامم المتحدة للسكان وهو يلبي دعوة العتبة الحسينية لحضور مهرجان الشهادة الرابع عشر ولفتح افاق التعاون بينهما حيث صرحت أخصائية برامج الحماية والعنف القائم على النوع الاجتماعي في صندوق الامم المتحدة للسكان أيري تانيكوجي للموقع الرسمي "جاءت هذه الزيارة لمناقشة مجموعة من المواضيع التي تهتم بالمجتمع كصحة المرأة ورعايتها وتوفير المستلزمات الخاصة بالصحة الإنجابية, الى جانب الاهتمام بشريحة الشباب وتقديم المساعدات الإنسانية المتعلقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي"
وعلى موقع العتبة العباسية المقدسة ظهر خبر بتاريخ 21/6/2023 خبر يحمل عنوان: امام مجلس الامن.. فريق التحقيق الأممي يستعرض دور العتبة العباسية بتوثيق جرائم داعش, يشيد فيه رئيس فريق التحقيق الدولي السيد كرستيان ريتشر بدور العتبة العباسية وتحديدا مؤسسة الوافي في عملية التوثيق لجرائم داعش ليوضح في معرض حديثه التقدم المحرز في تحقيقات الفريق( يونايتد) في العمل على عدة تقييمات لقضايا، ومن ضمنها حول تطوير تنظيم داعش واستعماله للأسلحة الكيميائية، والقضايا المتعلقة بالجرائم المبنية على النوع الاجتماعي.
اما العتبة العلوية فسبق ان تعاونت مع منظمات ذات توجه اسلامي كأم اليتيم وبنت الرافدين مثلا حول قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي وساهمت بكل شرف في تأمين ضحايا العنف او توفير عيش كريم لهم/لهن.
ان العتبات المقدسة كانت تستخدم ذلك المصطلح الهارب من اروقة الاكاديميات والفار الى ألسنة العوام وبسيطي المعرفة وحققت من خلاله خطوات تُحسب لها, فهي مطالبة ايضا بإنقاذه من حالة الشيطنة التي يمر بها.
كذلك ينبغي على المنظمات العاملة في مجال العنف القائم على الجندر او النوع الاجتماعي نزع غلاف العار الذي تغلف به هذا المصطلح الذي رعى عملهم وتمويلهم لسنوات, مرة بشكل توعية وتثقيف ومرة بشكل انتاج معرفة نسوية ومرة من اجل مساعدة ضحايا العنف بسبب النوع , وذلك من خلال استمرارية العمل به ومواجهة المشيطنون بالدليل والحجة ودفع القضاء العراقي للعب دوره ومحاسبة كل من اساء لمنظمة او شخص بطريق التشهير والتحريض علانية وابطال القرارات والتعليمات الحكومية التي حظرت التعامل مع مصطلح النوع الأجتماعي .
أن محاولة الاخراس التي تحدث الان والتي طالت ناشطين/ات ومنظرين/ات ومجمل المؤسسات التي عملت وتعمل وتخطط ان تعمل في مجال النوع الاجتماعي وتجاهل مصادقة العراق على الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات التي تحظر التمييز بسبب النوع اهمها سيداو , ماهي الا مظهر من مظاهر القمع الذي خبره المجتمع العراقي وعانى منه ابان حكم صدام حسين والدولة العراقية الان ماضية الى تحقيق اعادة نسخ حكم الاستبداد ذاك بسياق وزمن و اوضاع اخرى , وما يحدث الآن من لغط حول الجندر وتعهير العاملين/ات به ماهو الا محاولة لإلهاء الناس عن قضاياهم الاساسية وهمومهم اليومية المتمحورة حول تفاصيل العيش من خدمات وحماية وامان اقتصادي , قد تبدو لوهلة انها ناجحة بدليل ان قضايا العنف الاسري تتسارع لتفرض نفسها على مواقع التواصل ولكن مستوى الالهاء بالجندر والمثلية بدل المطالبة بقانون عنف يحمي الفئات الهشة يبدو انه الاقوى , ولكنها بلا شك ستنتهي بمجرد تحقق الغرض من الإلهاء . أي يشبه تعامل الناضجين مع الاطفال عندما يفتحون شاشات التلفاز لهم ريثما ينهي الكبار حديثهم, لكن تلك الشاشات لن تبقى مفتوحة للأبد.
اذا طُلب منا اعطاء ثيمة تميز سياسات حكومات ما بعد 2003 مع الجماهير وفي الاوقات الصعبة كأنخفاض سعر صرف الدينار العراقي وارتفاع درجة الحرارة مثلا فستكون ( الإلهاء) , نعم انها السياسة غير الناضجة حيث يخبرنا التاريخ اليوناني مثلاً بأن الملوك اذا استجدت ازمات في أيام حكمهم سارع مستشاروهم الى نصحهم بعمل مهرجانات رقص او العاب جماعية تنافسية او التجمع لمشاهدة رياضة محببة كالمصارعة مثلا لحين تجاوز الأزمة .
يا ترى ما هو هذا الحديث الذي لا يريد فيه " الكبار " ان يستمع له او يناقشه الجماهير مضافا لهم منظمات المجتمع المدني ككل ؟