يَمَّاتْنَغْ



عبد الله خطوري
2023 / 8 / 21

نحن قوم نحترم رحم الأمومة ، والمرأة عندنا لما يرتقي مقامها في أعيننا ندعوها : ( يَمَّايْنُو أمي ) بصيغة المفرد و : ( يَمَّاتْنَغْ أمنا ) بصيغة الجمع ... " إنَّ دُمُوعَ الأمَّهاتِ لا تنضبُ فعندهُنَّ منها ما يكفي .. وإذا كانتْ لكَ أُمٌّ فإنها تعرفُ ذلك جيدا "… أبدأُ كتابتي بقولة " مكسم غوركي " هذه من روايته الشهيرة الموسومة ب : " الأم " لأتحدث عن أمهاتنا الأمازيغيات من بلدات الأعالي مُعَرِّجا بآحتفاء وحنين إلى أمهات قريتنا عرفتهن عن قرب وأنا بعدُ طفل أرتعُ في نهارات وليالي الصيف ببلدتنا العتيدة .. فمَازلتُ أذكر يَمَّاتْنَغْ " ميمونة إيمحطرن " و " ميمونة أولتْ عياد " والدة جدتي أم اليتامى كفيلة المستضعفين الواقفة في وجه الظلم والجبروت .. ما زلت أذكر " فاطمة تْسِيعْليتْ " التي سِيمَتْ بمَيْسَم طائرات آستعمارية عسكرية غازية بطشت بها لم ترحمها رغم رفعها راية السلام البيضاء فماتت برشاش رصاصها الغادر .. مازلت أذكر " تْبوبْشَرْتْ " تازَرُّودَتْ و " فاطمة ميمون تاعَجْعُوجْتْ " نجلة يَلِّليسْ نْسِي ( ميمون أوعياد ) فقيهنا الطالبْ نَغْ الذي تعلمتُ على يديه أولى مراوداتي للنصوص والمتون البذخة في سبعينيات القرن الماضي ما زلت أذكر " صفية حمو " .. و " صْفٍية نايَتْ سيمْحَنْد " و " عيشة أوقَرْطيطْ " و " خديجة رَحُّو " و " محجوبة علي " شقيقة والد والدتي ( سيحدو أوعلي ) و" مريم تاقريعتْ " و " خْدِيجة تريفيشتْ " زوجة ( آريفي ) القادم من قبيلة في الجوار و " رقية آيت عبدالله " و " محجوبة تاسغروشنت " و " عيشة تامعلاويشتْ " و " رقية حمو تازوردت " و " حدهوم أووشن " .. هي أسماء ذات خصوصية كان يطلقها عليهن الأهالي ليميزهن عن بعضهن بإحالة نسبهن على قبيلتهن فكأنهن بذلك يمثلن هذي القبائل في قريتهن الجديدة .. مازلتُ أذكر أوشامهن العميقة تسم قسماتهن بسمات العَرَاقة المتجذرة في أتربة الحياة .. مازلت أذكر أمهاتنا من كل قبائل الجوار ولدن ربين رحلن صغيرات تركن فلذاتهن في القماط يقفو بعضهم بعضا ينمون يكبرون يتعثرون يتعلمون من لبإ الرضاع قوة الصمود سنة متابعة الحياة في الحياة .. مازلت أذكر " تَاهْرِيدَانْتْ " والدة والدتي التي كنتُ أناديها ب " العزيزة " بصفة ترعرعتْ معي من قاموس شمالي طنجاوي تربيتُ على النبس به دون أن أتساءلَ يوما عن معناه ، أهو صفة أم آسم لِمُسَمَّى .. انها العزيزة وكفى .. هكذا تربينا على نبس الاسم والصفة معا في إشارة دلالية الى جدتنا من أمنا ، ومعها تربينا كذلك على لفظ كلمة " يَمَّا " وإسنادها الى أُمّ لنا أخرى من أبينا كبيرة القلب والشخصية ، إنها أمنا " رقية " بورك عمرها الذي عاشته في بلدتها الفحص و قبيلة آيتْ عبدالحميد ومدينة طنجة ، ورحمها الله بعد موتها بعيدة عن بلدتها وأرضها وتربتها الأثيرة .. كانت _ رغم قهر السنين المتواليات _ تحتفظ بكثير من رُواء الأيام الخوالي حين كانت تعانق أفياء الفحص وآلأعالي برجليْها ماشية على القدميْن مسافات تُعْجِزُ أصلب الرياضيين الشباب .. إنها البَرَكة التي إنْ حضرت حضرَ الخير كله معها ...
وسلسلة الأمهات الفَحْصِيات ضاربة الغور في جذور ذاكراتنا كلنا ، فمَنْ منا لا يذكر يتذكر في لحظة ما أو لحظات كثيرات من حياة الفتنة التي نعيشها في عصرنا هذا ، مَنْ منا لا يخطر بباله أمهاتنا : " تاعجعوجت " و "تاحدُّوت" وعمتي " الزهرة " شقيقة أبي تلك الأبية المقاومة المتشبتة بالحياة رغم الجو الماطر والإعصار ، والتي جاهدت ناضلت خدشت التراب والحجر من أجل الاستمرار في عيش قاس ، في وحدة قاهرة ب " اللَّملامة " حيث جبروت الجو القارس في الليالي المديدات وصلف الحر في الصمايم المُتْرَعة بندرة الأمواه وكثرة الشغل والشقاء ، من حصاد وتذرية في البيادير وجمع للمحاصيل ، وتهييئ للوجبات وحلب لإناث القطيع ، وجر وحمل للأثقال وكد وسعي وشقاء وعطاء قلَّ نظيره دون انتظار لمقابل ما أو جزاء ، حتى إذا كَدَّ كَدُّها وهان عمرها القصير وآحدودب الجسد الضامرُ ، انهارت المسكينة في معزل عن العالم والعالمين .. ما زلت أذكر " تالفقيرت " وحكاياها التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد ، ترويها لنا ونحن متحلقين حول شعلة تتراقص نيرانها في حياء في ركن قصي من تلك الغرفة التي دأبنا الاجتماع فيها ننتظر صلاة العشاء كي يذهب كل واحد لحاله في موعد حاسم وقاتم مع أحلام وكوابيس ، يشهد الله أنها كانت كثيرة ومخيفة تُطَوِّقُ الطفل الذي كنتُه من كل حدب وصوب ، فيستعين بوسادة فوق رأسه وأخرى تحته في طلب حثيث لأمان لا يأتي الا مع انبلاج صباح جديد .. مَازلتُ أذكر يَمَّاتْنَغْ " حليمة عياد " بوشمها الأمازيغي الضارب في عتاقته سنينَ خلتْ لا تُحصى ولا تُعَدُّ ، وأنسى ما أنسى أبدا موواويلها الصادحة بحب الخبز والزيت والتريد والزعتر الحريف وزشن وأزير وحُداءات الرعاة وراء قطعانهم في مساءات تَتْرى لا تسمع في أنحائها الا لعبارات من قبيل " خْسَتْ أورد " و " يالله نْدَهْ " و و و ... كثير من الوجد والحنين يبعثه في حنايانا الملتاعة طائر " طابْ " الفحصي بآمتياز يعلن بداية الحصاد .. مازلت أذكر يماتنغ " محجوبة هادي تَابَنْهادِيتْ " ومشروع الدمعة الذي يربض بعينيْها الكحيلتيْن أبدا كحلا إلاهيا طبيعيا ، بجسمها النحيل ونظراتها الواجفة وحركاتها الرشيقة رغم امتداد السنين وصلف الأقدار .. مازلت أذكر " محجوبة روحو " وخالتي الزهراء الزاهرة اللتان رحلتا في ريعان التوق إلى الحياة بعد أن تركتا رجالا ونساء ورثوا منهما مَيْسَمِهَما الأمازيغي الأبي الذي لا يلين .. مازلت أذكر يماتنغ " تالَمْزَارْدِيتْ " الوديعة الهادئة الراضية المبتسمة للحياة والأحياء في هدوء لا يليق إلا بحياة الزهاد والشعراء .. مازلت أذكر " فاطمة بوكرين " تابَنْخَطُورْتْ من بلدة كوان جاءت كما جاء الكثيرون والكثيرات في علاقة وشيجة تؤرخ لتاريخ بلدة واحدة انقسمت جغرافيتها الى قسمين، كُنا نرحل بينهما طيلة طفولتنا وشبابنا بين أعراس تشد أواصر هذه العلاقة وتزيد متانتها .. مازلت أذكر أمي بصبرها الذي تنوء بوطأته أثقال آلجبال وأخريات مازلت أذكرهن بأسمائهن بقسماتهن بسَمْتهن .. مازلت أذكر كل ذلك ... إنها الأم .. يَمّا أمنا يَمَّا يْنُو يماتنَغْ التي وُلدتْ وَلدتْ ووَلَّدَتْ أجيالا تعقب أجيالا في تاريخ بلدتنا الطافح بحيوات كالنسيم كالرعود كالبروق كالرياح كالعواصف إذْ ترسل أشطانَها معلنة تواتر وتعاقب مسيرة عيش جبلي لا يلين لِلَيْلٍ أو نهار ... ( الأم ) هنا كلمة تحيل على صورة مصغرة للأم القروية خلال فترة الاستعمار التي تعرضت لأبشع أنواع الاستغلال داخل ضيعات المُعَمِّرينَ بعد أن تَـمَّ سلب الترابِ وما يَلِدُ الترابُ من القبائل، ثم بعد الاستقلال سَيُعادُ نهب الأراضي والضيعات والممتلكات بشكل جشع بشع من طرف المُعَمِّرين الجُدد الذين يمثلون " نخب " الانتهازيين والعائلات التجارية النافذة في دواليب السُّلَطِ المُهيمنة على البلاد بعد نزع سلاح القبائل والقضاء على جيش التحرير والمقاومة التي تنحدر من أصول أمازيغية وعربية من البوادي العميقة في الجبال ، مما نتج عنه تشتت القبائل التي تعرضتْ لمُخططات مدروسة نهجتْ سياسة التفقير والاقصاء ، الشيء الذي أدَّى إلى تَكَـوُّنِ أحزمة هامشية حول مراكز كانت من قَبْلُ مخصوصة بالإقامة الفرنسية وورثها عنها هؤلاء الطفيليون الذين سلطوا سُلَطهم من أجل دعم نفوذهم وخدمة صالحهم على حساب السكان الأصليين ، فانتشرت تجمعات عشوائية و " جيتوهات " سكنية وأشباه مدن صغرى مُهَمَّشَة تنعدم فيها أدنى شروط العيش الكريم من بنيات تحتية وخدمات اجتماعية .. وتَـمَّ إيقاف وتيرة النمو التاريخية الحضارية التي كانت تسير فيها قبائل الأمازيغ بشكل تعسفي أجهزَ على تطلعات وأحلام أبناء البلاد .. وفي كل مرة تُخْلَقُ تُبْتَدَعُ حكاية من الحكايات ، فتارةً بتشدقات " أمنية " كما حصل في بلدة " أهرمومو " التي سُلِبَ منها كل شيء حتى حقها في آسمها التقليدي القديم الذي نبتَ معها وترعرع في أفيائها ، وتارة بآدعاءات " سياحية " كما حدث مع مدينة " إيفران " التي فُرِّغَتْ من هُويتها ومن سكانها الجبليِّين الأصليين من أجل تعميرها بعابري سبيل من كل حدْب وصوب لا لشيء إلا لامتلاكهم عمولة نقدية يصرفونها هنا هناك دون أن يستفيد منها آبن وآبنة البلد .. بل وصل الأمر إلى تخصيص بعض فضاءات الأمازيغ الحيوية لممارسات مهينة تحط من كرامة الانسان ، ولم تبذلِ السلط الحاكمة أيَّ جهد من أجل تغيير هذه المعطيات الموروثة عن الاستعمار القديم السالبة لكينونة وهُوية البلاد ، بل فتحتِ الأبوابَ على مصارعها الى كل راغب في آزدياد هذا النوع من " الماركوتينغ " الآدمي وسمحت بمرور وقدوم واستقرار الكثيرين والكثيرات ممَّنْ تستهويهم أقدم مهنة في تاريخ الإنسان ..
في الوقت الذي ظلت فيه " تِمُورانَّغْ " مقصيةً متروكة لحالها وللصدف تفعل فيها فعلها الشنيع ، فأغلب رجالها الذكور مُعَطَّلون عن العمل وجُلُّ نسائها يُعانين أوضاعا اقتصادية واجتماعية مُزرية تحت طائلة الأمية والتهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، مما دفع بالمرأة إلى قَبول آمتهان جميع الحِرف بما فيها تلك التي تمسُّ إنسانية الإنسان ، أو هُنَّ في أغلبيتهن إما يساعدن الرجال في حقول صغيرة تحت ضغط ظروف مُزرية أو خادمات في المدن بأجور هزيلة دون حماية قانونية وصحية واجتماعية أو حِرَفيات يقمن ب " مهارات منزلية " كالنسيج وغزل الصوف وصنع الزرابي ، وكلها أعمال تفتقد إلى الدعم وضمانات التسويق والحماية القانونية والمساعدة التقنية في إطار التحولات الخطيرة والسلبية التي يعرفها الاقتصاد المحلي والدولي : ( العولمة الليبرالية ، الرأسمالية المتوحشة ، اتفاقية التبادل الحر ، الأنانية وانعدام الروح الوطنية التي يتيمز بها أرباب الأموال من المغاربة، وانشغال القطاع الخاص المحلي والأجنبي في تنمية رصيده من الأموال دون التفكير في الأيدي العاملة البسيطة .. ) ، مما يُضَعِّفُ التمكينَ الذاتي للنساء وغير النساء للمساهمة في مكافحة الفقر وتحقيق التنمية الذاتية ، إذ لا يمكن تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ومبدأ التشارك إلا بتحسين المركز الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للإنسان الفرد .. إن صوت الأم في عوالمنا القروية الأمازيغية هو صوت الهوامش المَقهورة التي تمثل الأغلبية الشعبية المسحوقة من النساء .. انهن بدون صوت .. لا صوتَ لهنَّ البتة .. موشومات بتجاعيد القهر الجائرة في كل الأزمان .. كما أن أمنا الأمازيغيةَ تعيش يوميا مهانةً اقتصادية واجتماعية وسياسية تُشوهُ كيانَها وكينونتها وهُويتها ، وفي المقابل تخضع لبنية قانونية لا تعطيها أبسط الحقوق في الصحة والكرامة الانسانية .. انها تلك التي وُسِمَتْ بصفة " الْبِيدُون " في ما يُسمى ببطاقة هوية " المُواطنة " التي سَلَبَتْ منها أعز ما يمكن أن يملكَ الانسان : الكرامة والانسانية .. انها تعيشُ الحيف والظلم داخل المحاكم والإدارات العمومية والمستشفيات ووسائل الإعلام وفي الشارع العام والخاص .. انها تلدُ في الطريق قبل الوصول الى مشفى المدينة القريب .. لا مشفى في البلدااات .. لا مدينةَ في المدينة .. انها في الغابات تنوء بحمل الأثقال .. انها في أسواق الجوار تبيع تشتري تقايضُ عيش المُحال .. انها في ضيعات النخاسين الجدد من أشباه الرجال ولا رجال .. انها هنا هناك لا تملُّ لا تقول : .. آه !! .. حتى في بيتها هي لا تنجو من الحيف ، فهي لا تملك بيتا أصلا لتسترَ فيه آدميتها ، كما أن الجمعيات النسائية وغير النسائية _ التي انتشرت في بلداننا كالفطر دون فعالية أو نجاعة _ ومختلف الأحزاب المتهافتة على المناصب _ لم تجرؤْ في يوم على جرد واقعها المُسْتَلَبِ الذي تُشْحَنُ فيه بالرغم منها .. فلسنا نجدُ في المخططات الحكومية ولا في برامج الأحزاب ولا في أنشطة الجمعيات اهتماما بالأمازيغيات اللائي فقدن أزواجهن لظروف آستثنائية قاهرة لسبب أو لآخر في المعامل في الشركات في الضيعات في قيعان الحَفْر في المقالع في المناجم في البحار في البراري في الأجمات في الأزمات .. شهداء مهمات رسمية يا حسراه .. !! .. تظل الأرملة تتجرع غُصصَ آلام وقع الحياة القميئةِ بدراهم معدودات لا يسددن حتى ما يكفي لُقَيْمات صغيرة في اليوم الواحد .. تظل حائرةً قلقة على أبنائها وبناتها تحت تهديد إنقاص قيمة التعويض الذي تتلقاه من ما يُسمى حَوالة ما خلف المرحوم .. في الوقت الذي تُصْرَفُ فيه الملاييرُ هكذا جزافا على نوع خاص من البشر يُسْتَقْدَمُ من الخارج من أجل نشر المرح الزائف و الفرح المزور على الوجوه المفقرين العابسة المتجمعة في البلاد .. لا مَرَحَ الآن في بلاد الأمازيغ .. الأعمار مُشْرَعَةٌ على ألف سؤال وسؤال .. الماضي تُغْتالُ ذاكرتُهُ ، والحاضر يُحْشَرُ في جحيم الحياة اليومية .. أما المستقبل ، فقصة أخرى نخشى فيها أن يتكرر ما فات ونعيش من جديد مآسي الذكريات كتلك التي عاشتها أمهاتنا التاريخيات في الزمن الغابر الغادر وتلك التي تعيشها الآن هنا في حلقة أخشى أنْ تكون دائرية في دوران مُفرغ يعيد بإتقان مدبر إنتاج فخاخ الحياة التي لا تبقي ولا تذر ...