نشأة النوع الاجتماعي وتطوره: نيهوم ليبيا والجندر من منظورٍ آخر



يوليو هلال
2023 / 8 / 22

في مهجَره عام 1971، أجاز النيهوم في مقالات عديدة سيرة نسميه في عصرنا "الجندر"، وجُدّدَ نشرها بكتابه الصادر في 2001 عن دار تالة للطباعة والنشر بعنوان "فرسان بلا معركة"، لينصُب بذلك المفكر الليبي الصادق النيهوم سُرداقًا يجمع ثلة المهتمات/ـين بقضايا المرأة في ليبيا على طاولة تزدان بنقوشٍ ليبية أقرب إلى السياق الخاص للمجتمع، ورغم أنها نظرة تتسم بضيق المفهوم المطروح في مقابل المفهوم المنظومة في ما بعد الحداثة، إلّا أن النيهوم بنصوصه يكون سباقًا في طرح هذا المفهوم في المجتمع الليبي الذي كان أكثر تحفظًا في ذلك الحين (ولا يزال) إزاء تناول المسائل المتعلقة بالمرأة، وسنخوض في هذا المقال بعيني النيهوم الباحثتين بين الكتب والدراسات وأدق تفاصيل المجتمع الليبي عن تأصيله توزيع الأدوار الجندرية وسبل إحداث تغيير جذري فيها من زاويته، وذلك مع إضافة من مكنوني كقارئ شذرات إلى العرض كون الكتب تخضع في مجملها إلى ذوات القراء وهذا ما يجعل في المطالعة تفردًا بين شخصٍ وآخر.

في أسْر الأُسرة الليبية:
يجد النيهوم أن أواصر تماسك الأسرة الليبية قامت على انضواء أفرادها تحت رقابة الرجل في مركزِ احتجازٍ واحد سِمته الاكفهرار كمعسكرات الاعتقال، وحرية المرأة ضمن هذه الأسرة بعيدة المنال، كون ولاية الرجل على المرأة داخلها ترادف بالضرورة اضمحلال هوية المرأة، لسيرها على ضمير ووجدان الرجل لا ذاتها، وانتفاء دافع البحث عن المعرفة، الذي ينقلب إلى خضوعٍ للقوالب الجاهزة التي سبَكها المجتمع على مدى قرون.
كما عبّر النيهوم أن بناء النظام الأبوي المشكّل للأسرة الليبية اقتضى على أفراده أن ينقلبوا عُملات لا يصلح تداولها إلا إذا سُكّت بوجه السلطان وهو الأب؛ فطاف في ذهني تأويلٌ حملته عبارات النيهوم، تأويل مؤداه أن اسم الرجل الذي يلحق بأسماء الأبناء والبنات، والذي بغيره يكونونَ/نَـنَّ أبناء وبنات "حرام" لا تجوز مصاهرتهم كأنما يحملن/ـون وباءً خطيرًا. وكذا تلوح في ذهني تلك المسكنات التي تحقنها الأمهات في أذرع الفتيات حينما يبتغين كسر قيود التنقل المفروضة عليهن والخروج للعب كما فتيان "السانية" أو أن تخرج بما يستهويها من ملابس غير "العباية والوشاح" أو القمصان و"التيشرتات" و"الماليات " التي تحجب مراكز الشرف وتنزّ بالعرق الغزير في فصل الصيف؛ ولا أعني بالمسكان العقاقير هنا، بل "التصبيرة"، أي أن تصبر البنت لتتزوج حتى تتمكن من التمشّي في "طريق الشط" وبين "قهاوي الدهماني والنوفليين " حرّة القدمين، حيث لطالما سمعنا الأمهات الليبيّات يردّدن لبناتهن "أنتِ بنت، لما تتزوجي ديري الي تبيه"، وهذا ما لا يحدث في غالبٍ الزيجات أساسًا، فمرحلة الانتقال إلى الزواج في غالب زيجات ليبيا ليست سوى تبديلٍ لمعسكرات الاعتقال، ويبقى الفكر الذكوري حاكمًا، ويقولب قيودًا قد تجسَأُّ تطرفًا مما كانت عليه.

النيهوم عن لسان المجتمع: "شرف البنت مثل عود الكبريت وشرف الرجل مثل ولاعة الرونسون ":
ويأتي النيهوم على ذكر ما جال في خاطري من مزيد، فقد تحدث عن مزاعم المجتمع الليبي أن شرف البنت مثل عود الكبريت يحترق مرةً ولا يعود، فيما شرف الذكر كما ولاعة الرونسون، قابل لإعادة التعبئة وللاشتعال والاطفاء بضغطة زر! وعلى ذلك تُبنى القيود المفروضة على النساء، على فرضية الشرف الذي تحمله النساء، شرف المجتمع بأسره يثقل كواهل النساء، يحملنه منذ الولادة ويجثم فوق قبورهن، أشبه بخيال أسود، أرى له رأس حصان مشوه، ربما لارتباط الرجولة بالفروسية في قديم المجتمع الليبي وحتى الحاضر. يتشبث الخيّال بأعناق النساء، ويقبض بكفيه كواهلهن، حتى يغدو السير أصعب عليهن، أكثر إيلامًا وإرهاقًا.

النيهوم يحكي عن نشأة الأدوار الجندرية:

ضريبة الدماغ:
من قردٍ وليد أو قردةٍ تنطلق الرحلة منذ ملايين السنين، غوريلا تحمل بين كتفيها سلاحًا سيُغدي العالم رأسًا على عقب لاحقًا، تتهاوى مرتبة القدرات العضلية في الغابة حيث تقيم، ليحل محلها تمرين بنية أخرى أكثر تعقيدًا اعتبر النيهوم وقوع القرد في أسر الأُسرة وصفتها السحرية للانبلاج، فتندفع قبيلة من القرود على أقدامها بتؤدة خارج القطيع، تصقل مجتمعًا لا مناص من حاجتها إليه لتبقى، يتلقف قردٌ كهل ذا نتوء صولجانًا، فيما تبقى الأنثى على أطلال هوية المروم منها أن تعيش، فقط أن تعيش وعاءً يمنح ما بين كتفي القرود الأخرى من عمره مِدادًا بين حمل، ورعاية غير مشروطة لثلاث عشرة سنةً على أقل تقدير، ذلك أن الدماغ الأكبر حتّم على الحمل أن يطول لضمان التغذية، وحتّم على جسد الجنين أن تنحسر تغذيته أثناء الحمل عن باقي الحيوانات، ما اقتضى فترة تأهيل أطول ليتمكن القرد الصغير من خطو خطواته الأولى عقب خروجه من الرحم إلى الأرض.
لا مناص من مقتضى أن ينعم الدماغ لفترة تأهيل حتى يسطع، وكذا الجسد، هذا ما عبّر عنه النيهوم، ذلك أن الطفولة الطويلة قبل ملايين السنين، في غياب منصات تعليمٍ ورعاية كما منصاتنا الحالية، حتّمت على أحد أن يقضي حياته في سبيل دماغ أحد آخر، وتولّت الأنثى هذا الدور دون أن يطلبه منها أحد ولا أن تتولاه هي عن قرار، ذلك أنها وحدها من معلومٌ برجوع القرد الصغير إليها في وقت شيوعية الإناث، ليتشبث القرد الصغير بجسدها كما العَلَقة، حتى نسيَت في نهاية المطاف أنها مخلوقٌ منفصل عنه، فغدت قطعة كما أي أخرى من أدوات البيت، تراجعت عن دورها بين قبيلة القرود، واستأثر القرود ذووا النتوء لبناء النظام على مقتضاهم، وبالطبع، لم ينشأ هذا النظام في سنة أو مائة "ولا ولا مليون! " على رأي الفنان حكيم، إنما تطلب ما يزيد عن ثلاثين مليون سنةً قبل أن يُصقل نظام أشبه بالأسرة لا يزال نظامنا في القرن الواحد والعشرين يشاركه خطوطه العريضة.

شيوعية الإناث ثم الوصاية:
حينما اقتضت سنين التأهيل تكوين نظام أشبه بالأسرة، كان لابد أن تتبعه إقامة في مكانٍ دائم ليكون سدة الرعاية واعتزال الإناث أي دور عدى تقديم الرعاية، في حين يلعب ذووا النتوء، أي الذكور، دور المعيل فيجوسون الغابة بحثًا عن الأرانب والثمار وجثث الفئران لتكديسها في المغارة، وكذا للتنافس على الإناث كما سيكون لاحقًا.
لم تكن الإناث ملكًا لأحد كما لم يكن الذكور، إنما كانت كل الإناث ملك لكل الذكور، والصراع بين الذكور كان شريعة المجتمع البدائي في الحصول على أنثى يحفظ بها كل ذكر نسله، حتى كاد جنس الذكور ينقرض، وحينها لحفظ جنس الذكور من الانقراض، أخذ الذكر ذو الحظوة الأعلى يتسنم سدة الوصاية، وغدت الإناث كافة ملكّ لشيخ القبيلة، فصارت الآلية أن ينتقي شيخ القبيلة لكل قردٍ قردته كلّ بحسب ما يأتيه به من طعام في فكرة أقرب إلى المهر في عصرنا، فغدى موسم التزاوج موردًا هامًا لتكديس الطعام لكل قبيلة، والقرد الأغنى في صيده حصرًا من يستحق أنثى من إناث القبيلة، أما إن تجرأ قرد كسول أو متذاكٍ على أن ينسلّ بأنثى بلا مقابل، يهرع ذكور القبيلة جميعًا لربطه ورجمه بالحجارة حتى الموت في صورة أشبه بالشرف الجماعي في عصرنا. فيُنتزع بذلك من إناث القبيلة حقهن أن يطلبن الجنس أو يخترن من سيمارسنه معه، حينما يُعرَضن في أقفاص لتبادلهن بين الذكور كلّ بثمنها عند شيخ القبيلة الذي سيحل محله الأب مع تطور اللغة واستقرار الإنسان على المزارع لاحقًا وسكّه أنثاه وأبناءه/بناته باسمه لتمييزهم/ـن عن أنثى وأبناء/بنات غيره.

الانعكاسات على المجتمع الليبي:
عبّر النيهوم أن بعدما استقر الحال على النظام الجديد بأدواره وتراتبياته، تولى الأب دور الوصي، ذلك مع تمكنه من سك الأنثى/إناث التي يختار باسمه، وأن يحفظ نسله في جعبته، وأصبح بوسعه أن يتاجر بنسله من الإناث مقابل النقود عوضًا عن الأرانب المجففة؛ وغدى للإنسان لغة ينطق بها ويدعوا من خلالها المرأة إلى تسنم سدة البيت على أنها لها فيه حريتها وكرامتها وصونها، فصار الخطاب الصادح الذكوري الأبوي المسمار الأخير الذي يدق أوتاد قيود المرأة إلى أعماق الأرض. فبعدما كان أسلاف الإنسان يوطّدون كل ما بنوْه بالصياح الأهوج، خلق الإنسان الناطق بلغته مفاهيمًا كـ"العفة والعزة والحرية والكرامة" تُوطّد ما سلف في معاييرٍ أخلاقية ومُثل اتسمت بالعلا في ناظريْه، فغدت الأرانب المجففة مهرًا، والصراع الدموي سباق اقتصادي بين الذكور من أجل الزواج، واستئثار الذكر بأنثى لإخصابها عقب صراعه وصيده غدى غشاء بكارة يمثّل الشرف في صورة مادية لا يحق لأحد اختراقه عدى الذكور المتفرّد بأنثاه؛ كما ظهر أن الخنوع والطاعة في تربية الإناث والفحولة والهيمنة في تربية الذكور منقولٌ عما سلف من قمع لرغبات الأنثى ووأد لهويتها وتعزيز لهوية الذكر ودفعه نحو التباهي بدهائه في الصيد وقوته بين القرود ذووا النتوء الآخرون. لقد تحولت الأنثى في عصرنا إلى ما يرادف الصيد الذي لم يقبل القرد أن يشاطره به ذكرٌ آخر، فيما الرجل في عصرنا له خاصيته أن ينتقي عدد ما يشاء من الإناث في مقابل مزيدٍ من الأرانب والفئران وحتى الدببة شريطة ألّا يكنّ ملك رجل آخر، على النقيض من المرأة التي تنحصر حياتها في رجلٍ واحد.

من شرّع قوانيننا وهل حُكِمت بالبطلان؟
يرى النيهوم أن حقوق المرأة تؤخذ ولا تُعطى، أي ألّا تطلبها المرأة إنما تأخذها بيدها، وأشار إلى أن حقوقها لم تُسلب من الأساس إنما شكّلت مقتضيات التطور الدماغي الفجوة الجندرية، إلّا أن تراجع قدرة العقل على الإبداع في عصرنا أبقت على النظم البائد غير العادل ولا المناسب لما نعيشه بالمطلق قائمًا، وشبّه سعي المرأة نحو إنهائه بمطالبة الرجال بحقوقها بالتفاوض مع محتالٍ استغلاليٍّ رديء السمعة ليُعيد شيءً لم يسرقه من الأساس، ذلك أن حقوق المرأة على حد تعبيره لم تكن موجودة من الأساس لتُسرق، إنما ما وقع هو محض انتهاز الرجل لندبات التطور باستمالة الوضع لصالحه ليبني عالمًا له فيه السيادة على حساب المرأة.
وأرجع النيهوم الفجوة الجندرية إلى ما بناه الرجل من نظام اقتصادي يُخضع السيادة في قبضته؛ ويقتضي تغيير النظام الاقتصادي لتجديد مفهوم حقوق الإنسان في المجتمع الليبي، إذ أن النظام هذا شكّل مفاهيمه الخاصة حول الحقوق والقيم والأخلاق لا يعد بناءًا عليها احتجاز المرأة في مساحاتٍ ضيقة انتهاكًا لحقوقها، إنما وترضى النساء اللاتي يخضعن لهذا النظام بما احتُكرن فيه؛ ولا بد في هذا الصدد من السعي نحو تغيير النظام الاقتصادي من جذوره لا المطالبة بحقوق المرأة في ظل ذات النظام.
إن هذا النظام الاقتصادي الذكوري الأبوي من منظور النيهوم يتيح للمرأة التسكع في الشوارع وارتداء ما تشاء حتى وإن كان ما ترتديه مخالفًا لمعايير النظام، كما في وسعها العمل في الجنس وأن تسعى وراء كل خاطرة تخطر في بالها، إلّا أن كل ما تصنعه في ظل ذات النظام لن يجعلها مساوية للرجل في المكانة، والنظام هذا رغم أنه لا يرى أي صواب فيما تعمل، إلّا أنه يعاملها كضالة بل ويتسامح معها أحيانًا كما يتسامح مع كائن ذا مرتبة أدنى عقليًا؛ ففي عصرنا لطالما تباعت تعليقات علنية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي مثل "ربّي يشفي ... اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا"، وأُضيف على صعيدٍ آخر حسب المستجدات التي أسقطت التسامح حتى إلى الضياع يقولون/ـنّ "جيبولها الردع !".
ويرسم النيهوم أولى خطوات قلب النظام في البدء ببواكير ما شُيّد منه، أي بمنظومة الزواج القائمة على تبادل الوصايا بين الذكور، بإبدالها بأخرى حرة قائمة على التفاهم والتوافق بين طرفيْ الزواج في علاقةٍ متكافئة تَرجع مسؤولية كل فرد فيها إلى نفسه المتمتعة بالاستقلالية لا المتّكلة الخاضعة؛ ثم تباعًا يأتي تكافؤ الأدوار الجندرية بدءًا من البيت بتبادل العمل والمسؤوليات داخل البيت بين الزوجين مناصفةً، ويأتي معه تفعيل دور الزوجة خارج البيت لتشترك مع الزوج في الإنفاق وباقي نواحي الحياة.
وعلى الرجل في هذا الصدد أن يترك المرأة وشأنها فحسب، أي ألّا يحملها على كتفيّه باسم الرعاية أو الحماية ذلك أنها ليست قاصرًا ليرعاها أو يحميها أحد، ليس من دوره أن يحتكرها داخل بيت يُغدقه بالطعام والصالونات المذهّبة ومواد التنظيف والعناية بالبشرة، ليس من شأنه أن يشرف على وصولها إلى الجامعة أو العمل وعودتها إلى البيت، فبوسعها رعاية نفسها والاعتماد الكلي على قدراتها لحماية مساحاتها الخاصة في عصرنا، والحماية التي يدّعيها الرجل هنا ممن يسمونهم كُثر "الذئاب البشرية" ليست في الواقع إلّا وهم، ذلك أن الذئب الحقيقي هو ذات الرجل المتطوع الذي يدّعي تبرعه بحماية المرأة فيما هو وحده من سيتكفل بالتهامها وانتزاع روحها لتغدو جسد خاضع بلا عقل ومقطوع اللسان.

من هو نيهوم ليبيا؟
الصادق رجب النيهوم هو مفكر وصحفي وكاتب ليبي وُلد في بنغازي عام 1937 وترعرع فيها حتى تخرجه من كلية الآداب والتربية قسم اللغة العربية عام 1961 ليخوض في رحلة بين الدول ناشرًا المعرفة وباحثًا عنها في ذات الآن، بعدما حمل معه هموم شعبه وتعلّقه بالكتب منذ سنين دراسته الأولى في "مدرسة الأمير" المرموقة ببنغازي وسطوعه ككاتب شعبي تداول الليبيون على نطاق واسع أفكاره الناقدة للمجتمع ونُخبه وثقافته التقليدية ، أفكاره التي كان يرقنها على عدة جرائد أولها جريدة بنغازي بين عاميْ 1958-1959 التي تلاحَق على شرائها القرّاء وحتى الأميون للتباهي بحملهم صفحات تحمل اسم النيهوم حسب تعبير الكاتب والصحفي أحمد الفيتوري ؛ وقد اشتهر بنقده الفكر الديني السائد ولاسيما المشرعن لسياسات الحكام والخادم لهم، علاوة على نظام الحكم القائم حينها وثقافة المجتمع الليبي، إضافة إلى انتقاده النظم القائمة حول العالم ولاسيما الرأسمالية، فضلًا عن نقده الأفكار والعادات الدينية المتوارثة بالتلقين في المجتمع الليبي، وكذا بتناوله أحداث التاريخ الإسلامي بعقلية نقدية تحليلية متعمّقة تروم إلى إحداث تغيير جذري لإصلاح الفكر الديني والواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمع الليبي وتراثه.