مُفرَدة (الحديد): تفسير جاء بالمُخزِيات!



ليندا كبرييل
2023 / 8 / 23

ملاحظة: المقال يتعلّق بالحلقة الماضية، أرجو العودة إليها لربط بعض الأحداث.


حدَّقت إقبال في وجه مليكة اليهوديَّة كأنها غير مصدِّقة ما تسمع، ثم صاحت:
ــ ما هذا يا مليكة؟ هل في لغتنا العربيّة المباركة مثال يدلّ على تحرُّش أخلاقيّ.. اِسمعوا! تقول إنه ينضح عنصريّة وتعسُّفاً، ويضرب بأكثر القيم الإنسانيّة عُرض الحائط!
قلتُ لإقبال:
ــ مليكة تناقش ما جاء في النظام النحويّ والمعجميّ لِلُّغة، وليس ما جاء في المقدَّس. دعونا نرى.. إنها الآن تبحث في دفترها عن الملاحظة التي تعتبرها أشدّ إهانة للمرأة، من شرحها قبل قليل عن ضوابط أسماء العلم (المَصادِر) الممنوعة من الصرف مثل (وداد . نجاح )، التي إنْ سُمِّيَتْ بها الإناث مُنِعَت من التنوين أي تأخذ حركة واحدة( الضم أو الفتح) ولا يدخلها الجرّ، وهي أسماء مُنصَرِفة إنْ سُمِّيَ بها الذكور، أي تَستَوفي الحركات الثلاث مع التنوين! *{المقال الماضي}
قالت تغريد:
ــ نعم! بالضبط كما قالت مليكة: هذه حبكة لغويّة فاسدة ولغة غير بريئة، تذكِّرنا بأحكام النساء على النصف من أحكام الرجال في الميراث والشهادة والديّة والعقيقة، وتُذكِّرنا أيضاً بالقاعدة المُتَحَكِّمة في حياة النساء: للذكر مثل حظّ الأنثيَين! *{المقال الماضي}
انتظرتْ تغريد أن تُبدي إحدانا رأيها، لكنها شعرت وكأننا لسنا معها؛ طغَى علينا الترقُّب لِما ستُفاجئنا به مليكة فانشغلنا عن النقاش.
قطعتْ زهرة حبال الصمت وهتفت:
ــ المثال عن (وداد ونجاح) فجٌّ حقاً، قِسمة ظالمة؛ يستبدُّ عالِم اللغة الرجل حتى في توزيع الحركات الإعرابيّة.
قالت شيماء:
ــ لا تُبالِغي وتَتَطَرَّفي في الرأي!
عاجلتْها زهرة بالردّ:
ــ لا مبالغة ولا مَن (يَحزَنَّ)؛ ثقافة المجتمع تنعكس في لغته وفي قواعد النحو والصرف التي وضعها الرجل.

رفعت مليكة رأسها ثم قالت مندهِشة:
ــ نسيتِ يا شيماء؟ أنتِ أيضاً كنتِ أوّل مَن احتجَّ واعترضَ وثار في درس (نعت جمع التكسير للمفرد المذكر غير العاقل) الذي يصبح مؤنَّثاً! ساءَكِ أن يقال: حمير شاردة، كتب متناثرة، جبال شاهقة!
ــ لم أكن أعلم تفسير القاعدة.
سألت إلهام:
ــ حقاً.. لماذا أحالوا جمع غير العاقل إلى المؤنّث؟
انتفضت شيماء وردَّتْ:
ــ كأنك يا شاطرة لم تسمعي ما قالته أستاذة اللغة العربيّة عن هذه المسألة.
قالت: يُعامل جمع التكسير معاملة المفرد المؤنّث؛ نقول كتب متناثرة، الأقلام مفقودة، الحمير شاردة؛ فالمعنى هنا =(مجموعة الكتب متناثرة وجماعة الحمير شاردة) فكلمة متناثرة أو شاردة تعود على لفظ (الجماعة أو المجموعة) وليس على الحمير أو الكتب.. التأنيث هنا لاعتبار معنى الجماعة أو المجموعة.
تابعت إسراء:
ــ وكذلك الأمر بالنسبة لجمع العاقل، هل نقول: هم رجال شجعان يدافعون عن الوطن؟ أم نقول: هي رجال شجاعة تدافع عن الوطن؟
القاعدة تقول: جمع التكسير للعاقل يجوز فيه التذكير ويجوز فيه التأنيث؛ فالجمع والتذكير يكون على معنى =(هم رجال شجعان)، والإفراد والتأنيث على معنى الجماعة =(هي جماعة الرجال شجاعة).
قاطعت زهرة شرح إقبال وقالت ساخرة مُستَخِفَّة:
ــ فماذا كان جواب الأستاذة عندما سألناها: هل نقول إذاً هي الرجال وهي النساء وهي الكلاب وهي الجبال؟
فقالت: تأنيث النساء هو تأنيث جمع، أما ما جرى على غير النساء فهو تأنيث ليس بحقيقيّ وإنما مجازيّ! لاحظوا الاحتيال على هذا الالتباس يا بنات هاهاها.. ثم تقول الأستاذة: و(هم) لا تكون إلا للعاقل. نقول هو رجل وهم الرجال، فإن قلنا: هي الرجال، جاز التأنيث لاعتبار معنى =(هي جماعة الرجال) هه!
كركرت سعاد في الضحك كعادتها وقالت:
ــ ثم تُنهي الأستاذة الدرس بالقول: (وليس على هذه الأحكام إجماع من النحاة) هههههه
طيب وماذا يفعل الطالب العربي الواقع بين شِقَّيْ الرَّحى؟ هل علينا أن ندرس كل هذه الآراء ثم نقول ليس عليها إجماع؟ هذه فوضى، خلطُ المؤنَّث بالمذكّر، والجمع بالمفرد، والعاقل بغير العاقل وبالجماد.... أليست مليكة على حقّ؟ ههههه

قالت كريستين:
ــ بلى.. اللغة العربيّة فيها سمات ذكوريّة واضحة، فلو كنا مجموعة من مئة طالبة فسيكون الحديث (عَنهُنَّ)، فإذا انضمّ إلينا طالب واحد فسيكون الحديث (عنهم). يُغلِّب النُحاة التذكير على التأنيث في حالة اجتماع الذكور والإناث حتى لو كان الذكر واحداً.
ردّت شيماء:
ــ طبعاً! التذكير أصلٌ والتأنيث فرعٌ. منذ بدء الخليقة خلق الله آدم أولاً ثم خلق من ضلعه حواء؛ متى..
قاطعتها سعاد:
ــ لم يثبت حديث صريح أو آية في خلق حوّاء من ضلع آدم، هذا أمر مختلَف عليه، عندما يعجزون عن تعليل التضارُب والمسائل الغامضة يبرِّرون اللامعقول بطريقة مضحكة ثم يقولون: والله أعلم! وكذلك الأمر في معظم مسائل الفقه وقواعد النحو والصرف، ومنها نعت جمع التكسير لغير العاقل حديثنا الآن.
أردفت شيماء:
ــ على كل حال، متى اجتمع المذكّر والمؤنَّث غلبَ التذكير.. قاعدة معروفة. وقد انعقد الإجماع على أنّ النساء يدخُلنَ في الصيغة الخاصّة بالذكور في الخطاب والكلام.
لم تستطع سعاد كَظم غيظها، فقالت مُستاءة:
ــ يا سلام~ أي منطق غريب هذا الذي يَمحو وجود مئة طالبة لصالح فردٍ واحد بناء على جنسه!!

ــ وجدتُها. صاحت مليكة.
سرى الهمس بين الرفيقات. ثم اتجهت الأنظار إليها وكلنا آذان صاغية.
ردَّدت مليكة وهي تبحث عن الملاحظة:
ــ حديد حديد حديد.. ها~ هذه هي الكلمة.
اسمعوا يا بنات. شاركتُ منذ فترة في الحلقة الأولى من المحاضرة المُعلَن عنها في جريدة المدرسة عن تاريخ اللغات، في المركز الثقافيّ، ألقاها أستاذ مُتخَصِّص في الدراسات اللغويّة. وكان بين الحضور عدد من الأجانب المُهتمّين باللغة العربيّة؛ وبالمناسبة يتكلمون الفصحى بطلاقة يخجل أمامهم الطالب العربيّ من لغته الركيكة.
المهم وَجَّهَ أجنبيٌّ سؤالاً للأستاذ المحاضر: ألا يَعتبِر تفسير مفردة (الحديد) عنصريّاً وتمييزاً تجاه المرأة؟
سجّلتُ ما كتبَ المحاضِر على السبورة من شرح وها أنذا أقرؤه عليكم:

الحديد : معدِنٌ يُعرَف الصلب منه ب( الذَّكَر أو الذكير )، وهو خلاف ( الأنثى أو الأنيث ).
حديد ذَكَر : هو أيْبَسُ الحديد وأجْوده.
حديد أنثى : هو حديد ليّنٌ رَخوٌ غير صُلبٍ.
سيف فولاذ : إن كان من حديد ذكر.
سيف أنيث : إن كانت حديدته أنثى وليس بِقاطع.
الأنثى خِلاف الذكر من كلّ شيء. ويقال أنثى لِمَا يضعف عمله.
كما نجد ذات المصطلحين (حديد ذكر وأنثى) في الصين.

هتف الأجنبي:
ــ أيبَسُ الحديد يُعرف بالذكير أو الذكر!
والرخو الليّن من الحديد يُعرف بالأنيث أو الأنثى!
هذه الألفاظ مستعملة في العرف العربي حتى وقتنا الحاضر، كما قال لي ضاحكاً بائع تجهيزات أنابيب الحديد. وسؤالي: اللغة العربيّة غنيَّة جداً بمفرداتها، فهل عجزتْ عن إيجاد مفردة لِوَصف الحديد إلا بالأنثى والذكر؟!
أجاب الأستاذ بهدوء:
ــ المراد من الأنثى ليس هو المعنى المقابل للذكر من العاقل، وإنما الضعف وعدم القدرة.
استفزَّ الأجنبيُّ الأستاذَ بسؤاله:
ــ المعلوم أن العلاقة وثيقة بين اللغة وبين ما يجيش في النفس الإنسانيّة من انفعالات وسلوكيّات.. تُرى، ألم يكن في مقدور اللغويّين أن يختاروا صياغة لغويّة مُحايِدة لا تنطوي على تحيُّز جنسيّ ضد المرأة؟
أجاب الأستاذ بحزم:
ــ كما أجبتُك هذه ألفاظ توضِّح الفروق في المادة المُباعة ولا يُقصَد منها الفروق بين الرجل والمرأة. وكما ذكرتُ كلمة أنثى تقال لِما يضعف عمله.
ــ لكن ربط اليُبوسة والصلابة والجودة بلفظ (ذكر أو ذكير)، وربط الليونة والرخاوة والضعف بلفظ (أنثى أو أنيث)، يوحي بِمعنى غريزيّ حسيّ عنصريّ وبانطِواء هذه المفردات على معانٍ تتجاوز المدلول الظاهريّ، إلى التركيز على الاستعلاء في موقف الرجل العربي من المرأة، والانتقاص من كرامتها. هذه المفردات ألصقتْ الضعف والرخاوة بكلمة (أنثى) التي يتبادر إلى الذهن فوراً أن المعنيَّ بها المرأة، ألا ترى أنها لا تخدم قضية المساواة وإزالة الفروق التمييزيّة بين المرأة والرجل؟
انفعل الأستاذ المُحاضر وأجاب:
ــ سُمِّيت المرأة بالأنثى لأنها تتَّسِم بالليونة والضعف الجسديّ، والحكمة تقتضي التفريق بين الجنسين؛ إذا كانت المرأة تختلف عن الرجل في بنيتها وتكوينها فكيف تتساوى معه في الحقوق وفي اللغة؟ مستحيل. على كل حال سؤالك خارج موضوع المحاضرة. انتهى.

سألتنا مليكة:
ــ ما رأيكم؟
خيَّم الصمت علينا.. اِحمَرَّ وجه ابتهال غضباً ثم صاحت:
ــ هذا شرح يعبّر عن ضَحالة إنسانيّة.

بيننا وبين ابتهال بون شاسع؛ هل يُقارَن مَن يقرأ قصص المغامرين الخمسة وعقله مع تختخ وعاطف ونوسة بِمَن يقرأ دوبوفوار وماركس وأنجلز؟ ابتهال المثقَّفة التي تَرَبَّت على أيادي أفراد عائلتها المعروفة بتوجُّهاتها الماركسيّة، تمتلك كاريزما القادة، تثير الحماسة، تنقِّب عن الثغرات، لا تُحجِم عن إعلان رأيها بوضوح.
وقفت وقالت:
ــ أين أنتَ يا فرويد؟! هذا شرح مُخزٍ مُهين، يحتاج إلى عمليّة الحفر اللغويّ والتاريخيّ، لِيكشف لنا ما يجول في العقل العربيّ التراثيّ من نزعات شبقيّة باطنيّة تكمن وراء هذا التفسير، تمتدّ من عمق الماضي وإلى اليوم وستتوارثها الأرحام المستقبليّة البعيدة، تبدو غائرة في نفسيّة الرجل المُصاب بمراهقة مزمنة.. لكن المعاجم رَصَدَتْها واللغة المُتداولة يومياً تفصح عنها.
أردفت تغريد:
ــ لا أعرف تراثاً عينه لبَرّا ونفسه خَضرا وهَمُّه المَرَة كتراثنا! استنبط القدماء أحكاماً تتعلق بالنساء أضاف إليها فقهاء سفهاء على مرِّ الأزمنة اختلافات من بنات أفكارهم في كتب...
قاطعتها سعاد ضاحكة:
ــ ولماذا بنات أفكارهم؟ قولي الصبيان الأشقياء لأفكارهم.
ــ نعم أنتِ على صواب. أحكام وتفسيرات القنّاصة، يَدَّعون أنها وُجِدَت لتكريم الحريم وتعظيمه، وما هي إلا لِتحريم الحريم وتقزيمه.

أغلقت مليكة دفترها وهي تقول:
ــ بقي أن أضيف إلى معلوماتكم: عبارة (بنات الدهر) تعني: الشدائد، الكوارث، الدواهي، المصائب. البنات تحديداً.. لا الصبيان ولا الرجال.
قالت سعاد:
ــ نحن هنا في أعلى درجات الفلسفة والوعي.
التفتت الوجوه إلى سعاد مُندَهِشة فاغِرة الأفواه.. فسارعت لتقول ضاحكةً:
ــ طوِّلوا بالكم ههههه أقصد أعلى درجات الهذيان الثقافيّ. هذا تبخيس مُدَبَّر للمرأة.
وجّهت تغريد تحيّة إلى سعاد وتابعت:
ــ هكذا تتشارك مؤسَّستا السلطة الحاكمة والدينيّة بوظيفة مُتكاملة، لِيعمد عالم اللغة والنحو إلى تأسيس نظام معرفيّ مُعَبَّأ بكل ما يكبِّل العقل، يُعَمِّق المواقف التمييزيّة وأخلاق الاستعلاء السائدة.

خاطبت مليكة اليهوديّة إسراء التي تعمد دوماً إلى إهانتها:
ــ إسراء! أتمنى أن أسمع رأيك.
تَنَحنَحَت إسراء ثم قالت:
ــ كل الثقافات القديمة عمدت إلى تبخيس قدر المرأة. وكلمة للحق: لغتنا ليست منصِفة للمرأة، ونحن في حاجة إلى تجديد الفكر قبل أن نجدِّد اللغة، فالمجتمعات المتقدِّمة التي أصبحت تعترف بمكانة المرأة، وتسعى إلى تحقيق مساواتها بالرجل، بدأتْ تتخلّص من الألفاظ والأحكام الظالمة. هذه اللغة التمييزيّة لن تندثر بسهولة، فهي ترتبط بطقوس وتقاليد اجتماعيّة تدعمها وتحميها.
خرجت الأصوات تهنِّئ إسراء على رأيها السديد. ابتسمت إسراء في خجل وقالت:
ــ الحق يعلو ولا يُعلَى عليه!