ما بين الجهاد والأجر , كيف يثمن الرجال الشيعة العمل المنزلي؟



منال حميد غانم
2023 / 9 / 4

( طلعت تعرف تسوي كلشي عليمن بالبيت تصير عاجز؟ ) هكذا عبرت احدى الصديقات المتزوجات حديثا عند مشاهدتها زوجها يطهو بحماس في أحد المواكب الحسينية لتضعه في صورة استغرابها لرفض العمل المنزلي من قبل الرجال رفضا مرتبطا بحضور النساء مرة ولأنه غير مقيم اجتماعيا او اقتصاديا مرة أخرى ليكون التساؤل : ماذا لو كان مقيّم اخرويا فمن سيلتحق به أولا ؟
على الشارع الفاصل بين محافظتي النجف وكربلاء وعلى الجانب الايمن تصطف مواكب حسينية عدة, سابقا كانت جدا قليلة وتسمى بالحسينيات او الاستراحات لا يمكن تقريب صورتها وآلية عملها لغير المطلع سوى انها عبارة عن مجموعة فنادق متراصة بتقييم نجمتين او ثلاث تقدم خدمات مجانية من مبيت وأطعام وخدمات نظافة وحتى خدمات طبية , و وجدت من حيث الاصل لتقدم تلك الخدمات لا غير وفي العادة لا تجري فيها اي مناقشات ولا تجمعات من اي نوع الا تلك التي تخدم الغرض من وجودها وهو تقديم بيئة مريحة لشخص يسافر بين مدن عدة مشياً على الاقدام .
فتجد من يعتنون بالمرضى لدرجة التدليك لإزالة التشنجات ومن يصنعون المشروبات بمنتهى السلاسة ومن ويجمعون الاغطية والفرش ويرتبونها بعد الاستيقاظ ويكنسون ويمسحون, ويغسلون القدور الكبيرة ويعيدون صيانة ادوات الطبخ ويملئون مبردات الهواء بالماء وبرادات المياه بالماء البارد وبسرعة تتناسب مع الطلب السريع .
ولا يمثل طهو الطعام سوى خدمة واحدة من مجموعة خدمات ولكنها الأهم , كونها تتطلب مستوى مهارة متوسط الى ممتاز, وتواجد طوال اليوم لتقديم الطعام وليس ثلاث وجبات فحسب , فالوجبات التي تقدم هي وجبات قليلة من حيث الكمية ولكن متنوعة وكثيرة التقديم طوال اليوم , ولا يظهر للواجهة كطهاة سوى الرجال , بمناظر عدة توحي للعابر امامهم ان من يطهوا كان يمتهن هذه المهنة في حياته اليومية وليست مجرد ظرف استثنائي او انه يطهوا في بيته ولأعداد ليست قليلة حتى يبدو بتلك المهارة .
عند واجهة احد المواكب يقف رجل شاب يبدو في اواخر عشريناته على طاولة ليحضر ساندويشات الشاورما وسيجارته بين شفتيه بينما تواصل مجموعة اخرى من الرجال في الاجزاء الخلفية من الموكب التقطيع السريع للخضروات لعمل السلطة , واخر يقلي الكباب بمقلاة كبيرة على نار مستعرة بمنتهى الهدوء بدون تشنج او تأفف او صياح بلا مبرر واخر يصنع حلوى مكونة من طبقات من الكاسترد والجلي والبسكويت المسحوق مقدمة في علب صغيرة , اكلات تعتبر معقدة من منظورنا نحن كنساء ليطهوها رجل لكنهم يفعلوها أمامنا الان .
واخرون يتعاونون معاً لخبز مئات الأرغفة مراعين ألا تسقط واحدة في قاع التنور لتعتبر هدرا في مال تم تجميعه من جميع من يعملون في هذا الموكب لسنة منصرمة . في هذه المواكب هناك نساء لاشك وهي تشكل عمالة لا يستهان بها لكن ليست في مجال الطهي بشكل جوهري او بطهي الوجبة الرئيسية على الاقل فتختص بتقديم المجاملات وتوفير الراحة للمشاة في المهاجع او لتقديم الطعام داخل قاعات النساء وتنظيفها.
تشعر لوهلة انك امام مؤسسة أقتصادية خدمية ضخمة تحوي عمالة متنوعة تقدم خدمات مختلفة من رأس مال مصدره محدد وواضح ومقداره جلي للجميع بطريقة تسترعي المحافظة عليه, ليغطي كل الايام التي تم تحديدها مسبقا لتقديم الخدمة للمشاة من الرجال والنساء معا بلا اي تردد بان هناك طعام سيتم طهيه من قبل رجال وسييتم تقديمه وهم حانين رؤسهم الى نساء أيضا .
لا ينقص هذه المؤسسة سوى متابعة الاجر الذي يقدم كنظير لتلك الخدمات .
بالنظر الى العلاقة بين الرجال والنساء بمناسبة الطبخ تلك ترى الحاجة الى تفكيك العلاقة الجندرية بينهما , فالتوقعات بسبب تلك المناسبة قد اختلفت , فما معروف عن النساء انهن يتقن الطبخ كأهم مهارة لإنجاح العلاقة بينها وبين الرجل فأقصر طريق لقلب الرجل معدته , والمتوقع من الرجل ان يجلب الطعام وينتظر طهيه وتقديمه من قبل النساء . بينما في تلك المناسبة يحدث العكس تماما لكن بدون ان يأثر على طبيعة الأدوار او التوقعات المناطة للنساء بعد جلاء الشهرين وهما موسم تقديم الطعام , فترجع النساء بعدها الى ممارسة دورهن النمطي ويرجع الرجال لا يحركون ساكن في البيت أو المطبخ وترجع متلازمة الطبخ التي تربط بين حضور النساء وتقديم الطعام , فأينما يتواجدن يتوقف الرجال عن الطهي والعكس تماما يحدث مرة في السنة , فعلى الرغم من وجود النساء لكن الرجال يستقتلون على الطهي . تقول ز. ن " ادهشني بقدرته على فعل كل شيء كان يتقاعس عن عمله في منزلنا عندما شاهدته يطبخ بمهارة في موكب العائلة وعندما مازحته قائلة( طلعت تعرف تسوي كلشي عليمن بالبيت تصير عاجز؟)" قال لي بأنه لايخفي طمعه بالحصول على الأجر من الامام الحسين ولكن في البيت لماذا يعمل ؟ هل سأمنحه اجراً؟
يقدمون الطعام دون ان يتم وصمهم بالمخنث او وصلة مسح او غيرها من الاوصاف التي تلصق بالرجل الذي يطهو ويقوم بالأعمال المنزلية داخل منزله ولصالح عائلته وليس الأغراب
تنظر صديقتي س. ل لهم فتقول متعجبة ( أنهم يستطيعون ) اذن لماذا يشكون عدم معرفتهم او اتقانهم لتلك الاعمال في منازلهم او ان النساء تجيدها اكثر منهم؟ ها انا ذا أراهم يجمعون بين الدقة والمهارة والكفاءة وضبط الوقت لتقديم كل تلك الوجبات بأنسيابية عالية ؟
انه الأجر يا سادة, فالأجر هنا هو عبارة عن مكانة اجتماعية وتحقيق لرغبة الظهور كفاعل لولبي مهم , وجزء من الترويح للرجال رغم مشقته , ففي هذه المدن لا توجد مصادر ترفيه بالمعنى الحرفي, لا تخييم لا مارثونات و لا مسابقات , لا رحلات ذات انشطة متنوعة وغير مكلفة , لا حفلات , لا مهرجانات تراثية اوعالمية , غنائية او فنية او ادبية أو رياضية , لا طبيعة ولا طقس جاذب , لا يوجد سوى الحزن وعبره يدأنا باستكشاف قدرتنا على صنع حالة من الترفيه من عمق المشقة فتجدهم بين قدور الطبخ يهوّسون الهوسات العشائرية مع ضحكات او ابتسامات تظهر كل الاسنان فيها . وهناك جانب تثمين لعملهم لكن من نوع اخر فجميعهم متفقين على انهم يقدمون تلك الخدمات مقابله لدرجة ان احد المواكب الحسينية في محافظة القادسية مثلا انفق 100 مليون تم ادخارها خلال سنة ليتم تحويلها الى طعام خلال 6 أيام وهو " الاجر الاخروي" والحصول على رضا الامام الحسين وشفاعته لتخليصهم من ذنوبهم بمحيها من خلال تلك الخدمة . انها الفرصة لأظهار المكانة والسلطة والطبقة الاجتماعية.
ان الطعام بشكل اساسي مرتبط بحاجة الانسان للغذاء ولكن تحضيره ارتبط بجنس الشخص اي النساء وكأنهن يمتلكن جينات وقابليات تمكنهن من اعداد الطعام غير موجودة لدى الرجال وما تلك المناسبات الدينية الا فضح لزيف هذا الادعاء.
ان ادعاء عدم القدرة على الطهو كان مبرر لعديد حالات العنف والهجر والغضب على النساء , لكن الحقيقة العملية تثبت ان السبب الحقيقي هو عدم تثمين الطهو بأجر مادي او معنوي او اخروي حتى, هو السبب بدونيته وألحاقه بالنساء دون الرجال لأنه لا يتناسب والمكانة الاجتماعية التي وضعوها لأنفسهم كذوات فاعلة في قمة الهرم الاجتماعي .
في طفولتي كنت اعيش مع زوجات رجال الدين وكن يخففن عن انفسهن مشقة الطهي في ظل الجو الحار على انه جهاد النساء ف بيوتهن وأن لهن اجر عند الله في غاية العظمة وكنت أتساءل لماذا لا يطمع الرجال بهذا الأجر العظيم ؟ على الرغم من انهم يعدون الطهي او العمل المنزلي اجمالا من المهام السهلة ويغضبون لتململ النساء منها فهن ينجزنها في داخل المنزل ولا يواجهن مدير متعنت ولا الحر اللاهب تحت اشعة الشمس , لكنهم مع ذلك لا يشاركون في هذا الجهاد البسيط ولا يطمعون به رغم اجره " العظيم ".
وعلى الرغم من أتقانهن لفن الأطعام لعشرات الاشخاص واعتبار العمل هذا "جهاد" لكن لا يقربون النساء منه, للأستحواذ على المكانة الاجتماعية , التي تظهرهم رجال اشداء على حر الصيف والنار المستعرة تحت القدور لا لشيء بل لمجرد خدمة المشاة من زائري الحسين .
في مقاربتنا النسوية لتفكيك استثنائية قيام الرجال بواحدة من اهم الاعمال المنزلية التي تقوم بها النساء والتي بانعدامها لدى احداهن لا تعد مقبولة بين النساء ومحط سخرية اذا لم تتقنها او اعتبارها غير مؤهلة للدخول الى مؤسسة الزواج بسبب نمطية ايكال تلك المهمة للنساء وفي ظل طقس آخذ بالأستعار وليس الارتفاع في درجة الحرارة تظهر الضرورة لتثمين العمل المنزلي , لا تكريسه عبر سردية "جهادية" النساء وأجروهن المحفوظة بالسماء ولا الطلب بمشاركة الرجال في الأعمال المنزلية وكأنها منتهى مطالبنا , بل انتزاع الأموال التي يوفرها العمل المنزلي للرأسمالية من خلال عدم احتسابه كعمل من الاصل , لأن احتسابه يقتضي تسعيره ويلزم الدولة المعترفة به بتوفير اجور للعاملين والعاملات به .
ان الاجهاد الحراري الذي تتعرض له النساء بشكل يومي جراء العمل المنزلي غير مدفوع الأجر او صيرورته سبباً لعديد العلل التي تصيبهن يجعلنا في حالة تحشيد عالي الجودة من اجل تثمينه .
الرأسمالية تبتلع 11 تريليون دولار سنويا اي ما يعادل القطاع المصرفي والتأميني في سويسرا وقطاع التكنولوجيا في العالم بسبب مجانية مجمل الاعمال التي تقوم بها النساء في المنزل لا الطهو فحسب . ليقدمن اعمالاً قسرية مجمّلة بالدين والاخلاق وبظل ظروف منزلية قاسية, فقليلة تلك المطابخ التي تتواجد فيها فسحة تهوية جيدة او ساحبات الهواء او مروحة او جهاز تبريد , تستنشق النساء الهواء الرديء لما لا يقل عن ثلاث ساعات يوميا اذا دخلت المطبخ لتطهوا فقط لا لتغسل صحون او تغسل الملابس, ويصبن بصداع او توتر او تشنجات نتيجة لذلك .
ان مشاركة الرجال والنساء بهذا البؤس ليس هو الغاية بحد ذاتها بل خطوات من اجل الاعتراف لا اعادة توزيع الادوار لمجرد التوزيع . فوجود رجال مشاركين بالعمل المنزلي يعني ادراك افضل لقساوته والوقت الازم لإنجازه وضرورته, وتقديرهم لمجهود النساء اليومي سيدفعهم كجبهتين بمواجهة جبهة واحدة ( النظام الاقتصادي الرأسمالي )من اجل تثمينه من قبل الدولة لا جبهتين متحاربة لا تضر النظام بشيء. نظام اقتصادي يستخدم الرجال والنساء معا ليتوحش اكثر وليزداد ضخامة ويوهِم الرجال انهم المنتفعون الأوائل منه من خلال رمي فتات معنوي عبر تمكينهم لإظهار السلطة والمكانة .